معتصم السيد أحمد
مقدمة:
من الضروري التأكيد على الفرق بين إدراك الإنسان للحقائق الحسية، وبين إدراكه للحقائق الغيبية أو الغائبة[1]، ففي الأولى يكون الإدراك قائم على الإحاطة علماً بتفاصيل الموضوعات، في حين أن الثانية يتم إدراكها في الجملة أي أثباتها من دون الوقوف على تفاصيلها وحيثياتها، والسبب في ذلك أن الإنسان لا يمتلك الأدوات المعرفية التي تمكنه من الإحاطة علماً بالحقائق الغيبية، فما يكون غائباً عن الأدوات الحسية سوى بنفسه، أو كان مغيباً بسبب خارجي، فأنه لا طريق إلى معرفته إلا من خلال الاخبار عنه، وعندها يكون العلم به في الجملة وليس بالجملة، فمثلاً الإيمان بوجود الله والملائكة والجنة والنار وغير ذلك يكون من خلال اثباتها دون الإحاطة التفصيلية، وهكذا حال الحقائق الحسية المغيبة عن أدوات الحس فعندما يخبر عنها فانه لا يتمكن إلا من أثبات وجودها دون الوقوف على تفاصيلها وحيثياتها.
وإذا اتضح ذلك يمكننا الوقوف على الحدود المعرفية التي نتعامل بها مع هذه القضية، فالثابت بالضرورة أن الامام المهدي هو محمد بن الحسن العسكر (عليهما السلام) وأنه ولد في سامراء سنة 255هـ وأنه غائب عن الأنظار إلى أن يأذن الله له بالظهور ليملا الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مليت ظلماً وجوراً، أما تفاصيل حياته أو الادوار التي يؤديها أو وكيفية غيبته؟ أو غير ذلك من الأسئلة التفصيلية فإنها خارجة عن قدرتنا المعرفية ولا سبيل إلى معرفتها إلا بمقدار ما اخبرت به الروايات، ومن هنا نؤكد أن كيفية احتجاب الامام المهدي (عليه السلام) عن الناس لا يمكن الوقوف على تفاصيلها بشكل جازم، فلا يمكننا الجزم بأنه (محتجب بشخصه) فيرى الناس ولا تراه، أو أن المحتجب عنا هو (عنوان كونه المهدي) فيراه الجميع ولا يعرفون كونه الإمام، والسبب في ذلك أن هذه القضية من الأمور الخارجة عن حدود إدراكنا الحسي، وكل ما بين أيدينا بعض الاخبار التي لا تمكننا من الجزم القاطع بأحدهما، وبذلك نؤكد أن المسألة خاضعة للاجتهاد في تلك الاخبار دون الادعاء بإصابة ما هو حقيقة وواقع.
وسوف نقوم في هذا المقال بطرح كلا الاجتهادين ومبررات كليهما، ونترك التقييم للقاري.
النظرية الأول: احتجاب الإمام بشخصه
النظرية الأولى تتبنى كون الإمام محتجب عن الخلق بشخصه، أي أن الامام يرى الناس دون أن يتمكنوا من رؤيته، فحتى لو كان موجوداً في مكان فان الناس يرون المكان خالياً، ومن الواضح أن هذه النظرية - بعيداً عن صحتها - تقدم الحل الأمثل في الاختفاء والاحتجاب عن الناس، فمن تكون عنده هذه القدرة في التخفي لا يمكن الوصول إليه ولا يمكن ملاحقته، وعليه يكون اختفاء الامام المهدي (عليه السلام) وفقاً لهذه النظرية قائم على الاعجاز ولا علاقة له بالشروط الطبيعة للاختفاء، وفي نفس الوقت لا تمنع هذه النظرية من كون الامام قد يظهر بشخصه للبعض إذا اقتضت الضرورة ذلك، وقد استندت هذه النظرية على ظواهر بعض النصوص، مثل ما أخرج الصدوق في إكمال الدين بإسناده عن الريان بن الصلت، قال: سمعتُه يقول: سُئل أبو الحسن الرضا (عليه السّلام) عن القائم (عليه السّلام)، فقال: (لا يُرى جسمه، ولا يُسمّى باسمه). وأخرج بإسناده عن الصادق جعفر بن محمّد (عليه السّلام): قال: (الخامس مِن وُلْد السابع يغيب عنكم شخصه، ولا يحلّ لكم تسميتُه). وأخرج أيضاً بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول: (يفقد الناس أمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه).[2]
ولا يمكن نفي هذه النظرية لوجود بعض الشواهد التي تدلل عليها، كما أن مهمة الامام المهدي (عليه السلام) قد تقتضي هذا النوع من الاختفاء، مضافاً إلى قدرة الامام على ذلك بما عنده من سلطة وولاية تكوينية. وفي نفس الوقت لا يمكن الادعاء بشكل قطعي بانها الوسيلة الوحيدة والمتبعة من قبل الإمام فلا سبيل امامنا للقطع بذلك، فالروايات التي ذكرناها كشواهد على هذه النظرية قد يناقش في دلالتها، فمثلاً قول الامام (لا يُرى جسمه) قد يكون منظور الإمام هو تأكيد حدوث الغيبة وليس منظوره الحديث عن كيفية حدوث الغيبة، أي أن هم الامام هو توجيه الأمة إلى مرحلة يكون فيها الامام غير ظاهر للشيعة، وليس همه اخبارهم عن الطريقة التي يختفي فيها الإمام المهدي، فنحمل الحديث على هذا المعنى، فقوله: (لا يرى جسمه) لا يعني أن الامام أراد أن يبين أمراً اعجازياً للإمام المهدي وهو عدم امكانية رؤية جسمه حتى لو كان امام الناظر، وإنما يعني كون الشيعة لا يمكنهم التعامل المباشر معه كما هو حالهم مع بقية الائمة. وكذلك الحال في قول الأمام: (يغيب عنكم شخصه) فإنها ظاهرة في عدم حدوث التواصل المباشر مع الامام، وليست ناظرة إلى كيفية حدوث ذلك. وقد يكون قول الامام (فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه) من أكثر الشواهد التي يمكن الاستدلال بها على هذه النظرية إلا أنها ايضاً قابلة للتأويل والمناقشة، حيث يمكن أن تحمل على عدم معرفتهم كونه الامام المهدي، أي يرونه بالعين ولكن لا يعرفون أنه صاحب الأمر؛ وذلك لكون المعرفة هي المقصودة وليس مجرد حدوث الرؤية، وبعيداً عن صحة هذه المناقشات أو عدم صحتها إلا أنها تكفي في عدم الجزم بان اختفاء الشخص هي النظرية الوحيدة والقطعية.
ومن الشواهد التي تدلل على هذه النظرية هي القصص الكثيرة التي تؤكد رؤية الامام المهدي من بعض الثقاة والعلماء ومن ثم اختفاءه بعد ذلك من غير أن يعلم وجهة اختفائه، فيكون ظهوره للبعض محدد ولأغراض محددة، ومن ثم يختفي بالرغم من أنه لم يغادر المكان الذي كان فيه، إلا أن تلك القصص المتواترة لا تفيد أكثر من إمكانية غياب شخص الامام وقدرته على ذلك.
النظرية الثانية: خفاء العنوان
أي أن الامام المهدي يعيش في الدنيا كانسان طبيعي فيرى الناس شخصه الشريف من غير أن يعرفوا أنه الإمام المهدي (عليه السلام)، فقد كان الامام وهو في حياة ابيه الامام العسكري محجوب عن الناس، حتى قبل امامته وقبل غيبته الصغرى، فقد رباه ابوه بعيداً عن أعين الناس إلا القليل من الخاصة الذين أراد أن يطلعهم على وجوده ويثبت لهم إمامته بعده، ثم ازداد احتجابه بعد وفاة أبيه حيث لم يتصل بشيعته إلا من خلال سفرائه الأربعة، وبعد أن تقدمت السنين في الغيبة وتغيرت الأجيال كان من الطبيعي أن لا يعرفه أحد بشخصه، بحيث لو واجهوه لما عرفوه إلا إذا اقام لهم الدلائل القطعية على شخصه، وعليه فان هذه النظرية تتبنى كون الامام مختفى عن الناس بعنوانه وليس بشخصه، فيمكن للإمام أن يعيش في أي مكان وأن يتجول في أي أتجاه من غير أن يلتفت إليه أحد، ويبقى على هذا حال حتى يأذن الله تعالى له بإظهار نفسه للناس.
واستدل على هذه النظرية ببعض الأخبار منها؛ ما أخرجه الشيخ الطوسي في الغيبة عن السفير الثاني الشيخ محمّد عن عثمان العمري أنّه قال: والله إنّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلّ سنة، يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه)[3]. والمراد بصاحب الامر هو الامام المهدي (عليه السلام) والمراد من الموسم هو موسم الحج، وقد اكدت الرواية بما فيها من قسم على عدم اختفاء الشخص وإنما اختفاء العنوان. واستدل ايضاً بما ورد حول السؤال عن اسم الإمام المهدي (عليه السّلام) الذي جاء فيه (وإذا وقع الاسم وقع الطلب)[4]. فلو كان الخوف من طلب الحاكم هو السبب في عدم ذكر الاسم فأن ذلك يدل على أن اختفاءه كان ضمن الشروط الطبيعية للاختفاء وليس اختفاء اعجازي يتم معه اختفاء الشخص عن الرؤية البصرية. ومن الاخبار التي تدعم ذلك ما ورد في التوقيع الذي خرج من الإمام المهدي (عليه السّلام) إلى سفيره محمّد بن عثمان حيث يقول فيه: فإنّهم إنْ وقفوا على الاسم أذاعوه، وإنْ وقفوا على المكان دلّوا عليه، مما يدل على أن غيبته الشريفة كانت غيبة عنوان وليس غيبة شخص، فلو صحت النظرية الأولى لانتفت رؤيته في أي مكان ولم يكن هناك حاجة لإخفاء الاسم والمكان.
وقد استدل أيضاً بما قاله أبو سهل النوبختي حين سُئل، فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك؟ فقال: هم أعلم وما اختاروه، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم واُناظرهم، ولو علمتُ بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتْني الحجّة على مكانه لعلّي كنتُ أدلّ على مكانه. وأبو القاسم فلو كانت الحجّة تحت ذيله وقُرّض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه"[5]. مما يدل على أن هناك احتياطات شديدة في التستر على مكان الإمام، وإذا صحت النظرية الأولى لما كان هناك معنى لكل هذه التحفظات والاحتياطات، فمن الواضح أنّه لا معنى لكل هذه الإجراءات في حال كانت النظرية الأولى صحيحة.
والذي يدعم النظرية الثانية هو أن احتجاب الإمام واختفائه عن الناس كما تتبناه النظرية الأولى لا يتحقق إلا عبر الاعجاز، ومن المعلوم أن اللجوء إلى الاعجاز لا يكون إلا في حالة توقف اظهار الحق عليه، أما مع إمكانية الوصول إليه عن طريق الوسائل الطبيعية فلا مبرر للإعجاز، ومن الواضح أن حفظ الأمام الإمام المهدي (عليه السّلام) وبقائه غير متوقف على الاعجاز، لإمكانية حدوث ذلك بإخفاء العنوان فقط، ولا يمكن معارضة هذا الاستدلال بوقوع رؤية الامام لبعض العلماء والصالحين وهم عارفون بكونه الامام المهدي، وعليه لم يكن العنوان خافياً، إلا أن ذلك يمكن رده بان تلك القصص تكاد تجمع على أنهم لم يتعرفوا على كونه المهدي إلا بعد غيابه عنهم، أي لم يعرفوا أنه المهدي لحظة المشاهدة واللقاء.
ومع ذلك لا يعني رجحان النظرية الثانية نفي الجانب الاعجازي في غيبة الامام (عليه السلام) وقدرته إخفاء شخصه الشريف أو تنقله بصورة اعجازية من مكان إلى مكان وظهوره للناس في أكثر من موضع، وكل ذلك مرهون بتقديرات الإمام، وكذلك لا يعني أن المعجزة هي الحاكمة على كل تفاصيل غيبته الشريفة.
الخاتمة:
اتضح من كل ما تقدم أن القضايا الخارجة عن القدرة المعرفية للإنسان لا يمكن الجزم بها بشكل قاطع، وأن الأمور الغيبية أو الغائبة عن الحس لا يمكن الوقوف على تفاصيلها، والكثير من الأسئلة التي تتعلق بالإمام المهدي سوى في غيبته أو في ظهوره من هذا القبيل، حيث تبحث عن التفاصيل ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بمقدار ما جاء في الروايات، والظاهر أن اكثر الروايات في هذا الباب تهتم بتثبيت العناوين المركزية بعيداً عن فضول السائل الذي يريد الوقوف على كل شيء، وعليه؛ ما هو ثابت بالضرورة في قضية الامام المهدي هو كونه بن الحسن العسكري (عليه السلام) وهو حي يرزق ويعيش معنا في هذه الحياة، وأنه غائب عننا ولا يمكننا اختيار ملاقاته والتشرف برؤيته الشريفة، ولا نستبعد أن يكون اختفاءه بصورة اعجازية وفي نفس الوقت لا ننفي ان يكون بصورة طبيعية، ولا يمكننا ايضاً أن ننفي حدوث كليهما، ومع كل ذلك لا يتأثر ايماننا بوجوده وضرورة ظهوره بتحصيل العلم القاطع بكيفية غيبته.
اترك تعليق