يستند التفكير الابداعي في مساراته الى قدرة تخيلية نشطة تسعى لإنتاج صورة تخيلية تتسم بالأصالة والجدة والتناسب والقدرة على الابهار، وهذا ما يمكّن الفنان من إظهار مجموعة من المركبات الفنية وفق انساق تفسيرية لم يسبق الوصول اليها، مستخدماً لذلك عناصر تكوينية تكتسب أبعاداً جديدة من خلال الحركة الحّرة للخيال، وقد اشار كثير من الدارسين في هذا المجال الى ان الفنان يحيا حياة واقعية لأنه انسان.. ويعيش أخرى خيالية مستعينا بالتأمل والحدس، وهذا ما ذهب اليه الدكتور نوري جعفر - ابرز علماء التربية وعلم النفس العراقيين - من ان الخيال هو الجانب الغير واقعي في حياة الانسان العقلية وعناصره ومقوماته مستمدة من البيئة وعمليات الجمع والتأليف بين تلك العناصر والمقومات وإظهارها بشكل جديد ، هي جوهر الخيال، ولا يمكن الفصل بين اصالة الرؤية الجمالية والتأسيس الحدسي للعمل الفني، وبين القدرات التخيلية للفنان القائم بفعل التخيل والاظهار وعياً وتقنية، وهذا ما تؤكد عليه اغلب شواهد تاريخ الفن الابداعية كالثور المجنح الاشوري وغيره من المعالم الاثارية ومقترباتها الفنية الشاخصة حتى يومنا الحاضر، فالخيال الابداعي المؤسس للصورة التخيلية هو وسيلة داخلية جيدة ولا غنى عنه في جميع انواع الفنون يمتلكها الانسان ويستعين بها في البحث عن مشكلة العمل الفني.
تعبر الصورة التخيلية عادة عن نتاج الخيال الابداعي القادرة على استنفار كينونة الاشياء وتحويل الفوضى الى انسجام، فالصورة التخيلية ما هي الا صياغة فكرية يجري بواسطتها تمثيل المعاني تمثيلا مبتكرا جديدا وبما يجعلها معبرة، وتلك الصياغة المتميزة و المتفرد هي عدول عن صيغ إحالية من السياق الخارجي الى صيغ ايحائية تأخذ مدياتها التعبيرية في تضاعيف العمل الفني، وما تثيره الصورة في الفن يتصل بكيفيات التعبير، فالصورة تهدف الى تحويل غير المرئي الى مرئي محسوس، وقد عدّ البعض هذه العملية على انها نتاج لفاعلية الخيال، وهذا لا يعني نسخ العالم بل تعني اعادة التشكيل واكتشاف العلاقات الكامنة بين الظواهر والجمع بين العناصر المتباعدة والمتضادة في انتظام معيّن، اذ كانت الصورة قبل أن تندرج كمفهوم خاص في ميدان الفكر الفلسفي والنظرية النقدية، قد استأثرت أولا باهتمام الثقافتين الغربية والعربية قد أفضت في الحقول التي أشرنا اليها، مما دفع بالفكر الفلسفي الى مزيد من البحث والاستقصاء في المستويات النظرية لموضوع الصورة وتجلياتها في الخطاب الفني وبخاصة ان أمر الاهتمام قد اتسع ليشمل ليس الفلسفة والفن فحسب بل العلوم المحضة والمنطق وعلم الجمال وعلم النفس وغيرها، ففي الدراسات النقدية الحديثة للصورة نجد مناهج متباينة ظلت تمثل سعيا حثيثاً ومحاولة لتفسير الابداع و احتوائه وتمييز ما هو ميسور على التحديد من ملامحه الفنية.
لقد حاول نقاد الفن الحديث ومنذ الربع الاول من القرن العشرين أن يوطدوا صلتهم بالتكوينات الفنية وغور اسبارها، على نحو يطل منه على السمات الفنية التي منحت الابداع شكله الخاص والكشف عن المحتوى الفكري المتفاعل في البناء الفني، وذلك من خلال منظومة من الصلات التي تحكم الصياغة المتكاملة للتجربة الفنية ونسقها، وقد أدرك قسم كبير من النقاد والدارسين في هذا الخصوص ان وسيلتهم لتحقيق هذا النوع من الدراسات الفنية المتكاملة هي الصورة التخيلية او كما يسميها البعض التخييلية، إذ إنها تمثل أداة لها طريقتها الخاصة في عرض المضامين وهي مقترنة بأشكالها، فيكتسب حينذاك العمل الفني مناخاً مفعماً بالانسجام والالتحام بين الشكل والمضمون وفق اطر موحدة تنهض بسير المنجزات التخيلية وتحديدها، اضافة الى لفت الانتباه الى طبيعة مضمون العمل الفني في عرضه وأسلوبه.. منسجماً مع سلسلة الاشكال المشيرة الى المعاني وغير منفصل عنها في نفس الوقت، إذ تتضح الملامح المميزة لأسلوب الفنان وخبرته الفنية بأبعادها والخبرات الاخرى المستقاة من الحياة ومن المعرفة الثقافية من خلال الصورة الفنية.
