اللوحة اعلاه احدى الابداعات النادرة للتشكيلي العراقي علي النجار الذي يعد احد اقطاب الفن التشكيلي العراقي للجيل الستيني من القرن المنصرم، وهذه اللوحة تمثل مجموعة من العلاقات التشكيلية ذات الاتصال الشكلي مع التنوع في طبيعة المفردة الفنية المتصلة مع مجاوراتها من المفردات التي يبنى عليها العمل فهناك أشكال محورة واخرى هندسية مختزلة دائرية ومستطيلة ومربعة واسطوانية توزعت على سطح العينة على وفق آلية القصد البنائي للشكل.
يبدو السطح التصويري على شكل مستطيل لا يتجاوز مفهوم اللوحة التقليدي، حيث تتكون من ثلاثة مستويات منها ما هو يشغل موقعا سيادياً بين اجزاء اللوحة وبلون رصاصي غامق وبدرجات متفاوتة مختلفة، حيث وزعه الفنان بطريقة متوازنة، وعمل في مركز العينة على رسم خطوط بأشكال مبهمة غير واضحة لعلها تقترب من الأشكال البشرية، وكذلك في الجهة السفلى اليمنى رسم الفنان شكلا يتمثل بقبة محددة بخطوط عريضة سوداء اعتلتها راية يعلو طرفها نصف هلال.
ويبدو ايضا للمتأمل لهذه اللوحة أن هنالك هيمنة واضحة للخط على العناصر الاخرى، فقلما سمح الفنان للون بالانفلات والتحرر خارج منطقة معينة، مما يجعل اللوحة تخرج من بعثرة الأشكال وتحددها وفق نسق عملي يستند اليه علي النجار كما هو الحال في اغلب أعماله الفنية الاخرى، فهو يخوض تجربة التجريد التي يشكل اللون والخطوط أساسا لها، فالخط هنا ينساب في داخلية النص ليحقق قيمة الأشكال الايقونية جماليا وتعبيريا.
نفذ النجار اللوحة كما هو واضح للمشاهد بألوان مختلفة وبتشكيلة من الاصباغ القماشية والوان البوستر دون التقليل من حساسية الأشكال التي بنية على السطح من خلال انسجامها مع الخلفية او من طاقاتها التعبيرية والجمالية، وكما ذكرنا فان النجار من فناني جيل الستينات والذين يتميز اغلبهم بتوظيفهم مجموعة من التقنيات الجديدة في أساليبهم الفنية، حيث وظف بعض الرسامين في عقد الستينات عدة تقنيات وخامات غير مألوفة في رسوماتهم الفنية، فلم تعد الخامات المستخدمة لأعداد اللوحة كما كانت عليه ولم تعد مادة الزيت وحدها هي الاساس في الوان الرسم، وهنا كرس الفنان الستيني ومنهم النجار جهدهم في البحث عن لغة تشكيلية جديدة ضمن إطار المشكلات الفنية التي عاشها كما هو حال اقرانه ومجايليه، وحاول الوقوف على بعض الحلول التي تجعل من فن الرسم اللغة الأكثر تعبيراً عن أزماته مما شكل تحولا في أساليبه الفنية.
من خلال ذلك نجد أن تركيز النجار في هذه اللوحة كان موجها لإيجاد لغة بصرية حوارية قائمة على لغة المسطحات اللونية، فاللوحة تقدم السطوح المتعارضة في الواجهة الآدمية مقابل المجردة والألوان القاتمة مقابل الألوان الفاتحة، ومن هذه التعارضات يضاعف الفنان في درامية المشهد، عبر استثمار الديكور الافتراضي الذي يحيط بالموضوع، وهنا نستشف أن اللوحة اعلاه تمثل بحثاً عن النداءات الداخلية للنجار وللعناصر المركزية التي تسير بظله، فهناك حركات وزوايا حادة لا يمكن النظر أليها من خلال الشكل دون الرجوع الى البواعث الذاتية المنسجمة مع خيارات الفن والتصورات الفكرية للفنان نفسه والمرحلة الزمنية التي يقصدها.
ولو دققنا في اشكال اللوحة لوجدنا انها تبدو بدائية الهيئة، ولكنها ممثلة للهواجس والأفكار التحتية التي يحملها الفنان، وهي تقودنا إلى مناهل الفطرة وعفوية طرحه الفني، فأن العفوية لدى علي النجار تنبعث من اللاشعور في مثيلات ذاتية تعبر عن الإحساس المتدفق نتيجة ضرورة داخلية ملحة، لذا فإن العمل الفني يكون نتيجة شعور فطري مكبوت في اللاوعي، وكذلك طبيعة الموضوع الذي تناوله زاخر بالملامح البدائية التي تتبين من هياكل الشخوص ذات التكوين المرتجل والاصطلاحي.. وهي تماما كما هو موجود في الأشكال المنحوتة في الاختام البدائية عند الانسان الاول، وهي منحازة لخياره التشكيلي كمنتج فني موصول برؤيته الخاصة وبمعالجاته الفنية غير المتكلفة المتصفة بالاختزال والتبسيط الشكلي للمفردة وعناصرها الموصوفة، وهذا ما مثلته ونطقت به الراية وانصاف الاهلة.. فهي أشكال من واقع الفنان مثلها في رسومه بصور تشبه الأشكال الموجودة في المراقد والمزارات الدينية المقدسة، حيث قام النجار بتركيزها على البناء العام للوحة وبإيقاع موسيقي ورمزي متناغم يمثل جانبا في الهوس بالحرية وسط أحساس ثقيل الوطأة بالظلمة التي تطبق على الأجواء الاجتماعية والسياسية في العراق .
ركز الفنان جل اهتمامه في هذه اللوحة على استلهام التراث، من خلال سعيه للعمل على إبرازه بصيغ مختلفة تعتمد على أسلوبه الخاص والمميز، حيث حملت اشكال اللوحة شحنة وتفاعلية بين الفنان وعالمه الخاص، فقدمها دون تفاصيل شكلية تشغله عن الجوهر المستهدف ابرازه، بهدف اختصار الأشكال وتبسيطها وتحويلها إلى رموز لها دلالتها الرمزية التي تحققت من خلال الغوص في تفاصيل العلاقة الشائكة ما بين الذات المنتجة والمحيط الخارجي للفنان، فالحقيقة الشكلية لديه هي موقف إزاء المحيط ذاته مثلما هي محاولة لإيجاد علاقة في التواصل عبر منطق شكلي معين يرفع من قيمة الرمز البنائي والاشاري والولوج للعوالم الداخلية للذات البشرية وتوسيع مفهوم المتخيل الإبداعي لخلق المتعة الجمالية المحملة نكهة الدهشة، والتي استند علي النجار في اظهارها على مرجعياته التراثية والذاتية التي تشكلت من واقع ثقافته الاجتماعية والإنسانية.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق