لماذا خلق الله البشر في عالم مشحون بالآلام و الآحزان ؟

إنَّ التّفكيرَ المنطقيّ لتكوينِ وعيٍ بفلسفةِ الوجودِ والحياةِ يبدأ بفهمِ الخيرِ الذي يعترضُه الشّرُّ، والسّعادةُ التي يعترضُها الحزنُ، والصّحّةُ التي يعترضُها المرضُ، ومِن ثمَّ فهمُ كلِّ ذلكَ في إطارِ الرّحمةِ بوصفِها الخيط النّاظمَ لفلسفةِ الخلقِ والإيجادِ، فاللهُ خلقَ الإنسانَ ليرحمَه، قالَ تعالى: (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) وقالَ تعالى: (ورحمتي وسعَت كلَّ شيءٍ) فالأصلُ في وجودِ الإنسانِ وإقامةِ الحياةِ وتهيئةِ الأسبابِ للعيشِ الكريمِ هيَ الرّحمةُ، قالَ تعالى: (أَلَم تَرَوا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرضِ وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ). فمظاهرُ رحمةِ اللهِ ونعمِه التي أسبغَها على الإنسانِ ظاهرةٌ وباطنةً إلّا أنَّ البعضَ بنظرتِه المُتشائمةِ يتغافلُ عَن كلِّ ذلكَ، فمَن يعتقدُ بأنَّ الحياةَ كلّها ظلامٌ لا نورَ فيها إنّما يرى ذلكَ مِن خلالِ منظارِ نفسِه المُظلمةِ قالَ تعالى: (كَأَنَّمَا أُغشِيَت وُجُوهُهُم قِطَعًا مِّنَ اللَّيلِ مُظلِمًا) أمّا الذينَ يرونَ النّورَ في كلِّ مكانٍ هُم الذينَ يعرفونَ رحمةَ اللهِ وينعمونَ فيها قالَ تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابيَضَّت وُجُوهُهُم فَفِي رَحمَةِ اللَّهِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) فالإنسانُ بنظرتِه المُتفائلةِ أو المُتشائمةِ هوَ الذي يُحدّدُ موقفَه منَ الحياةِ، فالخطوةُ الأولى لسعادةِ الإنسانِ هيَ الإعترافُ بمظاهرِ رحمةِ اللهِ ومِن ثمَّ الإستعانةُ بهِ لتجاوزِ ما يعتريهِ مِن مشاكلَ وتحدّيّات، فبشكرِ اللهِ يُعزّزُ الإنسانُ الإيجابيّاتِ، وبالتوكّلِ عليه يتجاوزُ الإنسانُ السلبيّاتِ، والذي يجحدُ بكلِّ ذلكَ فإنَّ حياتَه سوفَ تكونُ ضنكاً منَ العيشِ، قالِ تعالى: (فمَن أعرضَ عَن ذكري فإنَّ لهُ معيشةً ضنكاً ونحشرُه يومَ القيامةِ أعمى) والآيةُ واضحةٌ في كونِ المُتسبّبِ في الحياةِ الضّنكِ هوَ الإنسانُ وذلكَ بإعراضِه عَن ذكرِ اللهِ، ويبدو أنَّ المقصودَ منَ الذّكرِ هُنا هوَ الإعترافُ بنعمِ اللهِ ورحمتِه، فمَن تعامى عنِ النّظرِ إليها في الدّنيا سوفَ يكونُ حتماً أعمى عَن رحمةِ اللهِ يومَ القيامةِ ولِذا ختمَت الآيةُ بقولِه (ونحشرُه يومَ القيامةِ أعمى)، وبناءً على هذهِ الآيةِ يمكنُنا القولُ أنَّ السّعادةَ يصنعُها الإنسانُ لنفسِه مِن خلالِ تركيزِه على إيجابيّاتِ الحياةِ والرّضا بما عندَه منَ النّعمِ أمّا الذي لا يرى إلّا السّلبيّاتِ ولا يرضى بما عندَه منَ النّعمِ فإنَّ النّتيجةَ الطّبيعيّةَ أن تكونَ حياتُه ضنكاً. 

 وحتّى نفهمَ الرّحمةَ لابُدَّ أن نفهمَ معنى الحياةِ الدّنيا، لأنَّ معنى الرّحمةِ يتحدّدُ وفقاً لفلسفةِ الحياةِ والهدفِ منها، فلو أوجدَ اللهُ الحياةَ بوصفِها الجنّةَ الأبديّةَ للإنسانِ، ثمَّ وعدَه ألّا يصيبَه فيها مكروهٌ، كما وعدَ آدمَ عندَما أدخلَه للجنّةِ بقولِه: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظمَأُ فِيهَا وَلَا تَضحَىٰ) (119 طه). حينَها نفهمُ الرّحمةَ بالشّكلِ الذي لا يكونُ معهُ عناءٌ وتعب، وعندَها لا يكونُ مطلوباً منَ الإنسانِ العملُ والكفاحُ مِن أجلِ العيشِ الكريم. أمّا إذا كانَت الحياةُ وُجدَت أساساً لاختبارِ الإنسانِ وامتحانِه، فحينَها سيكونُ العناءُ والإبتلاءُ واحداً منَ المُفرزاتِ الطبيعيّةِ للحياةِ الإختياريّةِ للإنسانِ، ومِن هُنا يمكنُنا التأكيدُ على أنَّ ما يصيبُ الإنسانَ مِن شقاءٍ لا يكونُ على نحوِ الجبرِ والحتمِ منَ اللهِ على الإنسانِ، وإنّما يحدثُ ذلكَ وفقاً لخياراتِ الإنسانِ مِن بينِ السّننِ والمُعادلاتِ التي وضعَها اللهُ للحياةِ، فاللهُ لم يفرِض الفقرَ والمرضَ والحُزنَ على سبيلِ الجبرِ الذي لا مفرَّ منهُ وإنّما الإنسانُ بخياراتِه الخاطئةِ هوَ الذي يتسبّبُ في جلبِ كلِّ ذلكَ لنفسِه، فاللهُ منحَ الإنسانَ قدراتٍ خاصّةٍ تُمكّنُه مِن تجنّبِ مخاطرِ الحياةِ، وعظمةُ الإنسانِ في كونِه قادراً على التّحدّي والكفاحِ مِن أجلِ بناءِ حياةٍ سعيدةٍ، وتقصيرُ الإنسانِ عنِ القيامِ بهذا الدّورِ يعودُ عليه بالمشاكلِ والشّرورِ، وبالتّالي ما يصيبُ الإنسانَ مِن خيرٍ أو شرٍّ هوَ بما عملَت يداهُ، ولا نقصدُ هُنا فقَط ما يصنعُه الإنسانُ مِن حروبٍ مُدمّرةٍ أو أنظمةٍ ظالمةٍ وإنّما حتّى الظواهرُ الطّبيعيّةُ مثلَ الزّلازلِ والفيضاناتِ فإنَّ اللهَ منحَ الإنسانَ منَ القُدراتِ ما تُمكّنُه مِن تفادي أضرارِ كلِّ تلكَ الظّواهرِ، وهذا ما يقومُ بهِ العلمُ الحديثُ مِن رصدِ الزّلازلِ والبراكينِ والعواصفِ قبلَ حدوثِها، وإهمالُ الإنسانِ لهذهِ القُدراتِ وعدمُ تطويرِها هوَ الذي يجعلُه المسؤولَ عمّا يصيبُه.

وبالتالي رحمةُ اللهِ نراها واضحةً في كلِّ تفصيلٍ مِن تفاصيلِ الوجودِ، فقَد أوجدَ اللهُ الكونَ بالشّكلِ الذي يناسبُ الإنسانَ وسخّرَ لهُ كلَّ الشّيءِ حتّى يكونَ طائعاً بينَ يديه، كما خصَّ الإنسانَ بإمكاناتٍ مهولةٍ تُمكّنُه منَ الإستفادةِ مِن كُلِّ جزءٍ مِن أجزاءِ الوجودِ، وهذا هوَ الجانبُ الذي نرى فيهِ رحمةَ الله، أمّا الجانبُ الآخرُ وهوَ فعلُ الإنسانِ في هذا الكونِ هوَ الذي يظهرُ منهُ الشّرورُ والأحزانُ، فإذا أهملَ الإنسانُ تلكَ القدراتِ وإذا تحكّمَت فيهِ المطامعُ والشّهواتُ والأنانيّاتُ فعندَها لا يلومنَّ غيرَ نفسِه.

 

المرفقات