ان البحث في مفهوم الصورة الفنية يقترب في وجوه كثيرة من البحث في الفن وخصوصيته الحداثوية فالصورة تمكّن الانسان من تحقيق أفكاره وتحويلها الى محسوسات والصورة في تطرقها للموضوع لابد أن تمزج الفكرة بتصورها كي تخرج الاحاسيس المجردة فما يعجبنا في اي عمل فني انما هو الصورة التخيلية المكتملة التي تبنتها او اكتست بها احدى حالاتنا النفسية.. ومن ثم ادخالها ضمن حيز الفعل البصري المشكّل للمادة الاولية الاساسية، والتي تؤلف بدورها علاقة الموضوع بإمكانات تحققه التعبيري والفني بعد خضوعه للمفاهيم السائدة من الناحية الزمانية والمكانية.. وخضوعه لعلاقات ثقافة المجتمع الشاملة التي تجعل منه مناقضاً لتحققه ومتبايناً مع كل ما يناهض تجليه على هيأة الحياة ،وهذا ما يؤكد أهمية الخيال والتخيل في التأثير على الصورة الفنية من حيث تحولاتها المستمرة، اذ إن الصورة هائمة بين ذاتها كشكل ومضمون ولكل منهما سطوته النابعة من الحيز المعنوي للتخييل الذي يغلّب طرفا على آخر فالشكل هو الظاهرة التي تحقق ثبات نسبي للموضوع المتخيل وهذا الجانب من الصورة لا يمكن تغيير مواصفات تحققه الا باستدعاء مفاهيم مغايرة ومختلفة تؤسس لمتحول صوري جديد.
وقد يكون لاصطدام المعاني الناتجة عن الصورة بالسياقات الخارجية(ثقافة، دين، أخلاق) المتعارف عليها ،ضرورة تضع حد لصراع الانبعاث بين إمكانات تحول الصورة وهذا الصراع الذي يمكن اعتباره منطلق التحولات الذهنية، لإنتاج وسائل تحول الصورة وبالتالي تحيل التخييل اما على الصورة المعبرة عن الرؤية او ان الرؤية تستميل الصورة التخيلية المتحولة او الصورة الفنية الجديدة التي تقدم نفسها كأمر لا ينتهي تحققه لأنها ميدان للتفكير الدائم.
وعليه فان الفن شانه شان أي لغة اخرى يحاول ايصال أفكار الفنان من خلال الصورة الفنية التخيلية المستحدثة والتي تمثل بداية العمل الفني والمتضمنة معنى مركب من مجموعة معانٍ ثانوية متداخلة.. هي في الاساس مجموعة من الصور الذهنية المختزنة في الذاكرة جرى انتقائها تبعا للموضوع المنتخب ودرجة علاقتها وتناسبها معه، اخرجها الفنان بفضل المهارة والتقنية التي يكتسبها نتيجة ممارسته العملية ، اذ تمكن من انتقاء صوره المخزونة بحرية ليقوم بالتالي العقل واليد بتشكيل المادة الخام واحالتها الى عمل على شاكلة الصورة المخزونة في ذهنه، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان هذه الصور الذهنية المختزنة عادة ما يستقيها الفنان مما يرد الى مخيلته عن طريق أعضاء الحس، فيحاول جاهدا اخراجها من خلال تحقيق التجانس والانسجام بين اجزائها بالحذف والاضافة والتحليل والتركيب وبما يتناسب مع اسلوبه ورؤيته الفنية.
من هنا نستطيع القول ان الصورة التخيلية هي فعل وعي تشترك في كينونته مختلف القدرات النفسية بدأً بالحواس التي تنقل للدماغ صور الاشياء والتي تُخزن في الذاكرة، وكلما كان الدافع النفسي والتركيز العالي متحققا كلما كانت الذاكرة ذات كفاءة عالية في أسترداد خزينها عند تعرضها لمنبه ما او مثير معين، فالقوى التخيلية تقوم بأسناد عملية التفكير من خلال دمج صور الذاكرة بصور المثير ومن ناتج الدمج تذهب بعض عناصر الصورتين صوب عملية التحام جديدة، في حين تذهب بعض العناصر الثانوية الاخرى الى الاندثار لعدم الحاجة اليها، وتتشكل بذلك هيئة تخيلية معبرة عن فعل الوعي ضمن تسلسل فكري يصبح جاهزاً للانتقال الى مستوى التنفيذ البنائي فيكون المنجز الابداعي محملاً بصورة ذات طاقة تخيلية عالية تنبثق عنها القوى المتخيلة للمتلقي والتي تحفز قوته النزوعية من خلال ذات الآلية التي حدثت للمبدع حين اخراج تكوينه الفني الابداعي.
اللوحة من ابداع التشكيلي المبدع ( عبد الحميد قديريان) وهي تحمل عنوان ( صبيحة الظهور) و تمثل صورة تخيلية لصبيحة ظهور امامنا القائم ( المهدي المنتظر ) عجل الله تعالى فرجه الشريف.
اعداد
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للتعبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق