منطلقات النهضة الحسينية و خلفياتها

اطّلعنا في القسم السابق من هذه المقالة على طبيعة الموقف الحسينيّ في زمان معاوية ابن أبي سفيان، وقد عرفنا أنَّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن يُفكِّر في الثورة المسلحة على معاوية للأسباب التي ذكرناها هناك، وأنّه كان يقود خطَّ المعارضة السياسيّة، وكان يُرجئ الثورة إلى ما بعد معاوية، إذ ستكون الظروف مُعدّة أكثر لذلك. ونريد في هذا القسم الرابع أن نُسلِّط الضوء على الاستعدادات التي قام بها الإمام أبو عبد الله (عليه السلام) لتهيئة الأُمّة وتعبئتها لمرحلة ما بعد معاوية بن أبي سفيان.

الإعداد للمرحلة القادمة

يُدرك الإمام الحسين (عليه السلام) أنّ المواجهة مع الخطِّ الأُمويّ قادمة، بل حتميّة، ليس من خلال الأحاديث الكثيرة التي تلّقاها من المصطفى (صلى الله عليه واله) فقط، بل كذلك من خلال مسؤوليته عن دين جدّه المصطفى (صلى الله عليه واله) وأُمته، التي يُشكّل المشروع الأُموي تهديداً جدّياً لها، فإذا قُدِّر لهذا المشروع أن يستمرّ بقيادة يزيد بن معاوية بلا مواجهة فعلى الإسلام السلام، كما قال هو (عليه السلام) في كلمته المعروفة لمروان بن الحكم: ((وعلى الإسلام السلام إذا بُليت الأُمّة براعٍ مثل يزيد))[1].

إنّ كلمات جدّه المصطفى (صلى الله عليه واله) لا زالت حاضرة في ذاته المقدّسة وهو يقول: ((إذا بلغ بنو العاص ثلاثين رجلاً اتّخذوا دين الله دغلاً، ومال الله دولاً، وعباد الله خولاً))[2] .وفي نصٍّ آخر: ((إذا بلغت بنو أُمية أربعين، اتّخذوا عباد الله خولاً، ومال الله نحلاً، وكتاب الله دغلاً))[3]. فإنّه لن يسكت عنهم وهم يتلاعبون بالدين الحقّ، ويستعبدون الأُمّة الإسلاميّة، ولئن لم تُتِح له الظروف مواجهة ذلك في زمان معاوية فإنّه سيقوم بذلك في زمان يزيد.

قضيّة أُخرى توجب حتميّة المواجهة، وهي أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم أنَّ بني أُميّة ليسوا بتاركيه أبداً إن لم يبايع ويسكت سكوت الجدار، بل حتى مع سكوته سوف لن يتركوه، فوجوده نفسه سوف يُعدُّ تهديداً لشرعيّة يزيد بن معاوية، وهذا ما عبّر عنه (عليه السلام) بعد ذلك في أكثر من موقف، فنراه ـ مثلاً ـ يقول لعمرو بن لوذان: ((والله، لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي))[4]. وفي نصٍّ آخر أنّه قال لابن الزبير: ((وايمُ الله، لو كنت في جُحْر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللهِ ليعتدُنّ عليَّ كما اعتدت بنو إسرائيل في السبت))[5].

إذن؛ لن يتركوه حتى يستلّوا روحه، وإذا كان ذلك سيقع على كُلّ حال فمن الجدير به أن ينهض لمواجهتهم، بدل أن يقتلوه على فراشه من دون أيّ ثمرة.

فالمواجهة قادمة لا محالة، فلا بدّ من إعداد الأُمّة لذلك، وخصوصاً قاعدته الشعبية التي كانت تطالب بقدومه كثيراً في زمان معاوية، وكان يرجئها إلى ما بعد موته، وقد عرفنا في مقال سابق أنّ لقاءات الإمام الحسين (عليه السلام) بالنّاس واجتماعاته بالناشطين منهم قد كثرت في سنيّ معاوية الأخيرة حتى اضطرّت السلطات في المدينة إلى التدخّل ومنع النّاس من اللقاء بالإمام الحسين (عليه السلام)؛ لأنّها شعرت بخطر جِدِّي وراء هذه الاجتماعات، فقد روى البلاذري أنّ الوليد بن عتبة والي المدينة الذي تولّاها في أُخريات حياة معاوية، وظلّ والياً عليها لما بعد معاوية حاول منع النّاس من الوصول إلى الإمام الحسين (عليه السلام) فوقف الإمام بوجهه قائلاً: ((يا ظالماً لنفسه، عاصياً لربِّه، عَلامَ تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلتَه أنت وعمّك؟))[6].

ولكنّ الحدث الأبرز في تعبئة سيد الشهداء (عليه السلام) للناس وتخطيطه للمرحلة القادمة عدا ما تضمَّنته تلك اللقاءات والاجتماعات هو المؤتمر الذي عقده في مكّة المكرّمة قبل وفاة معاوية بسنتين، وهو مؤتمر مهمّ جداً من حيث الزمان والمكان وطبيعة المدعوّين والحاضرين، وهذا ما سنركِّز عليه قليلاً فيما يأتي.

مؤتمر مكّة

روى بعض المؤرِّخين[7] ، أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) قبل موت معاوية بسنتين عقد اجتماعاً مهمّاً واستراتيجياً في زمانه ومكانه وطبيعة حضوره والكلام الذي قيل فيه.

أمّا بالنّسبة إلى زمان الاجتماع، فقد عُقِد في يوم الأضحى المبارك وهو اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون، وأمّا من حيث المكان، فإنّه عُقد في مكّة المكرّمة وفي صحراء مِنى بالذات؛ ممّا يُعطي للاجتماع بُعداً إعلامياً كبيراً، فلم يُعقَد سرّاً بين جدران أربعة، وإنّما عُقد في جوٍّ مكشوف وعلى مَقرُبةٍ من الحشود الجماهيريّة الكبيرة.

وأمّا بالنسبة إلى الحضور، فقد كان مميّزاً من ناحية العدد والنوعية، فمن حيث العدد حضر هذا الاجتماع  بصفة رسمية ألف أو يزيدون، بحسب رواية الطبرسي في الاحتجاج، وبحسب رواية سُليم سبعمائة، بالإضافة إلى غير المدعوّين من المحيطين بذلك الاجتماع أو الذين تناهت إليهم وقائعه.

ومن حيث نوعية الحضور، فلم تقتصر على شريحة معيّنة، وإنّما ضَمّت كُلّ شرائح المجتمع الإسلامي وأطيافه من المهاجرين والأنصار، والأحرار والمَوالي، والرجال والنساء، والصحابة والتابعين. جاء في الاحتجاج: ((فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين حجّ الحسين بن علي عليهما السلام، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن عباس. وقد جمع الحسين (عليه السلام) بني هاشم، رجالهم ونساءهم، ومواليهم وشيعتهم، مَن حجّ منهم ومَن لم يحجّ، ومن الأنصار ممَّن يعرفونه، وأهل بيته، ثمَّ لم يدْع أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه واله) ومن أبنائهم والتابعين ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنُّسك إلّا جمعهم، فاجتمع عليه بمِنى أكثر من ألف رجل، فقام فيهم خطيباً))[8].

يقول السيّد محمّد رضا الجلالي في هذا الصدد:(( يمكن اعتبار اجتماع مِنى هذا العظيم موقفاً سياسياً هامّاً من وجهين:

1ـ أنّه تظاهرة كبيرة تجمع عدداً كبيراً من ذوي الشهرة والوجهاء المعروفين بين الأُمّة، بحيث لا يمكن إغفال أثرها ولا منع النّاس من التساؤلات حولها.

2ـ أنّه أكبر مجلس يضمّ أصحاب الرأي من رجالات الأُمّة وشخصيّاتها، ممَّن له الحقّ في إبداء الرأي وسَنِّ القانون، وهم النُّخبة المقدّمة من أهل الحَلّ والعقد، ومن جميع القطاعات الفاعلة في المجتمع الإسلامي وهم: العلويون، والصحابة المهاجرون والأنصار  والتابعون، ومن النساء، وطبقة الأبناء، وطبقة الموالي. بحيث يمكن أن يُعتبر ذلك استفتاءً شعبياً عامّاً من خلال وجود ممثلين لكُلّ طبقات الشعب المسلم.

وتبدو الحكمة والحنكة في انتخاب الزمان والمكان لعقد ذلك المجمع العظيم، فأرض مِنى المفتوحة الواسعة وهي جزء من الحرم تسع لمثل هذا الاجتماع العظيم في ساحة واحدة، وفي وسط كُلّ الوافدين عليها من الحُجّاج المؤدّين للواجب، أو غيرهم القائمين بأعمال أُخرى. واجتماع رهيب مثل ذلك لا يخفى على كُلّ الحاضرين في تلك الأرض المفتوحة، وبذلك ينتشر الخبر ولا يُحصر بين الأبواب المغلقة أو جدران مكان خاص.

ولا بدّ أن يكون الاجتماع في زمان الحضور في مِنى وهو يوم العيد الأكبر يوم الأضحى العاشر من ذي الحجّة فما بعد، إذ على الجميع النّاسكين والعاملين معهم الوجود على أرض مِنى لأداء مناسكها أو تقديم الخدمات إلى الوافدين.

وفي انتخاب مثل هذا المكان في مثل ذلك الزمان مع نوعية الأشخاص المنتخبين للاشتراك في هذا الاجتماع دلالات واضحة على التدبير والاهتمام البليغ الذي كان يوليه الإمام لهذا الموقف))[9]

وأمّا بالنسبة إلى طبيعة الكلام الذي دار فيه، فسنذكر تمام الخطبة التي رُوي أنّ الإمام الحسين خطبها في هذا الحشد الجماهيريّ الواسع، ثمَّ نُعلِّق عليها. وهذه الخطبة قد رُويت مقاطع منها في كتاب سُليم بن قيس الهلالي، وكتاب الاحتجاج للطبرسي، وكتاب تُحَف العقول للحرّاني، وقد قام المحقق الشيخ محمد صادق النجمي بجمع هذه الخطبة وتحقيقها وطبعها، وسنعتمد في نقل النصّ على ما أثبته في تحقيقه هذا. وإليك نصّ الخُطبة:

((أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم. وإنّي أُريد أن أسألكم عن شيءٍ، فإن صدقتُ فصدّقوني، وإن كذبتُ فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، فمَن أَمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقِّنا. فإنِّي أتخوّف أن يُدرَس هذا الأمر، ويذهب الحقّ ويُغلب ﴿ وَاللَّـهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.

أُنشِدُكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله (صلى الله عليه واله) حين آخى بين أصحابه، فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أُنشِدُكم الله، هل تعلمون أنَّ رسول الله (صلى الله عليه واله) اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه، ثمَّ ابتنى فيه عشرة منازل، تسعة له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثمَّ سدّ كُلّ باب إلى المسجد غير بابه، فتكلّم في ذلك مَن تكلّم، فقال: ما أنا سددت أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثمَّ نهى النّاس أن يناموا في المسجد غيره، وكان يُجْنِبُ في المسجد ومنزله في منزل رسول الله (صلى الله عليه واله) فوُلِدَ لرسول الله (صلى الله عليه واله) وله فيه أولاد؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطّاب حرص على كوّة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى عليه، ثمَّ خطب فقال: إنَّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أُنشِدُكُم الله، أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) نصّبه يوم غدير خم، فنادى له بالولاية، وقال: ليُبلِّغ الشاهدُ الغائبَ؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أُنشِدُكم الله، أتعلمون أنَّ رسول الله (صلى الله عليه واله) قال له في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كُلِّ مؤمن بعدي؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أُنشِدُكم الله، أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) حين دعا النَّصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأتِ إلّا به وبصاحبته وابنيه؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أُنشِدُكم الله، أتعلمون أنّه دفع إليه الْلِّواءَ يوم خيبر، ثمَّ قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله، كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله بعثه ببراءة، وقال: لا يبلِّغ عنّي إلّا أنا أو رجل منّي؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) لم تنزل به شدّة قطّ إلّا قدّمه لها ثقةً به، وأنّه لم يَدْعُه باسمه قطّ إلّا يقول: يا أخي، وادعوا لي أخي؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) قضى بينه وبين جعفر وزيد، فقال: يا عليّ، أنت منّي وأنا منك، وأنت وليّ كُلّ مؤمن بعدي؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّه كانت من رسول الله (صلى الله عليه واله) كُلّ يوم خَلوة وكُلّ ليلة دَخلَة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت ابتدأه؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) فضّله على جعفر وحمزة حين قال: لفاطمة عليهما السلام: زوّجتك خير أهل بيتي، أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) قال: أنا سيّد وُلْد بني آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنّة؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) أمره بغسله وأخبره أنّ جبرئيل يُعينه عليه؟

قالوا: اللهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله (صلى الله عليه واله) قال في آخر خُطبة خطبها: إنّي تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟

قالوا: اللهمّ نعم.

ثمَّ ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول: مَن زعم أنّه يحبّني ويُبغض عليّاً فقد كذب، ليس يحبّني ويبغض عليّاً، فقال له قائل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، مَن أحبّه فقد أحبّني، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله، ومَن أبغضه فقد أبغضني، ومَن أبغضني فقد أبغض الله؟

قالوا: اللهمّ نعم، قد سمعنا...

اعتبروا أيّها النّاس، بما وَعَظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ﴾. وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إلى قوله: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾. وإنّما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنّهم كانوا يرون من الظّلمة الّذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً ممَّا يحذرون، والله يقول: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾، وقال: ﴿الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾. فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنّها إذا أُدِّيت وأُقيمت استقامت الفرائض كُلّها هيِّنها وصعبها؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردِّ المظالم، ومخالفة الظالم وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس النّاس مهابة، يهابكم الشريف، ويُكرمكم الضعيف، ويؤثركم مَن لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، وتمشون في الطَّريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر.

أَليس كُلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم مِن القيام بحقّ الله؟ وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصِّرون فاستخففتم بحقّ الأئمّة، فأمّا حقّ الضّعفاء فضيّعتم، وأمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله.

أنتم تتمنّون على الله جنّته ومجاورة رُسله وأماناً مِن عذابه، لقد خشيت عليكم ـ أيُّها المتمنّون على الله أن تحلّ بكم نقمة من نقماته؛ لأنّكم بلغتم من كرامة الله منزلةً فُضِّلتم بها، ومَن يَعرفُ بالله لا تُكرِمُون، وأنتم بالله في عباده تُكرَمُون. وقد ترون عهود الله منقوضةً فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون وذمّة رسول الله مخفورة، والعُمي والبُكم والزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعلمون، ولا من عمل فيها تُعينون، وبالادّهان والمصانعة عند الظلمة تأمَنوُن. كُلّ ذلك ممَّا أمركم الله به من النَّهي والتَّناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم النّاس مصيبةً لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون، ذلك بأنّ مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأُمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة وما سُلبتم ذلك إلّا بتفرُّقكم عن الحقّ واختلافكم في السُّنّة بعد البيِّنة الواضحة.

 ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤُونة في ذات الله كانت أُمور الله عليكم تَرِدُ وعنكم تصدر وإليكم ترجع، ولكنَّكم مكَّنتم الظَّلمة من منزلتكم، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم، يعملون بالشُّبَهات، ويسيرون في الشَّهوات، سلّطهم على ذلك فرارُكم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مُفارِقتُكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فمِن بَين مُستَعْبَد مقهور، وبين مُستَضْعَف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في المُلْك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجبّار، في كُلّ بلد منهم على منبره خطيب مصقع. فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والنّاس لهم خَوَل، لا يدفعون يدَ لامس، فمِن بين جبّار عنيد، وذي سطوة على الضَّعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعُيد.

فيا عجباً وما لي لا أعجب؟ والأرض من غاشٍّ غشُوم، ومتصدِّق ظَلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

اللهمّ، إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحُطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسُننك وأحكامك. فإنّكم إن لا تنصرونا وتُنصِفُونا قَويت الظلمة عليكم، وعَمِلوا في إطفاء نور نبيكم. وحسبنا الله وعليه توكُلّنا وإليه أنبنا وإليه المصير))[10].

نقاط مهمّة

أمام هذه الخطبة المُهمّة نحاول أن نورد بعض الملاحظات السريعة في نقاط، فإنّ تفصيلها بكاملها يحتاج إلى مجال لا تسعه هذه السطور:

في بداية هذه الخطبة نراه (عليه السلام) يؤكِّد على ظلامة أهل البيت  (عليهم السلام) وشيعتهم وما عانوه في ظّل ذلك الحكم الطاغوتي، وهو أمر كان واضحاً لدى جميع المسلمين، فلا يخفى على واحد من المسلمين ما فعله النظام الأُموي وأدواته القمعيّة بشيعة أهل البيت  (عليهم السلام)، ومن هنا اختصر ولم يُطنب، فقال لهم: ((ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم)). فلا حاجة إذاً لتفصيل الأفعال الطاغوتية للسلطة الأُموية؛ لأنّها واضحة للجميع آنذاك، وقد وقعت بمرأى وبمسمع منهم. بعد هذه المقدّمة القصيرة يبدأ (عليه السلام) ببيان فضائل أهل البيت ومكانتهم في الإسلام، تلك المكانة العليا التي شادها الله ورسوله، والتي تجعلهم الأَولى والأحقّ والأجدر بتبوّء هذا المنصب الكبير في الأُمّة الإسلاميّة، تلك الفضائل التي جهد المشروع الأُموي على طمسها وإخفائها وتشويهها في أذهان المسلمين، وخصوصاً الأجيال الشابّة منهم. ولم يكتفِ بأن عرض عليهم تلك الفضائل، وإنمّا استشهدهم عليها وأقرّوا بها. وقد ركّز على حديث الغدير الذي يمثّل السند الأساس لولاية الإمام علي (عليه السلام) كما ركّز على حديث الثقلين الذي يؤكد مرجعية أهل البيت  (عليهم السلام). بعد ذلك نراه (عليه السلام) يوجّه انتقاداً لاذعاً إلى علماء الأُمّة ووجهائها، ويندّد بسكوتهم وخنوعهم، وإقرارهم للظلم، وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم مواجهتهم للانحرافات الكبرى التي أحدثها بنو أُمية: ((ثمَّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس النّاس مهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم مَن لا فضل لكم عليه... أليس كُلّ ذلك إنّما نلتموه بما يُرجى عندكم من القيام بحقّ الله؟ وإن كنتم عن أكثر حقّه تُقصّرون فاستخففتم بحقّ الأئمّة، فأمّا حقّ الضُّعفاء فضيّعتم، وأمّا حقُّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله)).

فعلماء الأُمّة لهم الصدارة فيها، تهابهم النّاس وإليهم ترد وعنهم تصدر، وهم أَولى النّاس بالقيام بحقّ الله تعالى ومواجهة المنكر والدفاع عن المظلومين، فسكوتهم وسكونهم وعدم استعدادهم للتضحية في سبيل الله والمخاطرة بالنفس من أجله هو الذي جرَّ على الأُمّة الويلات في زمان بني أُمية؛ وجعلهم يتحكّمون في مقدّرات البلاد ورقاب العباد، وهذا ما قرّره في كلمته السابقة.

 ثمَّ ذكّرهم بعظيم مسؤوليتهم تجاه الأُمّة، وواجبهم التغييري تجاه الأوضاع المُزرية التي ترزح تحتها، واستنكر عدم استعدادهم للتضّحية في سبيل التغيير، وخوفهم من الموت الذي أصابهم بهذا الشلل المقيت: ((ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، وأسلمتم أُمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات، سلّطهم على ذلك فرارُكم من الموت وإعجابكم بالحياة التي هي مُفارِقتُكم، فأسلمتم الضُّعفاء في أيديهم فمن بين مُستَعْبَد مقهور، وبين مُستَضْعَف على معيشته مغلوب، يتقلّبون في المُلْك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداءً بالأشرار وجرأةً على الجبّار)). كذلك أوضح لهم أنّ هذا الاستخفاف الأُموي بوجهاء الأُمّة وعلمائها، وعدم احترامه لأيِّ رمز فيها إنّما سَببه هم لا غير، فموقفهم كان ضعيفاً ومهزوزاً؛ ممَّا جعل الحُكّام لا يُعيرون لهم أيَّ أهمّية، ولا يحسبون لهم أيَّ حساب، ولو صبروا وتحمّلوا وواجهوا لكانت الأُمور بأيديهم لا بأيدي صبيان بني أُمية: ((ولو صبرتم على الأذى وتحمّلتم المؤونة في ذات الله كانت أُمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع)).  ثمَّ يذكّرهم بالفريضة الإلهية المنسيّة والمعطّلة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تلك الفريضة التي إن أُقيمت لم يبقَ فساد ولا ظلم في ربوع المجتمع، وما هذا الفساد المنتشر والظلم المستحكم إلّا ثمرة من ثمرات تركهم لهذه الفريضة الإلهية الكبيرة والمهمة: ((فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنّها إذا أُدّيت وأُقيمت استقامت الفرائض كُلّها هيِّنها وصعبها؛ وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم ومخالفة الظالم... كُلّ ذلك ممَّا أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم النّاس مصيبة؛ لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون)). ثمَّ يوضِّح لهم أنَّ الساحة لا تبقى خالية وشاغرة، فإذا لم يشغلها الصالحون وتقاعسوا عن مسؤولياتهم فسوف يشغلها الظالمون ولا شكّ في ذلك: ((فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة)). وبالتالي فأيّ موقف سلبي واعتزالي من قِبل الصالحين سوف يؤدّي بالنتيجة إلى أن يملأ الفاسدون تلك المواقع في الأُمّة. ثم يبيِّن لهم أخيراً أنّ أهل البيت  (عليهم السلام) ليسوا طامعين في منصب أو كرسيّ، وليسوا من الذين تَتْوُقُ نفوسهم إلى السلطان، وإنّما كُلّ همهم هو إصلاح أمر هذه الأُمّة وتقويم مسارها وردّ المظالم لأهلها، ويكرّر كلمة أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام): ((اللهمّ، إنك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحُطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك)).  ويبيّن لهم في الخاتمة أنّ تقاعسهم عن نصرة أهل البيت  (عليهم السلام) سوف يعود بالضرر عليهم أنفسهم وعلى الأُمّة من بعدهم  قبل أن يرجع إلى أهل البيت: ((فإنّكم إن لا تنصرونا وتنصفونا قويت الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيكم. وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير)). ومِن أهمّ الفقرات في تلك الكلمة المباركة هو ما ذكره أوّلاً من دعوته للمجتمِعين بأن ينتشروا في الأرض ويدعوا لأهل البيت  (عليهم السلام) مَن يثقون به، ويكشفوا للنّاس زيف الحكومة الأُموية الظالمة، ويبيّنوا لهم منزلة أهل البيت  (عليهم السلام) وحقّهم المضيَّع والمغتصب: ((اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي، ثمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم، فمَن أمنتم من النّاس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا)). معاوية في أيّامه الأخيرة

حاول معاوية جاهداً أن يُمهِّد الأُمور ليزيد، وقد أخذ له البيعة بالترغيب والترهيب من أغلب الأمصار الإسلاميّة المهمّة آنذاك، سوى المدينة وبعض شخصياتها، لكنّ معاوية يعلم جيداً أنّ الأُمور لن تكون سهلة من بعده، وأنّ مستقبل يزيد لن يكون مزروعاً بالورود، فالأُمّة كانت ساخطة في دواخلها على تلك البيعة المشؤومة، وإذا كان بإمكانه أن يضبط الأُمور في حياته فمن الصعب على يزيد أن يفعل ذلك.

من هنا؛ فإنّ معاوية كما روى بعض المؤرِّخين حاول أن يقدِّم لولده بعض النصائح الضرورية لاستحكام حكمه، فقد روى الطبري في تاريخه عن ابن مخرمة: ((إنّ معاوية لمّا مرض مرضته التي هلك فيها دعا يزيد ابنه، فقال: يا بُني، إنّي قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطَّأت لك الأشياء وذلَّلت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد. وإنّي لا أخاف أن يُنازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلّا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.

فأمّا عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبقَ أحد غيره بايعك.

وأمّا الحسين بن علي، فإنّ أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه، فإنّ له رحماً ماسّة وحقّاً عظيماً.

وأمّا ابن أبي بكر، فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثلهم، ليس له همّة إلّا في النساء واللهو.

وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب فذلك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إرباً إرباً))[11]

 وفي أمالي الصدوق رحمه الله، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) أنّ معاوية أوصى يزيد قائلاً: ((يا بُني، إنّي قد ذلّلت لك الرقاب الصعاب، ووطّدت لك البلاد، وجعلت المُلْك وما فيه لك طعمة، وإنّي أخشى عليك من ثلاثة نفر يخالفون عليك بجهدهم، وهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، والحسين بن علي.

فأمّا عبد الله بن عمر، فهو معك فالزمه ولا تدعه.

وأمّا عبد الله بن الزبير، فقطّعه إن ظفرت به إرباً إرباً؛ فإنّه يجثو لك كما يجثو الأسد لفريسته، ويواربك مواربة الثعلب للكلب.

وأمّا الحسين، فقد عرفت حظّه من رسول الله، وهو من لحم رسول الله ودمه، وقد علمت لا محالة أنّ أهل العراق سيُخرجونه إليهم ثمّ يخذلونه ويضيّعونه، فإن ظفرت به فاعرف حقّه ومنزلته من رسول الله، ولا تؤاخذه بفعله، ومع ذلك فإنّ لنا به خُلطة ورحماً، وإيّاك أن تناله بسوء أو يرى منك مكروهاً))[12] .

إنّ تحليل معاوية لحقيقة كُلّ واحد من تلك الشخصيات تحليل دقيق، فابن عمر لا يُخشى منه، وهذا ما يشهد به تاريخه؛ إذ لم يُعهد منه أنّه وقف موقفاً صريحاً وجريئاً من الظالمين حتى في أخطر الظروف التي مرّت بها الأُمّة. وأمّا ابن الزبير، فهو شخصية انتهازية مراوغة. وأمّا الحسين (عليه السلام)، فهو ابن رسول الله وسيّد شباب أهل الجنّة، وله قاعدة جماهيريّة تتفاعل معه، وهو لا شكّ خارج على يزيد.

لكنّنا نتساءل هنا: هل وصية معاوية بالرفق بالإمام الحسين (عليه السلام) وعدم التعرّض له بسوء إن صحّت نابعة من حرصه على الحسين (عليه السلام) كما يبدو منها، أم من حرصه على يزيد ومُلكه؟ إنّنا نرى الثاني، فمتى كان معاوية حريصاً على الحسين (عليه السلام) أو مراعياً لقرابة رسول الله (صلى الله عليه واله)؟ وإذا كان مهتمّاً بقرابة رسول الله فلماذا دسّ السمّ إلى أخيه الإمام الحسن (عليه السلام)؟ أليس الحسن ابن رسول الله؟

إنّ القضيّة أعمق من ذلك، إنّه يعرف التبعات الكارثية لمقتل الإمام الحسين (عليه السلام) على المشروع الأُموي برمّته وعلى مُلك يزيد بالذات؛ نظراً لمكانته الكبيرة في الأُمّة ولحبّ النّاس له وتطلّعهم نحوه، وهذا ما نراه واضحاً في النّص الذي رواه ابن أبي الحديد من الوصية، حين وصف معاويةُ فيها الإمامَ الحسين (عليه السلام) بالقول: ((مَن القلوب إليه مائلة، والأهواء نحوه جانحة، والأعين إليه طامحة، وهو الحسين بن علي))[13]. ولهذا أوصاه أن لا يتعرّض له بسوء، بينما نراه يحثّه على أن يقطّع ابن الزبير إرباً إرباً؛ لأنّ قتله وتقطيعه سوف لن تكون له أيُّ ارتدادات خطيرة على السلطان الأُموي.

الانتقال السلس للسُلطة

مات معاوية بعد مُدّة من المرض في شهر رجب سنة ستّين للهجرة، وكان يزيد غائباً عن العاصمة، فكتبوا له بذلك فحضر، ثمَّ صعد المنبر وخطب النّاس وعزّاهم، وتولّى السُلطة بعد أبيه بطريقة سَلِسَة ومن دون أيّة مشاكل. وذلك أنّنا قلنا: إنّ معاوية مَهَّد له الطريق والأسباب وذلّل له الرقاب. ولكنّه رغم ذلك لم يطمئن على مستقبل حُكمه؛ لأنّ هناك في المدينة مَن رفض البيعة له، ولا يمكن أن يرتاح باله ما لم يأخذ البيعة منه.

إنّ يزيد يعلم جيداً أنّ هناك ناراً تحت الرماد، وسخطاً متوارياً في النفوس تجاه تسلّمه السلطة، وأنّه إن لم يأخذ البيعة من أهل المدينة فسوف لن يستقرّ ملكه، لما تمثِّله المدينة من ثقل في المجتمع الإسلامي آنذاك، فهي مدينة الرسول (صلى الله عليه واله) وعاصمة حُكمه، وهي مقرّ علية القوم من الصحابة والتابعين، وأنّ فيها الحسين (عليه السلام) الذي القلوب إليه مائلة، والأهواء نحوه جانحة، والأعيُن إليه طامحة، كما ورد في وصيّة أبيه له، فإذا لم تبايع المدينة وأهل الحَلّ والعقد فيها فلن تتمّ له الأُمور؛ لذلك كان حريصاً أن يأخذ البيعة من أهل المدينة بأسرع وقت ممكن؛ فكان أوّل عمل قام به بعد تولّيه السلطة هو أن كتب إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة بأخذ البيعة من أهلها.

لقد أرسل يزيد كتابين إلى الوليد: كتاباً عامّاً يأمره فيه بأخذ البيعة من أهل المدينة عامّةً، وكتاباً خاصاً وصفه المؤرِّخون كأنّه أُذن فأرة يأمره بأخذ البيعة من الإمام الحسين (عليه السلام)، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير خاصّة، قال الطبري: ((وكتب إليه في صحيفة كأنّها أُذن فأرة: أمّا بعد، فخُذْ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا. والسلام))[14]. وقال اليعقوبي: ((كتب إلى الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان وهو عامل المدينة: إذا أتاك كتابي هذا فأحضر الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما وابعث إليَّ برؤوسهما))[15]

إنّ وصفهم للكتاب بأنّه كأُذن فأرة عبارة عن صغر ذلك الكتاب، وربما يعود السبب في ذلك كما يرى الشيخ القرشي رحمه الله إلى أنّ يزيد قد حسب أنّ الوليد سينفّذ ما عهد إليه من قتل الحسين وابن الزبير، ومن الطبيعي أن يتبع ذلك كثير من المضاعفات السيئة، ومن أهمّها ما يلحقه من التذمّر والسخط الشامل بين المسلمين، فأراد أن يجعل التبعة على الوليد، وأنّه لم يعهد إليه بقتلهما، وإنّه لو أمره بذلك لأصدر مرسوماً خاصّاً مطوَّلاً به[16].

وصل الكتاب إلى الوليد ودعا الإمام الحسين (عليه السلام) للبيعة، فرفض ذلك رفضاً قاطعاً، وقرّر الخروج من المدينة معلِناً ثورتَه المباركة، وهذا ما سنقف على تفاصيله في القسم التالي من هذه المقالة عندما نتحدّث عن الثورة ومنطلقاتها إن شاء الله تعالى.

 السيّد محمّد الشوكي

 

[1] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص326.

[2]  الذهبي، محمد بن أحمد، سير أعلام النبلاء: ج3، ص478.

[3] الدمشقي، إسماعيل بن كثير، البداية والنهاية: ج57، ص253.

[4] المفيد، محمّد بن محمّد، الإرشاد: ج2، ص76.

[5]  الطبري، محمّد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص289.

[6] البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف: ج3، ص156.

[7] اُنظر: الهلالي، سُليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس: ص320. الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص18.

[8] الطبرسي، أحمد بن علي، الاحتجاج: ج2، ص18.

 

[9] الجلالي، محمد رضا، الإمام الحسين (عليه السلام) سماته وسيرته: ص104.

[10] النجمي، محمد صادق، خطبه حسين بن علي (عليه السلام) در مِنى باللغة الفارسية. ويلاحَظ أنّ بعض نصوص هذه الخطبة رويت في بعض الكتب عن الإمام علي (عليه السلام)، وقد يكون الإمام الحسين (عليه السلام) قد أعادها، أو استشهد بها.

[11] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص238. وربما يُشكَل على ذلك: بأنّ عبد الرحمن بن أبي بكر مات قبل ذلك في زمان معاوية، وقد رُويت هذه الوصية من طريق آخر، وليس فيها ذكر لعبد الرحمن، وإنّما للحسين (عليه السلام)، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير. وهو الأصح.  

[12] الصدوق، محمد بن على، الأمالي: ص216.

[13] ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة: ج20، ص133.

[14] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص250.

[15]  اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي: ج2، ص241.

[16] القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين (عليه السلام): ج2، ص247.

المرفقات