ايقظ الاسلام في نفوس المسلمين الحاجة الى الحضارة وبعث فيهم الشعور بحب الخير والسعي الى تحقيقه، واصبح ذلك فيما بعد منطلقاً للدراسات الخاصة بتكوين الخط العربي وفنه الفريد، وقد كتب في هذا الشأن كثير من الباحثين من الغرب والشرق ومنهم المستشرقين اذ قال احدهم " المستشرق كريتي " في الحرف العربي " ان الحرف الذي كتب به القرآن الكريم يعتبر مقدساً في العهود الإسلامية كافة، وكان الخطاطون يتنافس احدهم الآخر في التفنن بكتابة حروفه الجميلة "، اذ ان لجمالية الحروف العربية ميزة تجلت فيها عبقرية الفنان المسلم وتلك اليد المرنة المنفذة لإبداعاته الخطية وما يمتلكه من قابلية ابتكارية تكسب الخط جمالاً وبهجة، فان لحروفها حرية شديدة ناشئة من مطاوعتها واستدارتها وجميعها تبزغ من اصل هندسي ثابت وقاعدة رياضية معروفة " فأصل الحروف العربية هو حرف الألف كما هو معروف، وهو متسم بانه خط مستقيم جعلوا منه قطر دائرة، اما بقية الحروف فهي اجزاء من الدائرة المحيطة بهذا القطر ومنسوبة اليه، ولو اعيدت كل الحروف الى التسطيح وازيل تقوسها لكانت كلها من الألف بنية معينة ثابتة ولكل حرف من الحروف العربية هندسته الخاصة عرفت بالنسبة الفاضلة.
تميزت الحروف العربية بتنوع اشكالها وتعددها، فقد منحت خصائص جمالية قلما نشاهدها في حروف وكتابات الامم الأخرى ، ويؤكد العرب وغيرهم على جمالية الحرف العربي خاصة لما يحمله من خصائص جمالية مجردة وجمال فني منقطع النظير، وهذا ما يرفعه في نظرهم الى اعلى مراتب الابداع، فالحرف العربي بلا شك يعد من ارقى واجمل الحروف فان له من حسن شكله وجمال هندسته وبديع نسقه وجاذبية صورته ما جعله كثير التوظيف حتى لدى الامم الاخرى ممن وظفوه في مدارسهم واعمالهم الفنية، ولا يخفى ما للحرف العربي في الفن الاسلامي من دلالات جمالية اضافة الى دلالاته التصويرية والموضوعية، فلم تقتصر وظيفة الكتابة من الناحية الفنية على جمال الحرف وحده ، بل تعدت ذلك الى اختيار النصوص نفسها والتي كانت ومازالت ذات مهمة تصويرية وجمالية وخاصة في الكتابة على واجهات الابنية وسطوح بعض الاشياء الاخرى، فكثيراً ما نجد على واجهات المباني وبعض سطوح القطع الخزفية والبرونزية حكما وامثالاً وادعية تعبر عن الغرض الاجتماعي للقطعة الفنية، اضافة الى ذلك هناك مجال معنوي للحرف العربي يدركه المرء ببصيرته قبل البصر وهذا الجمال المعنوي هو فوق القواعد الخطية، وقد عرف ذلك بروح الجمال أو بعبارة أخرى عبقرية الجمال وطبعاً لا يدرك هذا الجمال المعنوي ولا يفهم هذه الجاذبية الروحية الا من علا به نبوغه وسما به عقله نحو ادراك ذلك.
وقد ادرك الفنان العربي ما لجمال الحرف من وقع في النفوس فسخر اقلامه لتزين الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة فأطرب النفس بروعة ابداعاته وابتكاراته التي استلها من جمال روحه، وان اشكال الكلمات والحروف لم تكن لتتكرر لمجرد التكرار التقليدي بل كان القصد من ذلك الايحاء بالفكرة الاساسية التي يقوم عليها الدين الاسلامي الحنيف وهي ان الله واحد احد وهو خالق كل شيء ، أي ان الفن العربي الاسلامي قائم على فكرة عقائدية وهي فكرة سرمدية الله وفناء الكائنات ونجد ذلك متجسدا في قوله تعالى (( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام )).
وعلى هذا فان ديمومة كل شيء مرتبطة بمشيئة الله ، وهذه الديمومة المحددة ليست ثابتة ، وكل شيء قابل للتحول بمشيئة الله ضمن المدة وقابل للتحول ضمن النوع ايضاً فليس هناك وجه ثابت للأشياء، فكل شيء فان وزائل إلا وجه القدير جل وعلا وهو غير قابل للتصور، اما الباعث على التحوير فلم يكن من عجز الفنان المسلم عن محاكاة الواقع ، ولم يكن وسيلة لإخفاء التشبيه بخلق الله المبدع يوم الحساب فحسب، بل يرجع الى الشعور بتفاهة الوجود الارضي والانشغال المستمر بالوجود الأزلي ايضا، وهذا ما يميز الفن الاسلامي بمميزات معينة دون بقية الفنون الاخرى التي افرزتها الحضارات- السابقة واللاحقة للحضارة الاسلامية - بصفات واضحة، فالفنان الاسلامي لا يؤمن بفكرة الخلق ولا يهدف الى محاكاة الواقع وتقليده بل يسعى الى تجاوز الحياة المادية العرضية والاقتراب من المطلق والمجرد ،لذا فهي فنون لا تقوم على الفهم والمعرفة العقلية بقدر ما تقوم على الكشف والمعرفة الحدسية .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق