تعد الحروف - عربية كانت او غير ذلك – من الوحدات البنائية والتعبيرية الأساسية التي تؤسس العلاقات المرئية في الفنون البصرية، وتنظم وفق تكوين معين بهدف خلق وحدة فنية ذات تعبير ومنهج جمالي استثنائي.. ويتم توظيف الحرف من قبل بعض الفنانين ليعينهم على بلوغ غايتهم باعتمادهم أشكاله المختلفة.. من خلال ترتيب أوضاعه وتشابكه أو تمازجه مع عناصر اللوحة الاخرى.
فعلى الرغم من أن الحرف ينطوي على جمال خاص بحد ذاته عندما يكون متفرقاً منفرداً، إلا انه عند اتحاده مع عناصر اخرى وفق نظام معين.. فهو يزداد جمالا وتأثيرا بصريا ويصبح سببا جديا في نجاح أي عمل فني ابداعي ان اشترك في تكوينه، فالحرف يترك اثراً واضحاً في خلق الأثر لدى المتلقي، بأنماطه التي لا حد لها من نظم الترابط البيني.. والتي تلعب إلى جانب دورها الوظيفي في البناء التشكيلي دورا جماليا على سطح العمليات الفنية .
لقد شغلت الحروف وبالخصوص العربية منها حيزاً لا يستهان به في بناء بعض الاعمال الفنية وعناصرها، اذ تحققت من خلاله المتعة والاستمتاع للمتلقي، فاغلب الاعمال التصميمية التي تشترك فيها الحروف تكون ذات قيمة جمالية ووظيفية، لها القدرة على تعيين الموقف الذاتي والموضوعي للفنان والعمل الفني، لذا فأن معرفة توظيف الحرف كعنصر بنائي تسهم في إطلاق الأحكام الجمالية والتذوق له مع فهم الرسالة الموجهة من خلاله فإن عملية فهم ومعرفة الأجزاء تساهم في تقييم أي عمل فني وبالتالي تقبلها وتلمس مكامن الجمال فيه.. ولهذا نجد في البناء الفني المنظم وفق العلاقات التصميمية المتواشجة بين عناصره، ان الفنان قد تمكن من التعبير عن الفكرة التي اعتمدها في اخراج عمله من خلال الرجوع إلى ذاته المنطلقة من خزين ذاكرته ومرجعياته، فضلاً عن المهارة والجرأة التي يمتلكها كفنان كونها المحك الأول والمهم لنجاح العمل الفني وتكامله.
ومن هذا المنطلق فأن علاقة الحرف بالوحدة التصميمية لأي عملية ابداعية يشترك في تنفيذها الحرف، تبنى وفق الضوابط الآتية :
أولا – التصوير والحرف :
يشاهد اغلب الناس في التلفاز الحروف تتحرك ، تنحني وتتغير أحجامها ، وبينما تعرض أجزاء بعض الحروف على نحو مضخم ومفاجئ سعيا وراء إحداث التأثير البصري وتصغر حروف أخرى متراكمة على بعضها إلى مستوى مشوه وفي اقل من ثانيه ، وهذا يرمز بصورة واضحة إلى الإسهام الحاذق والمتزايد لفن الخط في عملية الاتصال مع المتلقي، فالتقدم الحاصل في التقنيات الفنية المختلفة ومنها التقنيات الفوتوغرافية.. حرر المصممين من قيود الحروف المرسومة أو الطباعية، فأضعاف التركيز البؤري في بضعة أحرف من شأنه تغيير نمط الاتصال ، ولنفس الغرض يمكن تحويل الأشكال الجامدة إلى أشكال منحنية أو مطاطية فالفواصل الزمنية التي تحتاجها عين المتلقي لكي تنتقل من شكل إلى أخر ، هي التي تحدد طبيعة الإيقاع الفني المؤثر في المشاهد.. والذي يمثل بدوره حركة ذهنية واضحة في تكرار دوري منتظم يضفي معالم جمالية في تناسق العلاقات التصميمية للعمل الفني كما في التصاميم الطباعية او بعض الاعلانات الفنية المتحركة.
ثانيا- المضمون النسيجي :
إن الحروف الصغيرة المرتبة في صفوف لا تنقل معلومات حسب، بل تؤدي وظيفة النسج حيث تختلط الأشكال الصغيرة بالمساحات المحيطة بها لتكون نسيج من مساحات لونية كبيرة ذات لون مختلف، وهذا النسيج الناشئ يختلف باختلاف أسلوب الحروف الأبجدية والمسافات التي بينها بطبيعتها الفنية الجمالية، فالحرف هنا قد بني بمدلوله الهندسي وبقيمة واحدة من قيم العناصر البنائية.. وهو ما يمثل طاقته الحركية، ويبين الى أي مدى تخدم هذه الطاقة في بناء اللوحة الفنية، وايضاً تبين ما هي حدود واتجاهات الحركة التي تؤثر على الصورة النهائية للعمل الفني، ويبقى الموضوع في حدود التعامل مع كيان منجز، كما لو كنا ننظر إلى صورة فوتوغرافية جميلة بهذا الشكل.. تثير فينا أحاسيس مختلفة وتتحكم في تكوينها ثقافتنا العامة ومزاجنا الشخصي، فإذا اختار المشاهد أن يقرأ القطعة الفنية الماثلة امامه فسوف يستوعب المعنى الحرفي، وماعدا ذلك فأن الحروف تؤدي وظيفة جمالية شكلية ذات قيمة نسيجية، إذ يسعى المصمم لخلق وحدة من خلال الفكرة المقروءة في إيجاد ترابط بين جميع الأحرف والمساحات المختلفة الالوان ضمن فكرة واحدة في التعبير الشكلي والتكامل الوظيفي في البناء، والمادة الكتابية تستخدم بوصفها احد عناصر بناء الفكرة وقد تكون مرادف موضوعي للفكرة المصممة ، وقد تكون الكتابة كلمة للبناء البصري موضحة له وتسد ثغراته ، وغالبا ما تكون الكتابة العنصر الرئيسي أو تكون العنصر التصميمي الوحيد ، وهذه المعالجة الأخيرة تستخدم غالبا عندما تكون مادة الموضوع واسعة جدا أو معقدة ليعبر عنها بصورة منفردة .
ثالثا – الكلمات صور والصور كلمات :
في هذا الموطن الفني يزخر التراث الخطي للحضارة العربية الإسلامية بالكثير من الروائع الفنية التي تستخدم الحروف من وحدات زخرفيه أو أشكال طبيعية أو إنسانية، وهي بدورها تقدم دلائل على طواعية الحروف العربية في تكوين عناصر فنية تشكيلية متميزة قادرة على اثراءالأشكال البصرية للوحة، فالحروف تملك أشكالا ذات حدين احدهما بصري والآخر عقلي أي بمعنى الحسي والإدراكي.
وهنا يعد شكل الحرف نقطة الارتباط بين بصر المتلقي والعملية الفنية، فالحرف في اللوحة يعد العنصر الفاعل الذي يسهم في تكوين المساحات ويستطيع أن يسيطر ويقود العلاقات بين أجزائها ويمنحها شخصيتها ويكملها، اضافة الى مساهمته في خلق القيم الجمالية عندما تتلاءم تلك الأجزاء بنظام جمالي معين يمكن الاعتماد عليه فالحرف العربي يمتاز بهيبته وحضوره الجمالي المميز بين الاشكال الفنية الاخرى.
رابعا – الحديث بالحروف
إذا كان الواقع الخارجي يفرض نفسه على الفنان منذ البداية، فالفنان في حاجة إلى لغة يخاطب بها المتلقي، وكما استخدم الأديب الكلمات ينقل بها أفكاره وأحاسيسه إلى الناس ، استخدم الرسام الخطوط والألوان والمساحات والكلمات لخلق صورة يضمنا ما يريد.. فالعمل الفني بوجه عام هو تنظيم عناصر الوسط المادي التي يتضمنها العمل الفني ، ويتحقق الارتباط المتبادل بينهما، حيث ان الفنان يميل أحيانا لاستثمار التعاون بين الحرف والصورة كشكل من أشكال التعبير، وهكذا نجد بعض اعمال الفنانين مثل الفنان العراقي سلمان عباس قد عامل الحرف معاملة كرافيكية وهي مليئة بالإحساس الخطي، حيث الأسلوب الذي يعتمد على الطباعة ونقل الأثر الذي اضاف إلى خطوطه الرموز الشعبية المعروفة أوالتشكيلات البنائية في العمارة الإسلامية كالأقواس والقباب ومن الفنون الشعبية كالخرزة الزرقاء والكف والهلال وغيرها من العناصر الشعبية التراثية العراقية.
خامسا – عدم تناسق الحروف :
لقد استوحى المصممون من بعض الحركات الفنية العالمية بعض من تجاربهم الفنية، في المزج بين أنماط الحروف التي يتم تغريبها، حيث استخدموا أنماطا من الحروف مختلفة الانواع والحجوم، اضافة الى استخدام صور الحروف المجزئة المقتطعة من مساحات فنية اخرى، ويبدو ان ذلك يعزى الى انها تضفي شخصية متميزة على التصميم ولتحقيق التوازن الذي يعني في هذا المجال.ز توزيع العناصر المختلفة على جانبي الاعمال الفنية كما في الإعلانات أو بعض المطبوعات التجارية بطريقة تجعل كل منها يحصل على نفس عناصر القوة، مما يجعل الفنان يدفع بتصوراته الجمالية الى الذهاب نحو لغة اصطلاحية متميزة تحمل طاقة جمالية كامنة تؤدي إلى خلق عنصر جذب للمتلقي وإيصال سريع للفكرة .
سادسا – الحروف الموصولة :
وتشتمل الحروف الموصولة في النتاجات الفنية التصميمية على أشكال معينة معروفة ومؤثرة في المشاهد، فقد وجد المصممون المعاصرون إن وصل بعض الأشكال الثقيلة بخلق نوعا جديدا من الحروف وقد تم توظيف تواصل أشكال الحروف لإنتاج اشكال فنية أخاذة لعدد من الرسائل المراد ايصالها الى المتلقي، فالحروف المتصلة توحي بالإحساس بالقوة المتحركة المتصلة ؟؟ في حين تظهر الحروف المشذبة حياة جديدة لها في هذا النوع من الاستخدام، وهي كمحصلة للفنان تشكل جزأً أساسياً من ذخيرته الفنية التي أصبحت تتعرض للتغيير ومن ثم تحقيق التأثير الذي يريده في المتلقي .
سابعا– مضمون الشكل :
لقد تعامل الفنان مع الشكل بوصفه نصا للخطاب البصري ولا تحجب فيه دلالاته التي يحملها، بمعنى أخر وحسب الراي الفني الشائع عند الفنانين.. إن الشكل ما هو إلا صورة الحدث أو واقع إنسانية المحيط ، فالمضمون التركيبي للحروف يختلف عن باقي الاشكال او العناصر الاخرى المرسومة كالأشجار اوالابنية وغيرها، ففي بعض أنماط الكتابة يتاح لنا اللعب بمنحنيات الحروف وامتداداتها ونستطيع تكبيرها وتصغيرها كما نشاء بعيداً عن مسلمات المنظور او النسب الفنية او غيرها من القواعد الفني، ولكن لابد من مراعاة مستوى التنظيم الشكلي، فالعمل التصميمي يمثل منظومة من العلاقات المترابطة، فكل عنصر من عناصر العمل الفني يعمل على جذب الأخر داخل السطح التصويري للحصول على بنية بصرية متماسكة ، فمن المسلمات الفنية ان رؤية الاشكال تتم على الأساس الشكلي الفعلي للمثير المرئي ، وكذلك على أساس قوتي التنظيم الجوهرية المتمثلتين بالشد الفراغي والتشابه بين الاجزاء.. والقوى الناتجة التي تأتي من طاقة عصبية تستمد من الإدراك وتعمل عن طريق العاملين المتمثلين بالجاذبية وقيمة الانتباه عند المتلقي.
ثامناً– الزخرفة والفكرة :
اما في مجال الزخرفة والفكرة التي تحملها ، فإن من شأن أشكال الحروف إيصال بعض الخصائص الى المتلقي على نحو منفصل عن تلك التي توصلها مجموعات الكلمات، وهذه احدى سمات الحرف العربي العريقة فنجد في القرآن الكريم عديد من الآيات المباركات قد بدأت بحرف واحد او حتى سميت بها بعض السور القرآنية مثل سورة ( ق) او سورة ( ص)، وقد حاول الخطاط العربي المسلم بدوره أن يقدم الحرف العربي تقديما تشكيليا مبدعا يزاوج ما بين أصولية الحرف والقواعد الموزونة وبين الاتجاه التجريدي في الفن، فخاصية التجريد التي تمتاز بها الحروف العربية في النظام ألحروفي.. قد جعلت طبيعة التكوين الفني طبيعة تجريدية مثالية متسامية تتجاوز في معناها البعد الكتابي والوظيفي المحض وتضيف إليه بعدا جماليا متناميا تناميا رؤيويا وعقائديا، يظهر جلياً للمتلقي من خلال الجماليات المتعددة والخواص البلاستيكية والكرافيكية التي يتمتع بها الحرف العربي العريق .
من هذا نستطيع الجزم إن صيغ التعبير الجمالي للحروف بشكل عام والعربية منها بشكل خاص ، قد تكونت على نحو استعدادي يتم فيه استدعاء واستعادة كل ما ترتب من حروف بعملية بناء فنية ابداعية.. وفق أنساق معرفية لمكونات التصميم الفني المراد اخراجه من قبل الفنان، وإن الهدف من ذلك هو تأكد الجوانب الإبداعية الجمالية لفن ترتيب الحروف لوضعها في إطار ابداعي متكامل، انطلاقاً من الموهبة الاساسية للفنان التي تمنحه الثقة وتطلق مخيلته الثرة في بناء اشكال حروفية معبرة شكلا ومضموناً وذات صبغة جمالية بمقدورها جذب الانتباه وتحقيق أعلى قدر من الاستجابة في عملية الاتصال مع المتلقي.. تلك هي حروفنا العربية.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق