اتجه كثير من الرسامين العرب والعراقيين وعلى اختلاف ثقافاتهم وتوجهاتهم الفكرية نحو الحفاظ على انتماءاتهم الفنية والحضارية ولم يحيدوا عنها قط، انطلاقا من مبدأ ان مواطنيتهم تكمن في التعبير عن منجزاتهم الابداعية.. التي تُرجمت بلغة الفن بالعودة الى الجذور الحضارية وتسجيل حياتهم الاجتماعية والدينية الحافلة بالعادات والتقاليد بملامحها التراثية الاصيلة، والتي تعكس بدورها بيئاتهم الاجتماعية ببساطة متناهية بالوان مشرقة بالتفاؤل والاحساس بالحنين الى الماضي والايام الجميلة، ليسعد المتلقي بعبق تراثه الحي الذي لم ولن يكون عرضة للنسيان مهما تقدم الزمن وتعاقبت الاجيال.
اللوحات اعلاه نماذج منتقاة من المنجزات الابداعية للتشكيلية العراقية السيدة سلمى العلاق، المنسوبة الى جيل الفنانين الذين دفعهم حبهم لفن الرسم نحو البحث والدراسة، إذ تتلمذت على يد عدد من الفنانين الرواد ممن أسَسوا قسم الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، قد تميزت لوحات العلاق بانها تضج بالألوان والاشكال المثيرة للفرحة في نفوس المتلقين، لما تحمله من مفردات عراقية وظفتها تشكيليا في اعمالها فالألوان وزخارف البُسط الشعبية والرموز التراثية، فضلا عن النخلة والقِباب والمنائر والسماء المفتوحة بالأضواء المتوهجة، وأسراب الحمام السابحة في فضاء وألوان لوحاتها الاخاذة، فضلا عن المواضيع التراثية التي صاغتها انامل السيدة سلمى والمنطلقة من حب مواطنتها ومرجعياتها الفكرية المتعددة.
يجد المتأمل في معظم منجزات الفنانة سلمى العلاق التجلي الصريح لشكل الابواب الإسلامية والقباب وسعف النخيل وهي تختلط بالزخارف الهندسية الملونة المزينة لبعض اشكال الشبابيك وبأشكال مثلثة ومعينية، وقد مثلت هذه الاشكال بالوان مختلفة تتوسطها عادة اشرطة زخرفية مختلفة وبأشكال متناثرة تتوهج بخليط من الألوان الحارة الشبه نارية والباردة وبتدرجات مختلفة، كما في اللوحتين اعلاه ومثيلاتهما من منجزات الفنانة، فنلاحظ وجود اشكال لأبنية اسلامية ذات قباب وشبابيك ومداخل تختلف الوانها بحسب فكرة الموضوع المراد اخراجه في اللوحة، وله قاعدة مزخرفة بأشكال مثلثات ملونة ما بين الأزرق والأحمر والأسود الأبيض مع وجود شكل النخلة التي لم تُظهر العلاق جذوعها في اغلب الاحيان.
فلو دققنا في مشهد اللوحة على اليمين لوجدنا ان الفنانة قد مثلت التكوينات البنائية على سطوحها التصويرية على شكل مربعات هرمية، وهي تربط بين البوابة والنخلة في القاعدة والمسجد في قمة الهرم ليستقر المشهد ويثبت امام المتلقي، وقد أحيطت مفردات المشهد بتكوينات خطية تكاد تبرز على شكل أبواب وبخطوط حادة وقوية.. اسهمت بشكل او بآخر في تحديد الزخارف الهندسية الملونة من المثلثات المتقابلة المتجاورة.. وتخف قوة الخطوط من جانب اخر في شكل النخلة والمسجد والقبة الزرقاء، وتتوزع مساحات المشهد وأشكاله ضمن فضاء واسع مثل بالألوان الحارة كالبني والأحمر والبرتقالي والأخضر وبتدرجات متداخلة لتوحي بشكل أشبه بالنار المتوهجة ضمن ذلك الفضاء ،وقد انعكست على شكل القبة لتعطي إيحاءً بالإنارة والظلال ، ويزدحم الفضاء في النصف الأسفل من المشهد الذي امتلأ بالأشكال الهندسية للمثلثات والمعينات وبتركيبات زخرفية أحاطت بشكل النخلة والباب وتناثرت في أعلى الباب .
لعبت الألوان الدور الأساس في هذا المنجز دون غيره لأنها استخدمت وبصورة أساسية في تركيب وحدات المشهد وزخارفه، حيث وزعت العلاق ألوانه بشكل متوازن على مساحات المشهد ليحقق إيقاعاً بصرياً تنتقل به العين من شكل لآخر وهذا الإيقاع اللوني يوحي بالحركة داخل وحدات المشهد مما يساهم في تجسيد الشكل الجمالي للمشهد ، واعتمدت الفنانة التشخيص بالإنارة والظلال في شكل المسجد الذي يوحي بالتجسيم فضلاً عن شكل البوابة والنخلة التي تباعدت بمساحاتها إلا أن الفنانة عمدت إلى ربطها بواسطة التكوينات الزخرفية الهندسية لتوجد نوعاً من الترابط الشكلي بتلاحم البناء العام للمنجز محققاً القيمة التشكيلية له، أما عنصر السيادة فكان للباب الذي مثل بالحجم الكبير محاطاً بالزخارف كما هو الحال في اللوحة على الجانب الايسر .
لقد وظفت الفنانة الباب المقوس لتمنحه قيماً رمزية إسلامية ، فالباب يحمل دلالات دقيقة من الجانب الديني، فهو يمثل الباب النقطة الرئيسية للدخول ويفصل بين عالمين متناقضين الداخلي والخارجي فيفصل باب المسجد بين العالم الخارجي وما به من شوائب ، والعالم الداخلي بأجوائه الروحية القدسية ويشعر الداخل بالطمأنينة والسكينة ، كما وظفت الفنانة المسجد الذي ظهر الجزء الأكبر منه وهو القبة الزرقاء رمزاً إلى السماء ،أما دلالته الاجتماعية فتتمثل بالمكانة التي يحظى بها المسجد في المجتمع الإسلامي، وهناك نوع من التحول الدلالي حيث تستحضر الفنانة رمز النخلة من التراث العراقي القديم لتوظفه بشكل معاصر وضمن نسق يتضمن رموزاً إسلامية لتعطيه طابعاً إسلامياً أيضاً، وترمز النخلة إلى الخصب والنماء والخير فهي شجرة مباركة ذكرت في القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة مريم (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)، فضلاً عن حملها شكلاً جمالياً ينضح بقيمته الرمزية ، واستخدمت الفنانة شكل المثلث والمعين في تكوينات زخرفية ووهبتها قيمة رمزية ضمت أجواء إسلامية لتصب دلالتها المعبرة عن الخصب في الجانب الإسلامي ،وهنا يظهر التحول الدلالي في شكل المثلث ،وقد ساعدت هذه التكوينات بربط مكونات المشهد ووحداته البنائية الرئيسة التي تباعدت ، فضلاً عن ملئها للفراغات وهنا يتجلى تأثير الفن الإسلامي المستخدم في مدارس التصوير الإسلامي ، إضافة إلى الجانب التزيني لتلك الزخارف الذي أكسب المشهد قيمة جمالية تقف جنباً إلى جنب مع جمالية الأشكال الرمزية .وضمنت الفنانة اللون معنىً رمزياً باستخدام الألوان الحارة المتداخلة مع الألوان الباردة فهي تستخدم الألوان الزرقاء بتدرجات عدة للدلالة على سكونية المكان الممثل بالمسجد ،واللون الأخضر الذي يدل على الخصب والخير في لون النخلة فضلاً عن الألوان الحارة بلون البوابة للدلالة على الحركة التي تعم هذه المفردة وبذلك تكون الفنانة قد أفصحت عن الدلالات الاجتماعية والدينية وعن جمالية الأشكال الرمزية التي أعطت قيمة تشكيلية وجمالية وتعبيرية ورمزية للمشهد فضلاً عن القيمة الرمزية للون وتعبيره عن انفعالات الفنانة وعواطفها التي أفرغتها في المشهد مجسدةً صورة تشكيلية في وقت استحضرت الفنانة رموز قديمة كالنخلة والمثلث وأعطتها الصبغة الرمزية الإسلامية بإدخالها ضمن نسق رمزي إسلامي ممثل بالمسجد والبوابة الإسلامية .لذا مثل التكوين العام بلغة بصرية وجمالية حملت مضامينها رموزاً إسلامية عبرت عن علاقاتها في المجتمع الإسلامي العراقي.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق