فن السينوغرافيا هو نشاط أبداعي يعنى بتشكيل وتصوير العناصر الفنية من كتلة وضوء ولون وفراغ وعناصر بصرية أخرى، وصياغتها بشكل معين لخلق نوع من المساهمة والمشاركة الفاعلة بين النص وإشكاله الفنية وبين المتلقي.. ويعرفه البعض على انه فن تشكيل الفضاء المسرحي تشكيلا فكريا وجماليا، يضمن تحقيق حالة من التفاعل السريع بين اطراف منظومة خطاب العرض - النص والمتلقي - لتحقيق نظام إنشائي فني متكامل لأي عرض مسرحي.
ولإعطاء هذا المصطلح الفني وجوده الحقيقي فلا بد من الرجوع الى مفهومه الاول، الذي ظل سائداً حتى عصر الكلاسيكية المسرحية القائمة.. على انه فن الديكور المسرحي و مكان الحدث الذي يدور فيه فعل الشخصيات التي تقوم بفعل المحاكاة النبيلة، بعيداً عن فن الاخراج الاول الذي كان يمثل محاكاة للأمكنة والفراغ والحجم فحسب، فمهمة السينوغرافيا مهمة جمالية صرفة يقع على عاتقها فعل صياغة زخارف دلالات الاحداث التي يمليها عليها النص المسرحي بغية تحريك خيال المتلقي بترسيخ مكان العرض والاحداث بعيداً عن أي منهج علمي اوفني جمالي.
ومع مرور الزمن والتطور الفكري والتقني والفني تطور مفهوم فن السينوغرافيا بما يوافق طموح الفنان المسرحي، وجاء ذلك عبر استخدام الوسائل التقنية والعلمية المتطورة وتوظيفها في هذا المجال، رغبة من صانعي العرض من مؤلفين ومخرجين بإلغاء الحدود الفاصلة بين النص الدرامي والعرض الصوري، لاعتبارات جمالية وفلسفية كان الهدف منها فتح افاق وابعاد جديدة لهذا المفهوم، مع التنوع الواضح في الاختصاصات التي ولدت تعريفات مختلفة متباينة للسينوغرافيا والتي تنقل النص الدرامي الى الخشبة المسرح عن طريق موقف المخرج، والذي يسعى جاهداً لإقامة روابط تنظيمية بين الصور الموجودة في النص والخزين الذهني المتراكم من صور ذهنية لدى الفنان المسرحي، حتى تنتج صور وتراكيب جديدة عن طريق مجانسة هذين العالمين، وهذه الصور او التراكيب تحمل في طياتها دلالات ومعان موجهة للمتلقي ومؤثرة فيه، كونها صوراً محسوسة فالجانب الحسي كما هو متفق عليه هو المؤثر الاكثر فعالية على المتلقي.. ولهذا تقع على عاتق المخرج المسرحي مهمة البحث في عالم بعيد عن النص المسرحي عن مؤثرات حسية لجذب المتلقي وجعله اكثر تفاعلاً مع النص المسرحي، بحيث يكون المسرح اكثر من مجرد مشهد سطحي منطوق.. وذلك من خلال آليات البحث في معمار مغاير وفضاء مؤثث تأثيثاً مختلفاً عن السائد والموجود، وبمعمار يسمح للحركة والموسيقى التصويرية والاضاءة بل وحتى مكان العرض، من خلق جو سحري محمل بالإيحاءات النفسية والحسية لمستويات الصراع الدرامي.
لذا فأن فن السينوغرافيا هو عملية تطوير وبلورة القدرات التي تمتلكها الصور الداخلة في بناء العرض ، والتي ينبغي ان تعتمد في حركتها على تراكيب وصيغ معينة تحمل خطوطاً يتم نسجها بين الاحداث والصور بعلاقات متعددة، وذلك من خلال اعتبار ان النص المسرحي هو محفز يساعد على اكتشاف واظهار ما يكمن في الباطن، والتوجه نحو الاخر، وهذه العملية بحد ذاتها هي عملية ابداعية فنية وليست مجرد عملية اخراج لسيناريو منمق ادبياً من اجل تفسير افكار المؤلف او تجسيدها، هذا فضلاً عن ان الثورة المسرحية اليوم هي ثورة على صعيد الاخراج والادوات المسرحية والفضاءات والامكنة، التي قامت اساساً على اجتماع ادوار المخرج والسينوغرافيا والممثل والاضاءة على حد سواء، وهي بلا شك قد احدثت انقلاياً في الفن المسرحي، ومن خلال هذه المفاهيم الفنية رسم المخرجون طريقاً ممهداً لكيفية استلهام الفضاء المسرحي واعتبار قيمته الايقاعية هي بؤرة واساس العمل السينوغرافي، وان هذه الجهود التطورية لمشروع المسرح الجديد كانت هي الخطوة الاولى والعتبة التي فتحت الافق امام فن السينوغرافيا الى عالمها الرحب.. وعبر انتشار هذا الفن بدأت تتحدد وظائف السينوغرافيا في استحداث دلالاته ومهماته التي تتركز حول التكوين من خلال تنظيم واستعمال الديكور ومحو الوظيفة التمثيلية للنظم الدالة في العرض المسرحي لإعداد فضاء مسرحي يجمع كل هذه النظم المختلفة في تشكيل فني ابداعي يعد القوة المحركة لأي عرض مسرحي.
ان العمل المسرحي تحكمه القدرة على وضع الاحتمالات ومناقشتها، وهو مرتبط بإمكانية الفنان على انجاز عوالمه المرئية المستقلة بذاتها بما يملكه من تصورات ومفاهيم عن المسرح من جهة وعن العناصر والمفردات من جهة اخرى، فالممثل يعد العنصر الاول في تركيب سينوغرافيا العرض وان حركته يجب ان تخضع لقانون توافقِ بين الزمان والمكان والفراغ على خشبة المسرح بمحورية الافقي والعمودي.. بحيث تقوم الاضاءة بتحويل هذا الفراغ الى عالم حسي موحد من خلال جسد الممثل الذي يخلق المكان ويشكل جزءاً من الفضاء وهو روح التمثيل والذي يعد كلامه جسد المسرحية ايضاً، اما البنى المجاورة للمثل والمتمثلة بالخطوط والالوان فتمثل القلب النابض للمشهد.. والذي يقع تحت سيادة الممثل وحركته وتشكيلاته، ولا يمكن للعناصر الاخرى من الاشتغال داخل العمل الفني دون الممثل كون السينوغرافيا وحدها ما هي الا حياة جامدة لا حراك فيها.
ولو اردنا الاطلاع على الديكور المسرحي لوجدنا انه لا يتعدى ترجمة للنص وما يحمله من افكار ومفاهيم، أي بمعنى آخر ان النص قد تحول الى تصاميم مرئية نابعة من عنصرين تشكيليين اساسيين هما الظل والضوء، من ناحية تصوير الكتل التكعيبية التي تكون مستويات رأسية في فضاء المسرح مما يعطي للمثل حرية الحركة وبالتالي الفرصة الاكبر للتأثير في نفس المتلقي وخلق جو سحري محمل بالدلالات، ولهذا فأن فن السينوغرافيا يهدف الى صياغة وتصوير وتنفيذ مكان العرض، وكذلك لعرض المكان الخاص بالعمل الفني المطلوب وتقديمه على المسرح وحتى وان كان مسرح في الهواء الطلق_ مسرح الشارع _ ، فالفنان السينوغرافي هو مصمم للديكور على نحو متباين مع مصمم ملابس العرض ومصمم الفضاء المسرحي والتعامل معه من ناحية المظهر، اذ يعتمد على استثمار الصورة والاشكال والاحجام والمواد والالوان والضوء والصوت.
ومن هذا المنطلق تتسع حلقة التطور وتصبح اكثر فعالية وتأثيراً في العرض، بالتغير الشامل الذي حدث في الفضاء المسرحي، من اجل ترويج ثقافة بصرية لا كلامية وبإثراء الفضاء بتعدد التراكيب والتكوينات بعيدة عن مادية النص، وذلك بجعل العرض المسرحي مليئاً بالإيحاءات والدلالات التي تخترق الفضاء وتلامس فكر المتلقي باستحداث فضاءات اخرى داخل هذا الفضاء الهندسي الذي قد تتراكب فيه مجموعة من الانظمة الاشارية المسؤولة عن نقل النص الدرامي الى قراءة اخرى.. تبدأ في ذهن المخرج عن طريق اقامة روابط بين الصور الموجودة في النص، والخزين الذهني المتراكم لديه عبر بلورة قدرة الصورة على التطور ومن ثم الوصول الى المتلقي بسلاسة وتأثير.. وهذا بحد ذاته يمثل عملية ابداعية لرسم سينوغرافيا العرض، بعيداً عن عملية اخراج النص الدرامي من اجل تفسير افكار النص او تجسيدها.
ولا يمكن التغاضي عن السينوغرافيا الحديثة التي رافقت النص المسرحي في ظاهرة مسرح الشارع الداعي الى استثمار الأماكن المفتوحة بين الشوارع والوقفات الاحتجاجية لخلق رسالة فنية ثقافية وسياسية، ليكون بالمحصلة نشاطاً مدنياً يصرح بهموم الوطن والمواطن، ويتواصل بشكل مباشر مع الجمهور ويبعث رسالته إليه، حيث ان هناك العديد من فنون الأداء المحلي والعالمي تقدم اليوم في شوارع المدن وساحاتها وحدائقها بأدنى حد من الوسائل الفنية، والتي يسعى القائمون من ورائها النقد الصريح للحكومات والاحتجاج تحدياً لسلطات الدولة وسياستها او الدعوة الى الحرية وتغيير الواقع المرير الذي تمر به المجتمعات.. فالسينوغرافيا هنا قد تكون معتمدة على الممثل والنص بعيداً عن متطلبات العرض المسرحي الاخرى كالديكور والالوان، ولكنها بالطبع تكون مجدية لهدفها او رسالتها المبتغاة.. فهي بعيدة عن سلطة التقويض الثقافي والفكري وتقدم في فضاء مفتوح لعامة الناس وهدفها الالتزام بالتوعية والتوجيه لما هو خير للمجتمع بمحاربة كل ما هو سلبي ومتخلف في النظم السياسية والاقتصادية للدولة بغية التغيير والإصلاح.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق