السيد علي الحسيني
قبلَ مُدّة، أرسلَ لي أحدُ الشّبابِ رسالةً مُتسائلاً بإنكارٍ عَن تكفيرِ الشّيعةِ لأهلِ القِبلة، ممَّن لا يؤمنُ بالإمامةِ ، وبعدَ أن نفيتُ ، أعادَ السّؤالَ مُرفِقاً معهُ حُزمةً منَ الكلماتِ لعلماءَ كبارٍ، مِنهُم قدماءُ، كالمُفيدِ (ت413هـ) في أوائلِ المقالاتِ: اتِّفقت الإماميّةُ على أنَّ مَن أنكرَ إمامةَ أحدِ الأئمّةِ وجحدَ ما أوجبهُ اللهُ تعالى، مِن فرضِ الطّاعةِ فهوَ كافرٌ ضالٌّ، و فيهِم المُتأخّرونَ مثل المامقانيّ (ت 1351هـ) في تنقيحِ المقالِ : غايةُ ما يُستفادُ مِنَ الأخبارِ جريانُ حكمِ الكافرِ والمُشركِ في الآخرةِ على كلِّ مَن لَم يكُن إثني عشريّاً!
ووقتها كنتُ قَد شرحتُ لهذا الشّابِّ ما اِلتبسَ عليهِ، ولكِن لمّا أُعيدَ الجدلُ في الموضوعِ وبرزَ في الإعلامِ -ولسببٍ لَم يعُد خافياً على المُتابع- كتبتُ هذا المقالَ، الذي أعِدُ القارئ الكريمَ فيه برفعِ اللّبسِ في المسألةِ، وتفسيرِ حيثيّاتِ الأقوالِ آنِفاً، وإنجازُ هذا الوعدِ رهنُ التّحقيقِ لثلاثِ جِهاتٍ:
أوّلاً : تقيدُ الكُفرِ بـ(الجحودِ – أو في الآخرةِ).
الجحودُ لا يعني مُجرّدَ عدمِ الإيمانِ، وبينَهُما فرقٌ كبيرٌ، كما أنَّ الكُفرَ في الآخرةِ يختلفُ عنِ المعنى الشّائعِ لمُصطلحِ الكُفرِ، وبالعودةِ إلى نصوصِ أعلامِ الشّيعةِ في تكفيرِ الآخرِ/المُسلمِ، نلحظُها تتقيّدُ بقيدينِ صريحينِ أو بأحدِهما :
1ـ الجحودُ: وينطوي على العلمِ والإذعانِ القلبيّ، وصاحبهُ (الجاحدُ) يُنكرُ بلسانهِ ما استقرَّ في قلبِه ، وهوَ معنىً مُتضمّنٌ في آياتِ القُرآنِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النّمل : 14] " أي جحدوا بالآياتِ بألسنتِهم و استيقنوها في قلوبِهم، فالجحودُ هوَ الإنكارُ معَ العِلم، يُقالُ جحدَ حقّهُ جحداً و جحوداً: أي أنكرهُ مع علمِه بثبوتِه" (مجمعُ البحرينِ - جحدَ ) ، وقَد اِستفادَ الأعلامُ هذا القيدَ منَ الرّواياتِ المُتظافرةِ ، حتّى أنَّ الكُلينيّ في الكافي (1/373) أشارَ لهُ في بعضِ أبوابِه ( ... مَن جحدَ الائمّةَ أو بعضَهُم ) ، فهذا هوَ معنى الكُفرِ هُنا، إنّه كفرُ الجحودِ، عَن علمٍ ويقينٍ.
2ـ في الآخرةِ: يُرادُ بذكرِه إخراجُ حالِه في الدّنيا، أي أنّهُ مُسلِمٌ في الدّنيا لهُ ما للمُسلمينَ وعليهِ ما عليهِم، غيرَ أنَّ الحُكمَ بالإسلامِ الآنَ وهُنا، لا يعني بالضّرورةِ التّطابقَ والمُسانخةَ في الآخرةِ، ولا غرابةَ في هذا التّفريقِ بينَ الحُكمينِ حسبَ الحالينِ، فهذا المُنافقُ يعيشُ وسطَ المُسلمينَ، ومحكومٌ بحُكمِهم، لكنّهُ في الآخرةِ منَ الخاسرينَ، والمَقصودُ بهذا ليسَ التّماثلَ والمُساواةَ بينَ المُخالفِ والمُنافقِ، إنّما إثباتُ صِحّةِ التّفريقِ في الحُكمِ بينَ الدّارين، و يشهدُ على صِحّتِها أيضاً؛ حديثُ الاِفتراقِ المعروفِ: ستفترقُ أُمّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً إلخ، فإنَّ التّعبيرَ بـ " أمّتي " يدلُّ وبِلا شكٍّ على إعطاءِ صِفةِ الإسلامِ في الدّنيا لجميعِ الفِرقِ غيرِ النّاجيةِ، في حينِ يسلبُه عنها في الآخرةِ صراحةً " كُلّها في النّارِ، إلّا واحدةً".
مِن أجلِ ذلكَ؛ قابلتِ الأخبارُ الواردةُ في هذا السّياقِ بينَ الكُفرِ والإيمانِ، ولمَ تُقابِل بينَ الكُفرِ والإسلامِ، مِن تلكَ مثلاً: ما رويَ عنِ الباقرِ عليهِ السّلامُ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ نصبَ عليّاً (عليهِ السّلامُ) علماً بينَهُ وبينَ خلقِه، فمَن عرفَهُ كانَ مُؤمِناً، ومَن أنكرَهُ كانَ كافِراً .." ( الكاِفي 2/389) .
ثانياً : أصولُ الدّينِ - بينَ الفقهِ والعقيدةِ.
ممّا أوجبَ الوقوعَ في الاِلتباسِ منَ العباراتِ آنفةِ الذّكرِ التي تنطوي على وصفِ الكُفرِ هوَ إختلافُ سياقِ وحقلِ بحثِ الكُفرِ وأصولِ الديّنِ ، فقَد تناولها الأعلامُ مِن جهتينِ: فقهيّةٍ علميّةٍ، وأُخرى كلاميّةٍ عقديّةٍ، وبشكلٍ عامٍّ يُعنى الفقهُ بالأحكامِ الشّرعيّةِ ذاتِ الصّلةِ بأفعالِ الجوارحِ وما يُقوّمها في دارِ التّكليفِ (الدّنيا)، بينَما تهتمُّ العقيدةُ والكلامُ بالإيمانِ الذي يُحقّقُ النّجاةَ يومَ القيامةِ والخلاصَ الأخرويَّ، وقَد بدا ذلكَ واضِحاً حتّى في عناوينِ مُصنّفاتِه، لاحِظ مثلاً: عنوانَ كتابِ إبنِ ميثمَ البحرانيّ (ت636هـ): (النّجاةُ في القيامةِ في تحقيقِ أمرِ الإمامةِ).
وقَد ألقى هذا التّعدّدُ في جهاتِ البحثِ على معنَى مُصطلحِ (أصولِ الدّين) وجعلَها ذاتَ مَدلولينِ:
ففقهيّاً يُقصدُ مِن أصولِ الدّينِ كُلُّ مَن يُحقّقُ الإسلامَ الظّاهريّ الدّنيويّ الذي تُحقَنُ بهِ الدّماءُ وتُحفظُ بهِ الأعراضُ وتجرِي بهِ المواريثُ ويُدفنُ صاحبُه في قبورِ المُسلمينَ كذا الزّواجُ وغيرُها مِن آثارٍ، وبإيجازٍ أصولُ الدّينِ في فقهِ الشّريعةِ هيَ الشّهادتانِ، لكِن مِن زاويةِ البَحثِ العقديّ والذي يهتمُّ بدراسةِ الإسلامِ الواقعيّ والأثرِ الأخرويّ فإنَّ الشّهادتينِ ـ وبلا شكٍّ ـ لا تُمثّلانِ كُلَّ أصولِ الدّينِ مِمّا بهِ يقعُ النّجاةُ يومَ القيامةِ.
ومِن ناحيةٍ كلاميّةٍ فإنَّ مسألةَ الإمامةَ تقعُ في إطارِ البحثِ الكلاميّ ومِن مُفرداتِ أصولِ الدّينِ؛ وسببُ ذلكَ أنَّ ضابطَ المسألةِ الكلاميّةِ تقعُ في سياقِ البحثِ عنِ اللهِ وصفاتِه وأفعالِه، وحيثُ أنَّ عُلماءَ الشّيعةِـ وطِبقاً للأدلّةِ الآتيةِ ـ حصرُوا طريقَ تعيينِ الإمامِ بالنّصِّ عليهِ مِنَ اللهِ واعتبرُوا تنصيبَ الإمامِ لا يختلفُ عَن بعثِ النّبيّ فقالوا: إنَّ مسألةَ الإمامةِ كالنّبوّةِ ، فعلٌ إلهيٌّ ، وكلُّ مسألةٍ يُبحثُ فيهَا عنِ اللهِ وصفاتِه وأفعالِه فهيَ كلاميّةٌ عقديّةٌ لا فقهيّةٌ فرعيّةٌ فالإمامةُ مسألةٌ كلاميّةٌ.
يقولُ الفُقهاءُ: إنَّ الإسلامَ ليسَ إلّا عبارةٌ عَنِ الإقرارِ بالشّهادتينِ كمَا نطقَ بذلكَ أيضاً بعضُ ما وردَ مِن غيرِ طُرقِنا ففِي صحيحِ البُخاريّ عنِ النّبيّ - ص - إنّي أُقاتِلُ النّاسَ حتّى يقولوا: لا إلهَ إلّا اللهُ وأنَّ مُحمّداً رسولُ اللهِ كي يصونَ بذلكَ دماءَهُم وأموالَهُم مِنّي، وعلى الجُملةِ إنَّ اِحترامَ الدّماءِ والأموالِ وغيرِهُما منَ الآثارِ مُترتّبٌ على إظهارِ الشّهادتينِ ولا يُعتبرُ في ترتّبِها الإعتقادُ بالإسلامِ قَلباً وحقيقةً. نعَم إنّما يُعتبرُ العقدُ القلبيُّ في الإيمانِ ومعَ فقدِه يُعامَلُ اللهُ سُبحانهُ معهُ مُعاملةَ الكُفرِ في الآخرةِ وهوَ الذى نصطلحُ عليهِ بمُسلمِ الدّنيا وكافرِ الآخرةِ .." (التّنقيح :2/70)
ثالثاً : أدلّةُ اِندراجِ الإمامةِ في أصولِ الدّين .
لو كُنَّا بصددِ المُناكفةِ والجدالِ لسُقنا الفتاوى على تكفيرِ مُنكرِ خِلافةِ المُتقدّمينَ على أميرِ المُؤمنينَ، وإنّما الهدفُ هُنا عرضُ بعضِ المُستنداتِ التي دفعَت أقطابَ الشّيعةِ للقولِ: إنَّ الإمامةَ أصلٌ دينيٌّ لا يُحكَمُ بإيمانِ عبدٍ لا يُؤمِنُ بِها، فلِماذا اِعتبرَ الشّيعةُ الإمامةَ مِن أصولِ الدّين؟!
إنّنا أمامَ صِنفينِ منَ الأدلّةِ: قُرآنيةٍ، وحديثيّةٍ، وفيما يلي بيانُهما معَ الاِقتصارِ على ما قلَّ ودلَّ :
1ـ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة : 3]
وتقريرُ دلالتِها على المقصودِ كالآتي: إنَّ آخرَ آيةٍ نزلَت: الكلالةُ كمّا عنِ البراءِ، أو آيةُ الرّبا كما عَن إبنِ عبّاسٍ، وكِلاهُما في البُخاريّ وقبلَ آيةِ إكمالِ الدّينِ، وعليهِ: لَو كانَت آيةُ الإكمالِ في بيانِ حُكمٍ شرعيٍّ فقهيٍّ تشريعيٍّ فرعيٍّ لا في أصلٍ دينيّ كالإمامةِ لمَا طابقتِ الواقعَ فكيفَ يكملُ الدّينُ وثمّةَ تشريعاتٌ لم تبين بعدُ كالكلالةِ أو الرّبا؟
2ـ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آلُ عمران : 144] .
فمعَ أنَّ المُسلمينَ والصّحابةَ بعدَ النّبيّ كانُوا على ظاهرِ الإسلامِ، ولَم يخرجُوا عَن منطوقِ الشّهادتينِ، بيدَ أنَّ تعبيرَ الآيةِ بالانقلابِ على الأعقابِ يُعطي دلالةً واضحةً على ما وراءَ مَا يُحقّقُ الإسلامَ الظّاهري، وبحسبِ مُعطياتِ التّأريخِ والأحاديثِ النّبويّةِ لا مِصداقَ لذلكَ إلّا الإنقلاب على وصيّةِ النّبيّ في عليٍّ (عليهما وعلى آلهما السّلام) وهوَ فهمٌ مُعتضدٌّ بحديثِ اِرتدادِ الصّحابةِ بعدَ النّبيّ: ( أصحابي أصحابي فيقالُ ما تدري ما أحدثوا بعدكَ إنّهم اِرتدّوا على أعاقبِهم ..)
3. وأقوى الأحاديثِ دلالةً وأصرحُها في المطلوبِ ، حديثُ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه: ( مَن ماتَ وليسَ لهُ إمامٌ ماتَ ميتةً جاهليّةً )، وهوَ بهذا اللّفظِ غيرُ ثابتٍ عندَ أهلِ السّنّةِ ، بيدَ أنّهُ وردَ بصيغٍ أُخرى لا تضرُّ بدلالتِه في أنَّ الإمامةَ أصلٌ إيمانيّ عقديٌّ لا شأنٌ فرعيٌّ فقهيٌّ، مِن تلكَ الصّيغِ: ( مَن ماتَ وليسَ لهُ إمامٌ ماتَ ميتةً جاهليّةً )، وقَد رواهُ الألبانيُّ وحسّنهُ في التّعليقاتِ الحِسانِ على صحيحِ إبنِ حبّانٍ (ح4554) كمَا أنّهُ جاءَ في صحيحِ مُسلمٍ بصيغةِ: (وليسَ في عُنقِهِ بيعةٌ ...)
خِتاماً :
في الحديثِ الصّحيحِ، الذي رواهُ الكُلينيّ في الكافي (2/:585 ح7) بسندِه عَن زُرارةَ قالَ : قلتُ لأبي جعفرٍ عليهِ السّلامُ: يدخلُ النّارَ مؤمِنٌ؟ قالَ: لا واللهِ، قلتُ: فما يدخلُها إلّا كافرٌ؟ قالَ: لا ، إلّا مَن شاءَ اللهُ، فلمّا رددتُ عليهِ مِراراً قالَ لي: أي زُرارةَ إنّي أقولُ: لا، وأقولُ: إلّا مَن شاءَ اللهُ وأنتَ تقولُ: لا ولا تقولُ: إلّا مَن شاءَ اللهُ".
اترك تعليق