هناكَ فرقٌ بينَ القرآنِ كنصٍّ موحى منَ اللهِ وبينَ معارفِ القرآنِ، فالقرآنُ بما هوَ وحيٌ لابدَّ أن يكونَ ثابتاً ولا يمكنُ أن يشملَه التّغيّرُ بأيّ شكلٍ منَ الأشكالِ، أمّا معارفُ القرآنِ وفهمُ الإنسانِ لتلكَ النّصوصِ القرآنيّةِ، لابدَّ أن تحتوي نصوصُه على معارفَ متوافقةٍ معَ طبيعةِ المعرفةِ الإنسانيّةِ بوصفِه خطاباً للإنسانِ، وقد أمرَ القرآنُ بالعقلِ والتّعقّلِ في إشارةٍ واضحةٍ إلى أنَّ القرآنَ لا يُؤسّسُ لنمطٍ جديدٍ في المعرفةِ غيرَ الذي إعتادَ عليهِ الإنسانُ، ومنَ المعلومِ أنَّ العقلَ في مقاربتِه للأشياءِ ينطلقُ منَ الثوابتِ لضبطِ حركةِ المُتغيّراتِ، وعليهِ إذا كانَ القرآنُ يمثّلُ مرجعاً دائماً للعقلِ وفي كلِّ زمانٍ فحينَها لابدَّ أن يشتملَ القرآنُ على مجموعةٍ منَ الثّوابتِ التي تمكّنُ العقلَ منَ القيامِ بوظيفتِه.
تحديدُ الثوابتِ وتمييزُها عنِ المُتغيّراتِ شكّلَ مساحةَ جدلٍ واسعةً في الوسطِ الإسلاميّ، ولا يمكنُ حسمُ ما فيها مِن نقاشاتٍ في هذهِ الإجابةِ العاجلةِ، وما يمكنُ أن نؤكّدَ عليهِ هُنا هوَ أنَّ وصفَ المعرفةِ بكونِها ثابتةً لا يكونُ إلّا في ثلاثِ أبعادٍ فقط. البُعدُ الأوّلُ: المعارفُ الكاشفةُ عنِ الحقائقِ الثابتةِ، وهذهِ المعارفُ لابدَّ أن تكونَ ثابتةً بثباتِ تلكَ الحقائقِ، والمقصودُ هوَ الحقائقُ الكاشفةُ عنِ الرّؤيةِ الكونيّةِ وفلسفةِ الوجودِ، وهيَ ما نصطلحُ عليه إسلاميّاً بالمنظومةِ العقائديّةِ التي تُفسّرُ نظامَ الخلقِ والإيجادِ، وعلاقةَ الغيبِ بالشّهودِ، ورسالةَ الإنسانِ في الحياةِ، وما ينتظرُ الإنسانَ بعدَ الموتِ وما هوَ مصيرُه الأبديّ؟ كلُّ ذلكَ يُمثّلُ معارفَ واقعيّةً لا يمكنُ أن يطرأ عليها التّغييرُ والتّبدّلُ بوصفِها كاشفةً عن واقعٍ ثابت. والثاني: الأحكامُ الشّرعيّةُ والعباديّةُ بوصفِها موضوعاتٍ شرعيّةً غيرَ خاضعةٍ للتبدّلاتِ الظرفيّةِ، فتظلُّ ثابتةً بثباتِ الإعتبارِ الشرعيّ لموضوعاتِها، فمثلاً موضوعُ الصّلاةِ هوَ نفسُ هيئةِ الصّلاةِ ووجوبُها مُعلّقٌ بتلكَ الهيئة ِلا بهيئةٍ أخرى، ومِن هُنا لا يمكنُ التصرّفُ فيها بالزّيادةِ أو النّقصانِ أو التّبديل.
الثالثُ: القيمُ الأخلاقيّةُ بوصفِها مرجعاً ثابِتاً للسّلوكِ الإنسانيّ، فمنَ المعلومِ أنَّ سلوكَ الإنسانِ منفعلٌ بالظّرفِ والمحيطِ الذي يعيشُ فيه، إلّا أنّهُ سلوكٌ منضبطٌ بتلكَ القيمِ الكُبرى بوصفِها مقاصدَ وأهدافاً لذلكَ السّلوكِ، وإذا رجعنا للقرآنِ نجدُه قائماً على التأكيدِ على تلكَ القيمِ مثلَ العلمِ والرّحمةِ والعدلِ والإحسانِ والمودّةِ وغيرها منَ القيمِ التي تُحقّقُ تكاملَ الإنسانِ المعنويَّ، وتستمدُّ هذهِ القيمُ إطلاقيّتَها مِن أسماءِ اللهِ الحُسنى التي هيَ أصولُ العلمِ وجوامعُ الكلم وجوهرُ الحِكمةِ، فكلُّ إسمٍ مِن هذهِ الأسماءِ يُمثّلُ قيمةً أخلاقيّةً يجبُ أن يتحلّى بها المؤمنُ، وهيَ بطبعِها قيمٌ ثابتةٌ جازمةٌ لا تقبلُ التغييرَ والتّحوّلَ، والإنسانُ في تكاملِه السّلوكيّ يرتقي عبرَ هذهِ القيمِ حتّى يُجسّدَ تلكَ الأسماء، فيصبحُ بذلكَ عالماً، قادراً، رحيماً، قويّاً، شاكراً، حكيماً، عزيزاً، غفوراً، ودوداً، توّاباً، برّاً، لطيفاً، حليماً، رؤوفاً، عفوّاً، جميلاً، مسبّحاً، سيّداً، طيّباً، معطاءً، عدلاً، غنيّاً، محسناً، وهّاباً، كريماً، جواداً، رزّاقاً، متفضّلاً، حفيظاً، خبيراً، صانعاً، حامداً، وبهذا الشكلِ يكونُ قد تقرّبَ للهِ بأسمائِه الحُسنى ويكونُ قد حقّقَ قولَه تعالى: (وَللهِ الأَسماءُ الحُسنى فَادعُوهُ بِها).
وإذا إتّضحَ لنا الإطارُ الذي تتحرّكُ فيهِ الثّوابتُ علِمنا أنَّ المُتغيّرَ هوَ الذي يُمثّلُ أمراً وقتيّاً محكوماً بظرفِه، فلا يعكسُ رؤيةً عقائديّةً، ولا يؤسّسُ حكماً عباديّاً، ولا يمثّلُ قيمةً أخلاقيّةً ثابتةً، وتأتي المُتغيّراتُ في النّصِّ القرآنيّ كنماذجَ تطبيقيّةٍ للقيمِ الكُلّيّةِ، فمثلاً إذا تحدّثَ القرآنُ عنِ الوفاءِ بالكيلِ والميزانِ في قولِه تعالى: (وَأَوفُوا الكَيلَ إِذا كِلتُم وَزِنُوا بِالقِسطَاسِ المُستَقِيمِ) علِمنا أنَّ الثّابتَ هوَ العدلُ أمّا الكيلُ والميزانُ كأدواتٍ للتّبادلِ التّجاريّ متغيّرةٌ، وعليهِ إذا إكتشفنا أدواتٍ جديدةً لقياسِ التّبادلاتِ التّجاريّةِ يجبُ أن نراعي فيها قيمةَ العدلِ، وعليهِ كلُّ ما هوَ رهنُ ظرفِه الزّمنيّ يُعدُّ أمراً متغيّراً.
اترك تعليق