اتسمت مراحل الفنون الممتدة من زمن الانسان الاول حتى العصر الحالي، بسعة نطاق الاتجاهات الثقافية والفكرية التي مثلتها واثرت بها، اذ شكلت قدرا بالغا من التحديات التي دعت رواد كل مرحلة منها إلى تجاوز الاتجاهات الفنية التقليدية السابقة لها وتبني اخرى بأيديولوجيات جديدة بديلة عنها، وقد تم هذا بإيقاع متسارع نتيجة التراكم المعرفي الذي أدى إلى مسائل جوهرية حول حتمية التحديث في الفن لمسايرة العصر وتطلعات الإنسان، إضافة إلى ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية وما يصيبها من تخلخل أو ازدهار في بنيتها، والتي تؤدي بدورها إلى فتح مجالات الإبداع الفني التشكيلي في اتجاهات واساليب مختلفة.
أن هذا الحراك في أساليب الفن الممتد منذ العصور البدائية وحتى اليوم، والذي انبثق بسبب اختلاف وتعاقب الثقافات وخصوصيتها، واختلاف مستوى الدوافع الإنسانية للفن ومستوى الإرادة الإبداعية للفنان، نجده قد حقق تحولا مطردا وسريعا من خلال حركة الفكر والمنجز الثقافي للحضارات المختلفة ومنها حضارة وادي الرافدين.. والتي وظفت بوادر المعرفة الأولى في عصور ما قبل الكتابة وتقدمت بشكل واضح عبر المراحل التاريخية اللاحقة، وهذه التحولات كانت ومازالت واضحة في الأساليب الفنية على مستوى الشكل والمضمون في مجال الرسم او النحت او الخط او الأبنية المعمارية المختلفة، وهي بمجملها – الاساليب الفنية - تخضع لبعض العوامل المؤسسة لها، وهي كما مثلتها اغلب الدراسات الفنية تتلخص بالبيئة المحيطة بالفنان والتراث او الموروث وثقافة الفنان الخاصة.
1. البيئة:
لا شك ان للبيئة أهمية كبيرة في بلورة أسلوب الفنان.. فهي تعد من الأمور المهمة التي شغلت الفنان، كونه عايش واحتك بالبيئة طيلة فترة حياته ومن خلالها يسمو بأفكاره وطرق أدائه وتقنياته الفنية، فهي تمثل مجموعة من العوامل المحيطة التي تؤثر في أسلوب الفنان بشكل أو بآخر ومن خلال تعزيز مدركاته الحسية، حيث أنها تدعم وتعزز أفكار الفنان من خلال ما يقوم ويحور ويضيف، فحينما يتجه الفنان نحو إنجاز أي عمل فني يصب جل اهتمامه في التعرف على ما هو موجود في البيئة ومن ثم يتعرف على التكنولوجيا والتقنية والأداء لكي يمارس عمله الفني بأسلوب معين، فالعلاقة بين الفنان وبيئته توافقية ومتبادلة تؤثر على عملية إعادة التركيب الحاصلة في الطرفين عبر التكيف، فتجربة الفنان التي تستقي صيغها من البيئة المحيطة به تؤسس أسلوبه الفني، لان استحصال التجربة عند الفنان يتوقف على تفاعله مع بيئته وتحويل ذلك العمل إلى ذاته.
فالبيئة هي الأرضية المشتركة التي يتفاعل فيها سائر البشر على الرغم من تعدد المظاهر والمتغيرات، فالبيئات الاجتماعية وما فيها من كل خصائص ومميزات جعلت الثقافة والفنون وما في حكمها وليدة البيئة والإنسان معا، وأنها تتكيف وفقا للظروف الاجتماعية لكل جيل أو لكل حقبة زمنية، وبالتالي فهي تلعب الدور المهم والأساسي في تنشئة أسلوب الفنان لأنها تعتبر الحاضنة التي تصنع اسلوب الفنان وتهذب اسلوبه.
2. التراث:
اما التراث فهو يمثل الذاكرة الحية للفرد والمجتمع.. وبالتالي فهو يمثل هوية ذلك المجتمع دون غيره، والتراث في المفهوم الاجتماعي مجموعة من النظم الثقافية والأعراف الاجتماعية المتناقلة من جيل إلى أخر التي اتخذت موقعها في المجتمع، وأصبحت جزءاً من كيانه، فالتراث يؤكد إلى حد بعيد مفهوم الهوية الحضارية والثقافية لدى كل أمة في عصرنا الراهن، وهو بهذه الصفة يحمل شرعيته الإنسانية والفكرية، والحسية وآفاق الإبداع الثقافي بالإجمال، فهو يعد إرثاً مرئياً ومعاشاً يحيط بكل جوانب حياتنا وذاكرتنا وأرواحنا.
وفي مجال الفن فعادة ما يستمد الفنان المبدع من تراثه والواقع الذي يعيشه، مواضيع ومفاهيم تتمثل بمجموعة من الإشارات والرموز التي يتعامل بها مع المجتمع، فهو يتعامل مع طبقة ذات هوية تاريخية وذات مفهوم انبعاثي ينطلق من نظرة علمية تربط بين الماضي والحاضر، ومن خلال ذلك نجد إن التراث ما هو الا عطاء قومي حضاري متزايد.. يتجهز به الإنسان في مجتمع من المجتمعات لخوض غمار المستقبل، وهو دائم ومتنامي ولا يرتبط بمرحلة واحدة من مراحل التاريخ ، وإنما ينتمي إلى جميع مراحل الإنسان بدا من فجر وجوده، وبهذا فهو يشكل روح الحضارة والتاريخ.
3.الثقافة:
ولا شك في هذا المجال بأن ثقافـة الفنـان الذاتية تمثل العامل الأساس في ابداعه وصياغة اسلوبه الفني، فمن خلال ثقافته يدرك الأشياء المحيطة به.. ولا بد له من فهم واقع الأمة وماضيها وحاضرها، فالفن جزء من التطور الثقافي المستمر وهو خبرة متفاعلة بين الفنان وبيئته ومجتمعه، والفنان بفضل ثقافته يصارع المادة بفكره ويده.
ولو عرفنا الأسلوب على أنه يمثل ملامح الفكر، فانه يمثل هنا الفكر السائد في مجتمع ما في مرحلة ما، ينتمي أليها الفنان ويحملها بوصفها عقيدة ينتسب أليها ومنها تتحول إلى جزء يمثل خبرته الثقافية، والتي تعد بحد ذاتها عاملاً أساسياً مهماً في تطور وتوسيع مديات الرؤى الفنية لدى الفنان.. التي يرسلها إلى المتلقي في اطار نتاج فني يمثل تلك الأفكار.. فارضاً أسلوبه الخاص في أطار المعالجة الفنية، فثقافة الفنان ورؤاه وتجاربه تحدد موضوعاته وأساليبه في العمل الفني.
لهذا فالثقافة تعد عاملا أساسيا يتمكن الفنان من خلاله إدراك الأشياء والأحداث التي تحيط به وتواجهه في حياته العملية والفنية.. ومن خلال أفكاره وتصوراته وما ينتج عنها من قيم فنية وما سيتم فعله من خلالها.. تكتسب ثقافة الفنان ديمومتها وبكل مظاهر وظواهر المجتمع، فالثقافة لها الأثر الاكبر في تعبير الفنان فهي من الأسس الرئيسة للتطور الاجتماعي.. وانعكاسها يكون من خلال المتغيرات في النزعات والميول الخيالية التي تسببها في الاتجاهات الخطية الماثلة في تطور الأساليب الفنية .
اعداد
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق