محمد باقر الشبيبي ... الشاعر الثائر

من شعراء العراق الأفذاذ وثوّاره الأحرار, جمع إلى جانب قصائده الوطنية والوجدانية المليئة بالعواطف والأحاسيس الملتهبة مواقفه البطولية في سوح الجهاد, فكان مثالاً حياً للإنسان الوطني المخلص الذي يطمح إلى الحرية لبلاده والتحرر من أغلال الاستعمار, كما كان أنموذجا رائعا لقادة الفكر وحاملي لواء النهضة الفكرية والاجتماعية ليس في العراق فحسب بل في جميع البلدان التي تسعى للنهوض والتقدم فكانت مبادئه السامية ومواقفه المشرفة نبراساً تهتدي به الأجيال جيلا بعد جيل.

ولد الشيخ محمد باقر بن الشيخ جواد بن محمد بن شبيب بن إبراهيم بن صقر البطائحي الشبيبي في النجف الأشرف عام 1889 في بيت عُرف بالفضل والعلم والأدب وله سجل حافل بالمآثر والكفاح الوطني وترجع هذه الأسرة آل الشبيبي في أصولها إلى قبيلة بني أسد.

وكان الشيخ جواد والد الشيخ محمد باقر من علماء النجف الكبار وأدبائها الأعلام درس الفقه والأصول على يد جماعة من كبار الأساتذة, كما كان في الرعيل الأول من أدباء العراق وشعرائه الكبار الذين سجلوا صفحات مشرقة في تاريخ العراق الحديث وقد ترك بعد رحيله ستة أولاد تخرجوا من مدرسته التحررية التي انطلقت ضد الحكم العثماني الجائر وممن حملوا السلاح بوجه الاستعمار البريطاني فألهبوا النفوس وشحذوا الهمم في سبيل استقلال البلاد وحريتها وهؤلاء الأولاد الستة هم: الشيخ محمد رضا الشبيبي, والشيخ محمد باقر الشبيبي, ومحمد جعفر, ومحمد علي, ومحمد حسين, ومحمد رشاد, وسيقتصر هذا الموضوع عن ثاني أنجال الشيخ جواد ألا وهو الشيخ محمد باقر الشبيبي والكشف عن أبرز الجوانب المشرقة في حياة هذه الشخصية الفذة.

كانت النشأة التي نشأها الشيخ محمد باقر الشبيبي قد عبدت له الطريق لأن يتربع على منصتي العلم والأدب فالبيئة والمحيط اللذان عاشهما قد تكفلا بصقل مواهبه وجعله علماً من أعلام البلاغة والبطولة, فبيته كان عبارة عن مدرسة يقصدها كثير من طلاب العلم والأدب للتزود من علومها وآدابها أما رائد هذه المدرسة فهو والده الشيخ جواد الذي يقول عنه الأستاذ علي الخاقاني في شعراء الغري:

(فصيح بليغ, لغوي مؤرخ حسن المحاورة جيد المحاضرة فطن ذكي ذو ذهن وقاد وفكر نقاد وكانت داره العامرة يتدافع إليها طلاب اللغة العربية والآداب والحديث والتاريخ حيث يتلقون منه ماشاؤوا من الآثار فللأديب فيها ما يغنيه عن كامل المبرد وأمالي القالي وللنحوي ما يزيده على كتاب سيبويه وللشاعر ما يصقل ديباجته ويجدد له معناه وللمؤرخ ما يرشده إلى مواطن التحقيق ومضان التدقيق).

في مثل هذه البيئة العلمية والأدبية نشأ الشبيبي, فكان لهذا المحيط النجفي أثراً كبيراً في صقل مواهبه ونضوج عقليته فهذه المدينة المقدسة الباسلة كانت مصنع الأبطال والثوار ولها سجل حافل بالبطولات ومقارعة الإحتلالين العثماني والإنكليزي, فشب الشيخ الشبيبي ونفسه تختلج بالمشاعر الوطنية الصادقة والحس النبيل وقد شهدت له صفحات المجلات العربية والعراقية بذلك منذ شبابه المبكر, فسجلت له مجلة العرفان الصيداوية والمنهل القدسية والمقتبس الدمشقية ولغة العرب البغدادية والمقتطف والمنار والهلال والرصافة ودار السلام والرقيب وغيرها كثيراً من القصائد والمقطوعات الشعرية التي نددت بالاستعمار العثماني وحثت على الثورة ضده فمن قصيدة له نشرها عام 1911 يقول فيها:

إذا ما الجيدُ زانتــــــــــه عقودٌ   ***   مرصّعة بلــــؤلؤِها النظيمِ

فلستُ أرى عـــــقود الدرِّ زيناً   ***   لجيدِك بل عقوداً من علومِ

ألستَ من الألى كرموا وطابوا   ***   وقد صعدوا لأفلاكِ النجومِ

ألمْ يهزُزكَ تاريخٌ مجيـــــــــــدٌ   ***   ألمْ يٌنهضــــك للدينِ القويمِ

كما كانت له وقفة شجاعة ضد دعوة الحكومة العثمانية إلى تتريك البلاد العربية فانتفض فيه العرق العربي في قصيدته التي أحدثت ضجة كبرى وأوغرت عليه صدر السلطة العثمانية وجعلها تتعقبه وكان مطلع القصيدة:

أأبناء هذا الشرق تعساً لشرقِكم   ***   أما فيكم إلا ابن خائنة غمرُ

فطالب موظفو الدولة بمحاكمة الشبيبي وإنزال العقاب به وتأديبه بدعوى الطعن في شرف أمهاتهم, أما الشبيبي فقد ذهب إلى الشطرة التي له فيها أقارب وأصدقاء كثيرون وقد أجريت له محاكمة وقررت المحكمة انتخاب العلامة محمود شكري الآلوسي عن الشيخ الشبيبي والذي برأه من التهمة.

وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى ونزلت الجيوش البريطانية إلى البصرة وهزم الجيش التركي كان الشبيبي في الشطرة فبينما هو يفرح بجلاء الاحتلال العثماني الذي جثم على أرض العراق لأكثر من أربعة قرون بقوله:

أبينوا لي التحقيق إني لفي شك   ***   فقد طهرت أرض العراق من التركِ

فإذا به يسوؤه قيام الإنكليز لاحتلال العراق بكامله ويؤلمه وضع العراق الجديد وما آل إليه أمر البلاد من الاحتلال الجديد:

يا مأتم الوطـــــــنِ الممزَّقِ بالحديدِ وبالحدودِ

إنا ترقّبنا الهلالَ يـــــــــــلوحُ في أفقِ السعودِ

وإذا المناحةُ في البلادِ تقامُ في القصرِ المشيدِ

بعد إقامته في الشطرة لأكثر من سنة ونصف تعرف خلالها على عشائر هذه البلدة ووقف على أحاسيسهم الوطنية الصادقة نحو الحرية والاستقلال, عاد الشبيبي إلى مسقط رأسه النجف الأشرف ليبذل جهده في واجبه الوطني وليساهم مع أبناء مدينته البطلة في ثورتها ضد الاحتلال البريطاني تلك الثورة التي كبدت الانكليز خسائر مادية كبيرة وحطمت معنوياتهم, وكان الشبيبي يفيض حماسة ونشاطا حيث لعب دوراً مهماً مع أخوانه الثوار في الاتصال بعدد من علماء الدين في النجف الأشرف ليوقعوا على رسائل تتضمن المطالبة باستقلال البلاد وحملوا هذه الرسائل إلى كربلاء لتوقيعها من قبل علماء الدين فيها ولا يخفى ما لهذا العمل من مجازفة وما تحف به من مخاطر في ذلك الوقت العصيب, ولم يقتصر هذا النشاط على كربلاء والنجف بل امتد إلى بغداد والكاظمية والبصرة وغيرها من مدن العراق.

وقد أتى هذا النشاط ثماره بإفساد خطة الاحتلال بتنصيب السير بيرسي كوكس ملكاً على العراق, كما أسهم الشيخ محمد باقر الشبيبي مع صحبه بتنظيم عرائض من جميع أنحاء العراق موضحين ما أجمع عليه الشعب بعد استفتاء عام وقرروا إيفاد الشيخ محمد رضا الشبيبي شقيق الشيخ محمد باقر إلى الحجاز وسوريا لشرح ما جرى في العراق وبيان ما اتفق عليه قادة الشعب فقال مودعاً أخاه:

بروحــــــي من أمَّ أمَّ القرى   ***   وعرّج فيها عـــــلى جُلّقِ

فتىً ساءه أن يرى في البلاد   ***   غريباً يعــــــيثُ فلا يتقي

فتىً فضّــــــلَ العزَّ في قفرةٍ   ***   على الـــذلِّ في بلدٍ مونقِ

فتىً لم يرقــــه هوانَ العراقِ   ***   فجازفَ في شرخِهِ الريِّقِ

وفي ذلك الوقت تأسست جمعية حرس الاستقلال الهادفة إلى تحرير العراق من براثن البريطانيين فانضم إليها الشبيبي وكان في مقدمة اعضائها البارزين وزادت نشاطات هذه الجمعية واتسع نطاقها وكثرت اجتماعاتها المنددة بالاستعمار وبخاصة بعد قيامها بمظاهرات كبيرة احتجاجاً على قرار سان ريمو القاضي بجعل العراق تحت الحماية البريطانية فسارعت السلطة المحتلة بإلقاء القبض على بعض زعماء هذه الجمعية فلم يجد البقية منهم بداً من الهرب وكان من بينهم الشيخ محمد باقر الشبيبي لكنه عاد إلى النجف الأشرف مع انطلاق الشرارة الأولى لثورة العشرين وبادر لتنظيم وسائل النشر والدعاية وتوجيه الرأي العام وذلك بإصداره مناشير يومية يذيع فيها أخبار المناطق الثائرة ويقدم التوجيهات التي تهدف إلى خدمة الثورة ونجاح مخططاتها وقد عبرت تلك التوجيهات التي لا يمكننا نشرها لطولها عن روح الشبيبي الكبيرة ونفسه المخلصة لوطنه وإيمانه بعدالة قضيته.

ولم يكتف الشبيبي بإسداء تلك النصائح فأصدر جريدة خاصة تحمل اسم الفرات لتكون لساناً للثوار الأحرار والمعبر الصادق عن أهداف الثورة الوطنية والرد على أكاذيب الاستعمار ودسائسه, كما قامت بنشر أجوبة رجال الدين الأعلام وفتاواهم ومراسلاتهم وخطبهم وقد حققت تلك الفتاوى أهدافها في رضوخ بريطانيا لمطالب الثوار.

ومن نشاط الشبيبي في مقارعة الاحتلال البريطاني وقوفه بوجه آراء الحاكم البريطاني العام وكان له كلمات وقصائد كثيرة نددت بالاحتلال, وأدت إلى اعتقاله مع عدد من زملائه الثوار بعد إحباطه خطط الانكليزي الميجر (بيتس) الداعية إلى الانتداب البريطاني على العراق وعندما أطلق سراحه كانت الجماهير تستقبله في بغداد وانتخب عضواً في المجلس النيابي الذي أقيم في العهد الملكي ممثلاً عن لواء المنتفك وكما هو عهده في مقارعة الاحتلال البريطاني فقد سجل له تاريخ العراق السياسي الحديث صفحات بيضاء انعكست فيها مواقفه الجريئة في محاربة الظلم والفساد الاداري وكان أنموذجا أعلى للبرلماني الصريح الذي لا يخشى في الحق لومة لائم ففي قصيدة نشرها في جريدة النهضة يوم 30 /11 /1929 يندد بالانتهازيين يقول:

أنوابُنا قـــــــــــــــرّب البرلمان   ***   فلا تبق أصواتكم هامدة

ولا نفعَ للشعبِ فـــــــي مجلسٍ   ***   عواطـــــفُ نوابِه راكدة

وهذي ستنفض مثـل اخـــــــتها   ***   وتبقى مساعيكـم الخالدة

كأن انتخابـــــــــــــاتنا أصبحت   ***   منافعها لــــــــكم عائدة

أفي الحق أن يستضام الضعيف   ***   جهرا وأعينكـــم شاهدة

يذاد عن العدل قــــــــــسرا كما   ***   تذاد الجياع عن المائدة

كما ندد بالذين عاثوا بأموال الشعب وراحوا يبنون بها القصور:

بربك ما هذي القصور ؟ لما تبنى ؟   ***   ومن أين هذا المال تخزنه خزنا

بربك هل أبقيــــــــــت للعدل حرمة   ***   وللحكم إذ أفسدت صورته معنى

كان الألم يعتصره وهو يشاهد بعد هذا العمر الطويل من الكفاح لهذا الشعب أن تصل الحال به إلى ضياع حقوقه وضياع آماله على يد من تصدّر لإدارة الحكم في البلاد:

وما شرف الأوطــــــان إلا سياسة   ***   قضى حكــــمها ألا نعود كما كنا

وما أفـــــــسد الأخلاق إلا جماعة   ***   ترى الخلق العالي الدناءة والجبنا

أساءت إلى روح السياسة عصبة   ***   إلى الآن لم تدرك سياستنا الحسنى

بنينا وأنشــــــــــــأنا ولكن غيرنا   ***   يخرب مــــــــــــا كنا بنينا وأنشأنا

وهكذا يستمر الشبيبي صادعاً بالكلمة الحرة والموقف الشريف والمبدأ السامي بعد ان انحرف أكثر السياسيين عن مبادئهم, أما هو فقد بقي أميناً وفياً صادقاً لخدمة أمته ووطنه فكتب كثيراً من المقالات في صدور الصحف (الزمان, نداء الشعب) وغيرها والتي تدعو إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي وتوحيد الصف:

بلادك والدســــائس حافزات   ***   ميادين معبّـــــــدة وسوحُ

بلادك أصبحـت وطناً مريباً   ***   وأكثر ما يريب بــها يلوحُ

تمر بها الحـــــوادث آمنات   ***   ومن يدري أتغدو أم تروح

أحادثة يجللها ســــــــــكون   ***   وحادثة قنابـــــــــلها تـطيح

ظلام في سياستنا مخــــيف   ***   وظلم فــــــي إدارتــنا قبيح

حملناها مظاهر كاذبـــــات   ***   تقنعـــها البراقع والمــسوح

ولم يقتصر على الاصلاح السياسي في شعره, بل دعا إلى الاصلاح الاجتماعي ومعالجة كثير من القضايا الاجتماعية التي أعطت صورة حية عن حقيقة الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الفترة, يقول الاستاذ خالد الدرة في مجلته الوادي في عددها 15 الصادر في 18 /6 /1960 عن الشبيبي:

(إنه فريد بين الأدباء وحري بالدراسة العميقة لا بين أدباء العرب فحسب بل بين أدباء العالم).

توفي الشبيبي يوم 7 /6 /1960 فانتهت بموته مسيرة نضال وكفاح وانطوت صفحة مشرقة من تاريخ إنسان لم يعرف الراحة في سبيل الحرية الوطنية والعدالة الاجتماعية والسياسية, يقول الاستاذ عبد القادر البراك في جريدة الاهالي يوم 10 /6 /1960:

(تركت وفاة الشيخ باقر الشبيبي موجة من الألم في نفوس الكثير من مقدري أدبه وفضله ومساعيه لخدمة الشعب والوطن وأعادت إلى الأذهان صوراً من كفاحه خلال الثورة العراقية التي أصدرت خلالها جريدة الفرات التي تنطق بلسانها وتعبر عن أهدافها وتنقل إلى الشعب أولا بأول ما حققته من انتصارات في المعارك التي خاضها هذا الشعب ضد المستعمرين كما أعادت إلى الأذهان مواقفه في الاحتفالات الوطنية وفي المجلس النيابي وما كان يتناقله الجمهور من روائع أبياته في مقارعة المستعمرين وأعوانهم وفي تصوير ما كان يعانيه الشعب من الآلام....)

وختم البراك مقاله قائلا: (إن الشيخ باقر الشبيبي من شعراء العراق الأفذاذ في العصر الحديث وأن الخسارة الكبيرة بفقده لن تعوض بغير نشر ما خلف من آثار وخاصة ديوان شعره الذي يصور فترة هامة من تاريخ كفاح الشعب العراقي في سبيل الحرية والاستقلال

أما جريدة الحضارة فكتبت تقول: (كانت معاني الحياة تتفتح في فمه كالزهرة المعطرة تحمل شذى النور والحب والجمال) ثم في ختام المقالة قالت: (لم يكن الشيخ محمد باقر الشبيبي وجهاً كسائر الوجوه التي تظهر ثم تختفي ولا يبقى منها سوى لمحات خفيفة تذوب بعد أيام قليلة وإنما كان وجهاً من الوجوه النيرة التي يشع بها تاريخنا الحديث وساعداً من السواعد القوية التي بنت هذا التاريخ ودفعت في وريده الدم الجديد).

محمد طاهر الصفار

المرفقات

: محمد طاهر الصفار