تنتظم هذه السورة عناصرُ فنيّة تتآزر فيما بينها لِتقدّم عمارة محكمة تتدرّج بنا في دلالاتها الفكرية بنحوٍ مترابط فيما بينها وفق ما يلي:
ـ موضوعها العام هو (التعامل مع الله تعالى).
ـ التعامل يتوزع في ثلاثة أقسام: (الثناء على الله تعالى) (العبادة لله تعالى) (الاستعانة بالله تعالى وطلب الهداية منه تعالى).
سلفاً، ينبغي أن نشير إلى أنّ عمارة أيّة سورة كريمة لا تخضع بالضرورة للتسلسل الزمني أو الموضوعي بقدر ما تخضع للزمان النفسي، أي: أنّ الدلالات التي تنتظمها إنّما تتحدد بقدر انعكاساتها في ذهن المتلقي وما تجرّه من (تداعيات) لهذه الدلالة أو تلك.
ولنقف مع أقسامها الثلاثة:
القسم الأوّل
يُستهل هذا القسم بعبارة (الحمد لله)... والحمد أو الثناء أو الشكر هو عملية (تقويم)، إلاّ أنه ليس تقويماً مألوفاً بقدر ما يتّجه إلى ظاهرة لا مثيل لها، هي (الله رب العالمين)، وسمة (ربّ العالمين) لا تحتاج إلى التعقيب لأنها تلخص لنا الدلالة الذاهبة إلى أن التقويم هو لمسيطرٍ على الكون كله، (ربٍ هو لكل المخلوقات). وأمّا السمة الثانية التي تلتها فهي: (الرحمن الرحيم) وهذه السمة تفرض ضرورتها، لبداهة أن القوة أو الهيمنة إنما تكتسب إيجابيتها بقدر ما تقترن بعنصر (الخير)، وهذا ما جسدته عبارتا (الرحمن) (الرحيم)، وهاتان العبارتان تلخّصان مفهوم (الخير) بمستوياته غير المحدودة، حيث أن الأولى تعني الرحمة العامة للمخلوقات، والأخرى تعني الرحمة الخاصة بالمؤمنين (ومنهم مَن يمارس ـ في جزءٍ من واجباته ـ عملية الحمد لله تعالى، وبذلك تستكمل الرحمة ودلالتها). وأما السمة الثالثة فهي (مالك يوم الدين).
هنا قد يتساءل القارئ عن الرابطة الدلالية بين ما تقدّم وهي (الهيمنة والرحمة) وبين (مالكية يوم الدين)؟ في تصورنا، أن لهذه السمة موقعاً عضوياً بالغ الأهمية، فهو من جانبٍ (يُداعي) بالذهن إلى ما يعنيه (اليوم الآخر) من كونه امتداداً لليوم الدنيوي، أو يوم تسلّم (المكافأة) مقابل الاختبار أو الامتحان الدنيوي، بصفة أن (العالمين) واقترانها بـ(الرحمة) قد استهدف عدم فصلها عن التجربة العبادية وما يترتب عليها من النتائج. ومن جانب آخر، فإن نفس انتخاب عبارة (يوم الدين) دون سواها من العبارات المشيرة إلى اليوم الآخر، يتداعى بالذهن إلى مضمون التجربة أو الاختبار العبادي القائم على دلالة (دينية)، فتكون هذه العبارة مجانسة لما تقدّمتها. وليس تعبيراً مجرداً (كالتعبير العادي أو العلمي الجاف) لا يتحدث عن الحقائق بلغة محاكية لما هو واقع بل بلغة تعتمد عنصر النشاط الذهني للإنسان ومحاولة جعله يسهم في اكتشاف الحقائق حتى يتحسس حيوية وجمالية ما يمارسه من قراءة النصوص أو ما يُطلق عليه مصطلح (عملية التذوق الفني)، ولذلك نجد أن النص القرآني يعتمد حيناً عنصر (الاقتصاد اللغوي) بحيث ينتخب من العبارات ما يتداعى بذهن القارئ إلى استخلاص دلالات يوحي بها إيحاءاً، وكما لاحظنا ذلك في القسم الأول الذي استخلصنا من عبارته القائلة (يوم الدين) الإشارة إلى التجربة العبادية من جانب ثم ما يترتب عليها من الجزاء الأخروي من جانب آخر، بيد أن النص القرآني ـ في الآن ذاته ـ يستخدم في سياقات خاصة عنصر (التكرار) أو (التفصيل) و(الإسهاب)، مستهدفاً من ذلك تركيز وتعميق وتأكيد حقيقة من الحقائق مثل آية (فبأي آلاء ربكما تكذبان) وسواها مما سنشير إليها في حينه إن شاء الله، ومنها عبارة (إيّاك نعبد) حيث تحتلّ هذه العبارة كما قلنا موقعاً عضوياً رابطاً بين القسم الأول والثاني من السورة، ومؤكداً للمفهوم العبادي، وممهداً لتفصيل لاحقٍ يضطلع القسم الثالث من السورة به.
ويُلاحظ، أن النص قد جعل من تمهيده للقسم الثالث، عبارة (إيّاك نستعين)، ليربط أولاً بين تجربة العبادة وبين عدم انفصام ذلك عن الاستعانة بالله تعالى في تمرير التجربة المذكورة واجتيازها بنجاح سواء كان ذلك في الأمور المادية أو المعنوية، وليمهد ثانياً بدلالة مفصلة لأحد مصاديق الاستعانة وهي (إهدنا...) كما سنرى... لكن قبل ذلك، يحسن بنا أن نعرض نسمة فنية ثالثة هي آية (مالك يوم الدين).
القسم الثاني
يتناول هذا القسم دلالة خاصة هي الدلالة الدينية التي أشرنا إليها، متمثلة في عبارة (إياك نعبد). لكن، لماذا جاءت متأخرة بالقياس إلى (يوم الدين)، أي لماذا جاء النص أولاً بالإشارة إلى يوم الدين ثم أعقبه بالإشارة إلى التجربة العبادية؟ في تصورنا أن النص في صدد تأكيده على المهمة العبادية ولفت النظر إليها بصفتها هي الهدف أساساً ولذلك فصّل الحديث عنها في هذا القسم وفي القسم الثالث كما سنرى، وأما القسم الأول فقد (أجمل) ملامح الظاهرة الكونية وعلاقتها بالله تعالى، وعلاقة العبد بذلك.
العنصر اللفظي
من السمات الفنية الخاصة بالعنصر اللفظي: ظاهرة (التقديم) والتكرار لعبارة (إياك) في فقرتي (إيّاك نعبد وإياك نستعين). فما هذا السرّ الفني في ذلك؟ وما هو علاقته بعمارة السورة الكريمة؟ البلاغيون القدامى يخيّل إليهم أن (التقديم) هو مجرّد لفت النظر إلى أهمية الظاهرة، بيد أن الأمر ليس كذلك وإلاّ لو كان الأمر كما يذهبون إليه فلماذا جاءت نصوص قرآنية متنوعة لا تقترن بمثل هذا (التقديم) بل جاءت بصياغة مثل (نعبدك) مثلاً، إذن: التقديم بعبارة (إياك) لابدّ أن ينطوي على سر يرتبط بعمارة السورة، وهذا ما يرتبط بعلاقة هذا التقديم بما سبقه في القسم الأول من السورة حيث قلنا إن هذا القسم خاص بعمليّة (تقويم): الثناء والحمد والشكر لمهيمنٍ على الكون، فجاء تقديم (إياك) متناسباً مع تقديم الحمد لله تعالى.
وأما التكرار للعبارة فيتّضح سرّه إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النص يستهدف لفت النظر إلى الممارسة العبادية غير المنفصلة عن الاستعانة بالله تعالى في تمرير الممارسة المذكورة، فبدون الاستعانة به تعالى لا يتم اجتياز المهمة العبادية بنجاح.
القسم الثالث
إن (الاستعانة) به تعالى، شكّلت ـ كما قلنا ـ مقدّمة أو دلالة مجملة، يبدأ القسم الثالث من النص بتفصيلها أو بتوضيحها في أحد جوانبها، متجسدة في قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم...) إلى آخر السورة، إنّ طلب الهداية قد اقترن هنا بعبارة (صورية) هي الاستعارة (الصراط المستقيم)، وبدلالتين هما (غير المغضوب عليهم) و(لا الضالّين)، وبالرغم من أن المغضوب عليهم (ضالون)، والضالين (مغضوب عليهم) إلا أن أحدهما غير الآخر، وعندما يستخدم النص القرآني أمثلة هذه الاصطلاحات فلابدّ أن تحمل كل منها دلالة متميزة عن الأخرى، ولعل النصوص التفسيرية المشيرة إلى انطباق ذلك على طوائف كاليهود والنصارى وغيرهم لا تتعارض معه إلا أن الذهاب إلى أن ذلك هو بمثابة (مصاديق) للفئتين المشار إليهما بخاصة أن النص القرآني الكريم يتميّز بكونه (إيحائياً) يرشحه بعدة دلالات بحيث يستطيع كل متذوق أن يستخلص دلالة تتناسب مع تجربته الذوقية، وبحيث يستطيع أن (يطبقها) على مفردات (مصايدق) كثيرة، وفي تصوّرنا أنّ عبارة (المغضوب عليهم) تتناول ممارسة المعصية، وإن (الضالين) تتناول انتخاب مبادئ غير الله تعالى أي أنّ الأولى تتناول الجانب العملي من السلوك، والأخرى تتناول البُعد الفكري منه، ولعل وقوفنا على العنصر الصوري (الصراط المستقيم) يلقي بعض الإنارة على هذا الجانب.
إذن، لنتجه إلى ملاحظة هذا الجانب وتحديد موقعه من عمارة السورة الكريمة، وهو ما ندرجه ضمن عنوان:
العنصر الصوري
يتمثل العنصر الصوري في هذه السورة في الاستعارة القائلة: (إهدنا الصراط المستقيم) (الصراط) هو الطريق و(المستقيم)، لا يحتاج إلى توضيح، بيد أن ما نعتزم توضيحه هو: إن هذه الاستعارة من الصور (المألوفة) التي يخبرها أي شخص، ومع ذلك فهي من الصور المتّسمة بالعمق وبالإثارة. إن النص قد انتخب (الطريق)، و(الهداية) إليه بالنحو (المستقيم)، رمزاً للهدي العبادي، وكان بالمقدور انتخاب صورة أخرى، إلا أنّ الممارسة العبادية بنحوها الذي يُطالَبُ به الإنسان تتجانس بوضوح مع هذه الصورة، فهذه الصورة ـ كما قلنا ـ امتداد أو تفصيل لما سبقها، ونعني بها عبارة (إياك نستعين)، والاستعانة تتبلور أوضح مجسداتها عند حركة الإنسان، فالإنسان يتحرك من خلال (الطريق)، والطريق قيد يكون مظلماً، أو شائكاً، أو غير مُعلّم بعلامة خاصة بحيث يتيه الإنسان أو يتعثر أو يُدمى... الخ، ولذلك يحتاج إلى مَن يهديه إلى الطريق غير المنحرف من هنا أو هناك، فالانحراف يقتاده إلى التيه أو ما يواكبه من إدماء وتعثر...الخ، بينا الاستقامة تقتاده إلى المكان المقصود دون أيّة متاعب.
ويمكن تلخيص ذلك في حقيقتين ترتبطان بمفهومي (غير المغضوب عليهم) و(ولا الضالين)، وذلك بأن من ينحرف عن الطريق المستقيم، إمّا أن ينحرف بوعي تحقيقاً لشهوات عابرة (فيكون من المغضوب عليهم)، وإمّا أن ينحرف بغير وعي (فيكون من الضالين).
إذن، هذه الاستعارة ترتبط عضوياً بما تقدمها من الآيات المشيرة إلى العبادة (إياك نعبد) والاستعانة (وإياك نستعين)، فتكون (الاستعانة) بالله تعالى في ممارسة العمل (العبادي) هي الهداية إلى الصراط المستقيم، وترتبط ـ في جانب آخر ـ بما تلحقها من الدلالات الكثيرة إلى غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
يبقى أن نشير إلى ظاهرة (التكرار) لعبارة (الصراط) أو لصورة أو استعارة (الصراط)، حيث أن للتكرار دلالة فنية هي ترسيخ الفكرة المستهدفة من النص. ونحن إذا عدنا إلى ما سبق أن لحظناه من التأكيد على صفتي (غير المغضوب عليهم) و(ولا الضالين)، نجد أن لتكرار الصراط علاقة بتلك الصفتين أو بالأحرى علاقة بما ينعم الله تعالى به على الإنسان بحيث لا يُغضَب عليه ولا يكون ضالاً.
التفسير البنائي للقرآن الكريم/ ج1 / الدكتور محمود البستاني
اترك تعليق