كربلاء في الشعر العربي

كربلاء في الشعر العربي

قلّما تجد شاعراً لم تستوقفه تلك الدماء التي لا زالت تلهث على أفق هذه المدينة براية حمراء ترمز إلى ذروة العطاء البشري، وتشكّل صلة نابضة وحية تروي للعصور قصة ملحمتها الخالدة.

إنها (كربلاء) (المكان) الذي التحم مع (الرمز) و(الزمان) لتبزغ على أرضها ملحمة الخلود: (الحسين، عاشوراء، كربلاء)، فواكبها الشعراء منذ عاشوراء حتى الآن عبر اتجاهات ومحاور ومواضيع متعددة، فكان للشعر العربي من ذلك ثروة لا تقدر.

في هذه الموسوعة نحاول تسليط الضوء على هذه المحاور والاتجاهات التي تناولها الشعراء من خلال ذكر الأبيات والقصائد التي ورد فيها اسم (كربلاء) في قصائد الشعراء من مختلف العصور، ونترك للقارئ التأمّل ليستشف من تلك المحاور التي استقى الشاعر منها من كربلاء، ما جسّدته هذه البقعة من قيم إنسانية عليا، إضافة إلى ذكر تواريخ ولادات ووفيات الشعراء كونه يشكل أهمية بالغة، إذ أنه يؤكد على أن كربلاء لم تزل متجددة منذ يوم عاشوراء إلى الآن في النفوس، كما يعطي صورة عن ملامح الشعر في تلك الفترة.

لقد كان من الضروري أن يتوفّر هذا الموضوع على الأسماء الأخرى لكربلاء كونها تؤدي مؤدّاها عند الشعراء وغيرهم مثل: (الطف، ونينوى، والغاضرية، والطفوف وغيرها)، ولكننا وجدنا أن من العسير جداً الإلمام بكل هذه الأسماء في الشعر لكثرة ورودها فيه، لذلك فستقتصر هذه الموسوعة على ذكر البيت الذي ورد فيه اسم (كربلاء) بالمد و(كربلا) بالقصر فقط رغم أن هذا أيضاً يتضاءل عنده الجهد.

فعملية الاستقصاء عن هذا الاسم عند الشعراء على مدى أربعة عشر قرناً يحتاج إلى جهدٍ مضنٍ, كما أن المصادر القليلة التي لدينا لا تكوّن المقدار الكافي من الشعر الذي يعطي فكرة متكاملة عن النهج الذي اختطه الشعراء في تناولهم كربلاء ولكن شاء الله أن يتحقق هذا العمل.

شكر وعرفان

لقد كتب الله لهذه الموسوعة أن تتم والحمد لله، فقد عرضت فكرة هذا الموضوع على بعض الأساتذة الأجلاء فأبدوا استعدادهم لتيسير كل المصادر التي يحتاجها هذا الموضوع، وقدّموا كل التسهيلات على توفيرها فلهم مني كل الشكر والامتنان.

ونرى من الأولى التنويه بهذا الفضل الكبير لهؤلاء السادة الكرام وذكر المصادر التي أتحفونا بها والتي توِّجت بها هذه الموسوعة، ومن خلال هذا التنويه نتقدم بالشكر الجزيل والعرفان للأستاذ علي التميمي، مدير مركز الدراسات الحسينية / لندن، والدكتور علي حسين يوسف أستاذ الأدب العربي، والشيخ مشتاق المظفر مدير مجمع الإمام الحسين العلمي لتحقيق تراث أهل البيت (عليهم السلام)، والأستاذ محمد عبد الأمير السفاك معاون مدير المجمع، والأستاذ محمود الأنباري مدير المكتبة المركزية، والأخ محمد علي مُتولّي مكتبة جامع الإمام علي (عليه السلام) ـ البلوش ـ الذي فتح لنا المكتبة على مصراعيها ويسّر لنا كل المصادر التي يحتاجها هذا الموضوع.

أما بالنسبة إلى المصادر التي ارتكزت عليها هذه الموسوعة فكثيرة أهمها: دائرة المعارف الحسينية للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي قدم خدمة جليلة للأدب بشكل عام والأدب الحسيني بشكل خاص في إنشاء هذه الموسوعة، وإضافة إلى هذه الموسوعة فقد استقى هذا الموضوع من مصادر مهمة كشعراء الغري، وشعراء الحلة، وشعراء بغداد للأستاذ علي الخاقاني، وأدب الطف للسيد جواد شبر، وكتاب رياض المدح والرثاء للشيخ حسين علي البلادي البحراني، والطليعة من شعراء الشيعة للشيخ محمد السماوي، والدر النضيد في رثاء السبط الشهيد للسيد محسن الأمين العاملي، والمنتخب لفخر الدين لطريحي، وأنوار البدرين ومطلع النيّرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين للشيخ علي البلادي، وشعراء القطيف للشيخ علي المرهون، وأعيان الشيعة للسيد محسن الأمين، وشعراء كربلاء للسيد سلمان هادي آل طعمة، والحسين في الشعر الحلي للدكتور سعد الحداد، والإمام الحسين في الشعر النجفي للدكتور كامل سلمان الجبوري، وموسوعة الشعراء الكاظميين للأستاذ عبد الكريم الدباغ، وكتاب (دفتر الشجي) لناجي بن داود بن علي الحرز الذي احتوى على قصائد لمائة شاعر من الإحساء إضافة إلى مجموعة كبيرة من الدواوين لشعراء من مختلف العصور وكتب أخرى في النقد الأدبي، كما نشكر كل الشعراء الذين بعثوا إلينا بقصائدهم وسِيَرهم الذاتية فلهم جميعاً منّا وافر الشكر والامتنان على التسهيلات التي قدموها.

كربلاء في أول الشعر

في حذو منهج السبق الزمني لذكر كربلاء في الشعر العربي وجدنا إن مصدرين فقط ورد فيهما اسم كربلاء قبل استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) فيها، أول هذين المصدرين والذي رجّح المؤرخون على أنه أول شعر ذكر هذه الأرض كان في سنة (12 هـ / 633 م)، وهو لـ (معن بن أوس بن نصر بن زياد المزني)، صاحب القصيدة المشهورة بـ (لامية العجم):

لعمرُكَ ما أَدري وإنّي لأَوجلُ     على أَيّنا تغدو المنيةِ أَوّلُ

وهو من مخضرمي الجاهلية والإسلام، ومن المعمّرين، سافر إلى الشام والبصرة وكفّ بصره فكان يتردد على عبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعُمِّر حتى أدرك قيام عبد الله بن الزبير فصحبه وقد كفّ بصره في آخر عمره، ومات عام (64هـ / 683م). (1)

ومن الغريب أن هذا الشعر الذي قاله معن والذي ورد فيه اسم كربلاء كان قصيدة طويلة عدّها المؤرخون من ضمن قصائد (النوائح)! وكأن هذه الأرض قد افتتحت حوادثها على الحزن المستديم منذ بواكيرها وأبت أن يفارقها هذا الحزن، وقد ذكر هذه القصيدة ياقوت الحموي (2) وأبو الفرج الأصفهاني (3) في ترجمة معن، أما البيت الذي ذكر فيه كربلاء فهو:

إذا هي حلّت (كربلاء) فلعلعا     فجوزُ العذيبِ دونها فالنوائحا

وقصة قصيدة معن بن أوس المزني التي ذكر فيها كربلاء كما ذكرها الحموي والأصفهاني قالها معن في غزو خالد بن الوليد كربلاء وسبي أهلها وهي:

(لمّا توجّه خالد إلى المدائن فلم يجد معابر فدلّوه على مخاضة عند قرية الصيادين أسفل المدائن فأخاضوها الخيل حتى عبروا وهرب يزدجرد إلى أصطخر فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها) فقال معن قصيدة طويلة يصف هذه الحادثة ومن هذه القصيدة الطويلة قوله:

إذا هيَ حلّـــتْ (كربلاء) فـلعلعا     فجوزُ العذيبِ دونها فــالنوائحا

فبانتْ نواها من نواك فطاوعت     مع الشانئين الشانئات الكواشحا

توهمتُ ربعاً بـــالمعبَّرِ واضحاً     أبتْ قرّتــــــاهُ اليوم إلّا تراوحا

أربَّت عليه رأدة حضـــــــرمية     ومرتجزٌ كأنَّ فيه المصــــــابحا

فقولا لليلى هــــل تعوِّضُ نادياً     له رجعـــة قال الطلاق ممازحا

فإن هيَ قالت: لا تقولا لها بلى     ألا تتقين الجــــــارياتِ الذوابحا

ويعدّ هذا الشعر هو أقدم شعر ذكرت فيه كربلاء (4) وكأن طينتها عجنت بماء الحزن فأبى أن يفارقها

المصدر الثاني

أما المصدر الثاني فتاريخه هو نفس السنة (12 هـ / 633 م) وهو لرجل من أشجع وهو:

لقد حُبستْ في (كربلاء) مطيَّتي     وفي العينِ حتى عادَ غثاً سمينُها

والعين هي مدينة عين التمر (شثاثا) الآن وتبعد عن كربلاء قرابة 80 كم. أما قصة البيت الثاني فقد رواها الطبري والحموي في قصة غزو خالد بن الوليد العراق ونزوله كربلاء حيث أقام فيها أياماً فشكى إليه عبد الله بن وثيمة النصري الذباب، فقال رجل من أشجع ــ ولم يسمِّه الطبري ولا الحموي ــ فيما شكا ابن وثيمة:

لقد حُبستْ في (كربلاء) مطيّتي     وفي العينِ حتى عادَ غثاً سمينُها

إذا رحلت من منـزلٍ رجعت له     لعمـــــــــري وإيها إنني لأهينُها

ويمنعها من مـــــاءِ كلِّ شريعةٍ     رفــــاقٌ من الذبِّانِ زرقٌ عيونُها (5)

ومع عدم الجزم بتقدّم الشعر الأول على الثاني في السبق الزمني أو بالعكس فإن هذين القولين هما أول شعر ذُكر فيه اسم كربلاء في تاريخ الشعر العربي وكلاهما قيل في نفس السنة ونفس الحادثة.

ثم تبدأ مرحلة جديدة لكربلاء مع الشعر بعد أن حملت إرثاً عظيماً ضخماً، وأثراً عميقاً مدوّياً، منذ اصطبغت أرضها بدماء الشهادة، واستوعبت تلك الروح الكبيرة التي حملت مبادئ السماء لتجسّدها تجسيداً كاملاً وبأروع صورة على أرضها، فبثت في الشعر روحه، وأسبغت عليه جوهره، ولقنته خلقه وإبداعه، وبالمقابل فقد استمد هو منها كنهه.

لقد استقطبت ملحمة كربلاء قمم الشعر العربي على مدى أدواره وقرونه , فراحوا ينهلون من تلك الوقفة التي وقفها سيد الشهداء عظمة الإباء, وعظمة الثورة, كما كانت كربلاء عرقاً ينبض فيهم في كل زمان ومكان فصدحوا بها حتى في زمن الحكومات التي حاربت هذا الاسم أشد من حربها أعدائها.

فرغم سياسة البطش والتنكيل التي استعملها الأمويون والعباسيون ضد شعراء الحقيقة إلا أن أسم الحسين وكربلاء لم ينقطع عن أفواههم فنجد من يقول: (إني أحمل خشبتي هذه على كتفي عشرين عاماً لا أجد من يصلبني عليها) (6) ووصل اسم كربلاء إلى أبعد أصقاع الأرض فما أن وطأت أقدام المسلمين أرض الأندلس حتى تفجّر على لسان شعرائهم اسم كربلاء وشاركهم في نهجهم الشعراء الفاطميون والحمدانيون والبويهيون، وفي سجل التاريخ كثير من الأسماء التي تربعت على عرش الشعر في عصورها استقت من كربلاء.

لقد كانت حصيلة كربلاء من الشعر عبر أربعة عشر قرناً كبيرة جداً, ولاتزال تلك الحصيلة مستمرة إلى الآن بالازدياد, وهذا يدعو إلى عدم الجزم بأن كل ما قيل من شعر تضمن اسم كربلاء يحتويه موضوع لذا سنذكر ما استطعنا الحصول عليه من الأبيات التي ورد فيها اسم كربلاء.

وقد استلهم الشعراء واقعة كربلاء بدلالات تكسر الحواجز والأبعاد وبإحالات معاصرة ووظفوها في الواقع بأساليب فنية جديدة وصاغوا نماذج أدبية رفيعة تنضح بالجرح المدمّى والأثر العميق المتجذّر في الوجدان مستلهمين معاني عاشوراء في الثورة والاستشهاد. فأصبحت الدماء التي سالت في كربلاء رمزاً للحق ووساماً على صدور الأحرار وتضحية عظيمة.

وقد مثّل شعر كربلاء دوراً مهماً في إحياء تفاصيل تلك الثورة بل كان من أكبر العوامل في التأثير في النفوس, خصوصاً إن كربلاء كانت صرخة لا تُخمد ومأساة وفاجعة تجلّ عن الوصف, واستمرت هذه الأشعار في تصعيد روح الثورة في الوجدان الشعبي حتى أصبح هذا الشعر ما لا يمكن حصره أو تعداده، يقول الشيخ محمد جواد مغنية: (ما عرفت البشرية جمعاء من أبنائها قيل فيه من الشعر ما قيل في الحسين بن علي) (7)

وتقول الدكتورة بنت الشاطئ: (ما أحسب أن التاريخ قد عرف حزناً كهذا طال مداه حتى استمر بضعة عشر قرناً دون أن يفتر فمراثي شهداء كربلاء هي الأناشيد التي يترنّم بها الشيعة في عيد حزنهم يوم عاشوراء في كل عام ويتحدّون الزمن أن يغيّبها في متاهة النسيان) (8)

واستمرت تلك المسيرة وتواصلت إلى الآن وإلى الأبد, ومن الجدير بالذكر أيضاً هو أن الذي وصلنا من شعر كربلاء هو النزر اليسير مما قيل, فالحرب التي شنّها الأمويون والعباسيون ومن حذا حذوهم على شعراء الشيعة بقتلهم وسجنهم وتشريدهم وتغييب شعرهم كان لها دوراً كبيراً في تضييع كثير من ذلك التراث الضخم، كما لعبت النزعة المذهبية والصراع الأيديولوجي دوراً كبيراً في غياب الكثير جداً من هذا الشعر.

ونجد من الضروري الحديث عن الجريمة التي ارتكبها الأمويون والتي تضاف إلى سجل جرائمهم وهي جريمة اغتيال الكثير من شعر كربلاء والذي يمثل ذروة التراث الإسلامي ومحاولة إبادته لما يشكله من رعب لهم لأنه يكشف جرائمهم ويثير الرأي العام ضدهم, فالسيد الحميري مثلاً وهو شاعر أهل البيت وقد اقتصر شعره عليهم (عليهم السلام) كان من الشعراء الثلاثة الذين لا يدرك شعرهم لكثرته وهم بشار وأبو العتاهية وفي مقدمتهم السيد, كما وصفه جميع المؤرخين، حتى قال أحد معاصريه: (جمعت للسيد ألفي قصيدة، وظننت أنه ما بقي عليّ شيء، فكنت لا أزال أرى من ينشدني ما ليس عندي فكتبت حتى ضجرت، ثم تركت!) (9). ولكنك تتفاجأ حينما تقارن بين هذا القول وبين ديوانه المطبوع والذي لا يحتوي سوى قصائد ومقطوعات معدودة!

وتستمر عملية الإبادة الشعرية، فالكميت بن زيد الأسدي يموت مخلّفاً (خمسة آلاف ومائتين وتسعاً وثمانين بيتاً) (5289) (10) ولكن شعره الآن لا يساوي نصف هذا العدد! وهناك من الشعراء من اختفى اسمه مع شعره، فقد ذكر الطبري في تاريخه: (إن عبد الله بن عمرو البدّي من أشجع الناس، وأشعرهم، وأشدهم حباً لعلي) (11) ولكن هل تجد لهذا الشاعر المتفرّد بين الشعراء والفارس الشجاع شعراً يليق بمكانته ؟

وكم من أمثال هذا الشاعر الفارس قد أضاعهم التاريخ أو بالأحرى المؤرخون؟ يقول أبو الفرج الأصفهاني: (كانت الشعراء لا تقدم على رثاء الحسين مخافة من بني أمية وخشية منهم) (12), كما ضاع أو أُضيع الكثير من قصائد التوابين التي يقول عنها ابن عساكر: (كنّ يُكتمن في ذلك الزمان) (13) (وكان مما قيل في ذلك قول أعشى همدان). كما ذكر ذلك الطبري (14), وكان يسمى شعر (المكتّمات). وقد أورد ابن الأثير قصيدة منه في تاريخه. (15)

كما يُورد المرزباني (مكتّمة) لعوف بن عبد الله الأزدي وهو ممن شهد مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين ومن التوابين وله قصيدة في رثاء الحسين (عليه السلام) قال عنها المرزباني إنها كانت تخبّأ أيام بني أمية وإنما خرجت بعدهم ويوردها ومن هذه القصيدة:

وقولوا له: إذ قام يدعو إلى الهدى     وقــــبل الدعا لبيك لبيك داعيا

سقى الله قبراً ضمّن المجدَ والتقى     بــغربيةِ الطفِ الغمامَ الغواديا

فيا أمةً تـــــــاهت وضلّت سفاهةً     أنيبوا فأرضوا الواحدَ المتعاليا (16)

ويدلنا ابن المبارك (محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون البغدادي المتوفى سنة 597هـ) على واحدة من هذه الجرائم التي ارتكبها الأمويون في إضاعة التراث الأدبي والفكري فعندما يتطرق ابن المبارك إلى قصيدة كعب بن زهير في بداية كتابه يقول: (وقال كعب في مدح أمير المؤمنين، وكانت بنو أمية تنهى عن روايتها وإضافتها إلى شعره) (17) ومطلع قصيدة كعب:

هل حبلُ رملةَ قبل المينِ مبتورُ     أم أنتَ بالحلمِ بعد الجهلِ معذورُ

وجاء في هذه القصيدة:

صهرُ النبي وخيرُ الناسِ مفتخراً     فكـــــلُّ من رامَه بالفخرِ مفخورُ

صلى الـــطهورُ مع الأميّ أوّلهم     قبـــلَ المعادِ وربُ الناسِ مكفورُ

مقاومٌ لطـــــغاةِ الشركِ يضربُهم     حتى استقاموا ودينُ اللهِ منصورُ

وقد أشار إليها شارح ديوان كعب بن زهير الذي نشرته دار القومية للطباعة والنشر.

كما ظهر في ذلك الوقت شعر (الجداريات)، وهو الشعر الذي كان يكتبه الشاعر على جدران الأماكن التي أعدت للاستراحة في السفر فيمر بها الناس ويقرؤونها وتتناقل على الألسن ولا يعرفون لمن هي، وقد اشتهر بذلك الشاعر يزيد بن مفرغ الحميري الذي كان من الشعراء الذين رثوا الحسين (عليه السلام), كما عُرف بهجائه الشديد للأمويين فناله منهم من العذاب والتنكيل (ما لا يصبر عليه أنس ولا جن ولا يتحمّله إلا الحديد) حيث يقول في إحدى قصائده يندد بجرائم عبيد الله بن زياد ويؤلب على قتله ويتحرق أسفاً على إراقته الدماء الزكية:

كم يا عـــبيد الله عندكَ من دمٍ     يسعى ليدركه بقتلكَ ساعي

ومعــاشرٌ أنفٌ أبحتَ دماءهم     فرقتهم من بعد طولِ جماعِ

اذكر حسيناً وابن عروة هانئاً     وبني عقيل فارس المرباعِ

والحديث عن جريمة قتل الأمويين للتراث الإسلامي يطول وهناك شواهد أخرى كثيرة تركناها خشية الإطالة ونكتفي بهذا القدر من الإشارة إلى شعراء كربلاء في العصر الأموي.

ورغم كل هذه التحديات فقد بقيت كربلاء شعلة ملتهبة في ضمائر الشعراء, وجذوة لا تطفئها الأيام والأعوام , وصرخة لا يسكتها الطغاة, والمنبع الثر الذي لا ينضب, والذي يفيض بالعطاء، وكان من أقسى الفترات التي مر بها شعراء الشيعة هي الفترة العباسية التي مارست كل أنواع البطش والتنكيل ضد شعراء كربلاء شعراء الحقيقة، ولكن رغم ذلك فأن أسم الحسين (عليه السلام) وكربلاء لم ينقطع عن أفواههم، فحُورب الشعراء، وطُوردوا، وقتّلوا وعذّبوا بأشد أنواع العذاب من أجل عقيدتهم ونجد في قصة الشاعر عبد الله البرقي خير مثال عن الشعراء الذين عُرفوا في ذلك الوقت بشدة ولائهم وتمسكهم بمنهج أهل البيت فعندما يسمع المتوكل قصيدته والتي منها:

فقلِّدوها لأهلِ البيتِ أنّهمُ     صنوُ النبيِّ وأنتمْ غير صنوانِ

وهي قصيدة طويلة في مدح أهل البيت (عليهم السلام) والتعريض ببني العباس يأمر بقطع لسانه وإحراق ديوانه فمات بعد ذلك بأيام قليلة وكان هذا دأب شعراء أهل البيت (عليهم السلام) رغم قسوة السلطة، لكن رغم تلك الدكتاتورية كان الشعراء يزدادون إيماناً بقضيتهم وتمسُّكاً بمبدئهم في حب أهل البيت يقول دعبل الخزاعي في تائيته:

أحب قصي الدار من أجل حبكم     وأهجر فيكم زوجتي وبناتي

ومن الشعراء من لم يسلم حتى في قبره فـ (تتبعوه رميما) كما جرى للشاعر منصور النمري عندما أمر الرشيد بقطع لسانه وقتله وقطع رأسه لما سمع عنه أنه رثى الحسين (عليه السلام) فأخبروه بأنه قد مات فأمر بنبش قبره !! وهذا ما يعطي صورة واضحة للممارسات الهمجية التي كانت السلطة العباسية تمارسها للحد من هذا الشعر ودفنه

وقد حذا الحكام العباسيون حذو أسلافهم الأمويين في إتلاف الشعر الشيعي وساعدهم على ذلك مؤرخو السلطة فعبارة: (إن كثيراً من شعره قد ضاع)، و(ضاع أغلب شعره)، و(لم يبق من شعره إلّا القليل، وأغلبه قد ضاع) تترددّ كثيراً في مقدمات المحققين عندما ينبروا لتحقيق ديوان لأحد شعراء أهل البيت وقد فصّلنا القول في هذا الموضوع في ترجمة: دعبل الخزاعي، والناشئ الصغير، وديك الجن الحمصي، وعلي بن المقرب العيوني الإحسائي وغيرهم.

هكذا تلعب الأهواء والعصبية دورها في ضياع تراثنا الأدبي، وهؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم هم نموذج لكثير من الشعراء الذين ضاع شعرهم أو بالأحرى أُضيع بسبب انتمائهم لمدرسة كربلاء

ورغم هذا التضييع والاخفاء وعمليات القمع فإن ما كان لله ينمو فقد حفظت لنا الأيادي الأمينة هذا الشعر ونقلت إلينا هذا التراث العظيم الذي هو جزء من كربلاء. فكانت هناك قائمة طويلة من الشعراء من مختلف العصور نهلوا من كربلاء.

كما كان دور الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كبيراً في ترسيخ كربلاء بكل تفاصيلها في ضمير الأمة وإبقائها حية من خلال التأكيد والدعوة إلى تشجيع الشعراء وعقد المجالس الشعرية الخاصة برثاء الحسين (عليه السلام) والحث عليه.

فقد حرصوا أشد الحرص على إبقاء روحية الثورة الحسينية ومبادئها متجذرة في النفوس وحية في الضمائر ولهم في ذلك روايات كثيرة جداً، من هنا نعرف أن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ونظراً لما يشكله الشعر من أهمية خاصة أرادوا أن تمتزج العواطف والمشاعر مع المعاني الإنسانية لسيد الشهداء والأحداث المأساوية التي مرّت عليه وهذا ما يعطيها أبعاداً واحتواءً أكثر غنىً وجاذبية، فكان للشعراء دورهم الكبير في إذكاء حادثة كربلاء وإبقاء جذوتها متّقدة في النفوس من خلال التعبير عن مشاعرهم وحبهم للإمام الحسين عليه السلام، فكان ذلك مصداقاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أن لقتل ولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً). (18)

كربلاء .. ترعب الطغاة

وبقيت مواكب الشعراء تتوالى عبر الأزمان وهي تطوف حول كربلاء فلا تجد بقعة من بقاع المسلمين لم يلهج شعراؤها باسم الحسين وكربلاء فزخر الأدب العراقي والبحريني والحجازي واللبناني والمصري والسوري، والعُماني واليمني بصفحات مشرقة من أدب كربلاء وهناك أسماء لا حصر لها واكبت هذه المسيرة

كربلاء .. في الضمير المسيحي

وتغلغل اسم كربلاء إلى الضمير الإنساني عبر العصور فأصبحت قبلة لعشاق البطولة والإباء بغض النظر عن دينهم وانتماءاتهم، ومثلما هز الصوت الحسيني البطل وهب المسيحي فلا يزال هذا الصوت متجدِّداً يهزّ الضمائر الحرّة من الشعراء والكتاب المسيحيين الذين وجدوا في وهب أسوة حسنة، فتجسد ذلك في شعرهم ونثرهم فكتبوا الملاحم والقصائد الطويلة وألفوا الكتب والموسوعات عن كربلاء.

ويطالعنا الأدب العربي بقائمة كبيرة من قاماته السامقة من الشعراء والأدباء المسيحيين استلهموا من علي والحسين الروح الإنسانية الكبيرة فكتب الشاعر اللبناني بولس سلامة ملحمة (الغدير) التي تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف بيت، كما كتب ملحمة (علي والحسين) التي تبلغ (220) بيتاً، وكتب عبد المسيح انطاكي (الملحمة العلوية) التي تبلغ (5595) بيتاً، وكتب ريمون قسيس ملحمة (الحسين) التي تجاوزت المائة بيت

لقد وجدوا في كربلاء عنوان الحرية والمبادئ الحقة والنهج لشعوب تطمح إلى استقلالها يقول بولس سلامة:

سوفَ يبقى الدمُ الزكي لواءً     لشعوبٍ تحاولُ استقلالا

ويقول أدوار مرقص:

يا غرّة الشهـــداءِ من عليائها     لوحــي عليهم كالضياءِ العاقدِ

موسومةً بدمِ الشـهادةِ فهي لا     تنفـــــكّ تدمي مثلَ زندٍ فاصدِ

كيما يسيروا في الحياةِ بنهجهِ     لا يخضعونَ لغاصبٍ ومعاندِ

نعم إن ما كان لله ينمو فقد حفظت لنا الأيادي الأمينة هذا الشعر ونقلت إلينا هذا التراث العظيم الذي هو جزء من كربلاء. فكانت هناك قائمة طويلة من الشعراء من مختلف العصور نهلوا من كربلاء، وقد أفردنا لكل شاعر موضوعاً خاصّاً به يتضمّن إضافة إلى شعره في كربلاء شعره في أهل البيت (عليهم السلام) وسيرته وخصائص شعره.

وبالاعتماد على السبق الزمني للشاعر كانت هناك جهود مضنية للبحث عن تاريخ وفيات الشعراء أو ولاداتهم إضافة إلى تراجمهم وهناك أبيات منثورة في بطون الكتب لم يذكر مؤلفوها اسم الشاعر استطعنا الظفر ببعض شعرائها، وقد أشار إليها السيد شبر بقوله: (بين أيدينا مجاميع خطية في المكتبات العامة والخاصة وفيها المئات من القصائد الحسينية ولم يذكر اسم ناظمها وقائلها) (19)

أعداء كربلاء

ونود الإشارة إلى أن هناك أبيات ورد فيها اسم كربلاء تركناها لأنها كانت صدى لأصوات الكفر والنفاق من قتلة الحسين، وكان قائلها من الصف المعادي لكربلاء الحسين من أمويي الهوى وأصحاب البغي والضلالة كقول محمد بن عبد الرحمان المخزومي يخاطب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حادثة له مع عبد الملك بن مروان وهو يتشفّى بمقتل سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله):

وجدنا بني مروان أمكــــــرَ غاية     وآلَ أبي سفيـــــــان أكرم أولا

فسائلْ علي صفين من ثلَّ عرشه     وسائلْ حسيناً يومَ ماتَ بكربلا

وقد ذكر المرزباني هذين البيتين وقال عند ذكر اسم قائلهما: قال قبحه الله .. (20)

وعقب المحقق الكرباسي على هذين البيتين بالقول: (أراد أنه وجد بني سفيان الذين حكموا أولاً أكرم من بني مروان وهم أهل مكر وغدر، وإن كانوا في الواقع سواء، ولا يُخفى أن هذا الاعتقاد بفضل بني مروان وبني سفيان يبين ميل الشاعر، والغريب أن يعد قتل علي والحسين (عليهما السلام) من المفاخر وإنما ثلم الدين بقتلهما). (21)

أبيات لا تمثل كربلاء

كما أن هناك أبيات أخرى تركناها لإساءة استخدام الشاعر لهذا الاسم من حيث التوظيف حيث وظّفها لأغراض شعرية لا تتناسب مع قدسية هذه المدينة ومكانتها العظيمة كقول شهاب الدين أحمد الفيومي متغزّلاً:

تركت جفني واصلاً والكرى     راءٍ فـجُد بالوصلِ، فالوصلُ زينْ

ولا تجبني عن ســــؤالي بلا     فالقلبُ يخشى (كرب لا) يا حسين

وكقول الحسين بن عبد القادر الكوكباني:

ويلاهُ مَن لاقى الجوابَ وكربَها     يا (كربلا) أرضيتِ قتلَ حسينِ؟

لمَّــــــا تـحمّلتُ الغرامَ وقام في     جــفني السقامُ وسالَ ماءُ جفوني

يا من يدومُ على البعادِ أما ترى     قــد حلَّ بي من ذاكَ ما يضنيني

وقول يحيى بن سلامة الحصكفي:

أنظُر إلى البدرِ الذي قد أقبلا     وأراكَ فوقَ الصُــــــــبحِ ليلاً مُسبَلا

ما بَلْبَلَ الأصداغَ في وجَناته     إلاّ لـــــــــــــــــيترُكَ مـن رآهُ مُبَلْبَلا

يا أيّها الرَّيّانُ مِن ماء الصبا     بي في الهوى عطشُ الحسينِ بكربلا

فمثل هذه الأبيات لا تمثل كربلاء ولم تصطبغ بصبغتها فليس الغاية من هذا الموضوع هو الجمع فقط، بل بيان ما تمثله كربلاء في ضمائر الشعراء من أثر أيضاً، وهناك أبيات أخرى جاء على ذكرها الشاعر خارج نطاق ملحمتها كوصف نزهة أو غيرها مما يقلل وقع هذا الاسم على السامع وقد تركناها أيضاً كما استبعدنا أيضاً الأبيات التي يشم منها رائحة الغلو لتجنب التحامل.

وقد اعتمدنا آلية السبق التاريخي في تسلسل الشعراء حسب وفياتهم للماضين وولاداتهم للمعاصرين، والحروف الأبجدية عند تشابه التواريخ، أما القصائد أو الأبيات التي ذكرتها المصادر دون ذكر أسماء شعرائها فقد اعتمدنا على تاريخ أقدم مصدر ذكرها في تسلسل الشعراء حسب السبق الزمني، كما لا ننسى أن نشير إلى أننا تتبعنا كربلاء في الشعر الحديث فكان لنا وقفة مع كربلاء في الشعر الحر في قصائد عمالقة هذا الفن، وعند تتبع الخط التاريخي الطويل للشعراء حسب السبق الزمني في ورود اسم كربلاء في شعرهم كان هناك (700) شاعر اجتمعوا في (كربلاء)

محمد طاهر الصفار

...........................................................

1 ــ ترجم له: أبو الفرج الأصفهاني ــ الأغاني ج١٢ ص 303 / ابن منظور ــ مختصر تاريخ دمشق ج 7 ص 373 / البلاذري ــ جمل من أنساب الأشراف ج 11 ص 334 أبو الفرج الأصفهاني / الأغاني - ج١٢ ص 303 

2 ــ معجم البلدان ج ٥ ص ١٥٤

3 ــ الأغاني ج 12 ص 63

4 ــ تبنّى هذا الرأي مصطفى جواد / موسوعة العتبات المقدسة ــ قسم كربلاء ص 11

5 ــ تاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٧٤ / معجم البلدان ج ٤ ص ٤٩١

6 ــ القول لدعبل الخزاعي / بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٤٩ ص ٢٦٠

7 ــ مقدمة أدب الطف للسيد جواد شبر ج 1 ص 10

8 ــ موسوعة آل النبي ص 765

9 ــ الغدير ج 2 ص 237 ــ 238

10 ــ عيون الأخبار لابن شاكر ج 1 ص 397 / الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة للسيد على خان المدنى ص ٥٨٠

11 ــ تاريخ الطبري ج ٤ ص ٤٤٨

12 ــ مقاتل الطالبيين ص 121

13 ــ تاريخ ابن عساكر ج ٣٤ ص ٤٨٥

14 ــ تاريخ الطبري ج 5 ص 608

15 ــ الكامل في التاريخ ج 2 ص 643

16 ــ معجم الشعراء ج 1 ص 140

17 ــ منتهى الطلب من أشعار العرب ج 1 ص 10 عن مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم (53)

18 ــ مستدرك الوسائل للنوري ج ١٠ ص ٣١٨

19 ــ أدب الطف ج 1 ص 18

20 ــ معجم الشعراء ج 1 ص 109

21 ــ ديوان القرن الأول من دائرة المعارف الحسينية ج 2 ص 196

المرفقات

: محمد طاهر الصفار : محمد طاهر الصفار