لا يمكن التغاضي عن وجود أشكال وانماط مختلفة من الديموقراطية الحقيقية في النشاط الفني، فان سلمنا بأنه تعبير عن اللاشعور وملاذاً تجد فيه الرغبات والآمال المقموعة متنفساً للتعبير عن نفسها، فمن الممكن اعتباره منبراً حراً للإفصاح وكشف الذات والآراء علناً وفي وضح النهار.. مع الالتزام بالشروط الجمالية في هذا الإفصاح، فالفن هو تعبير صوتي وسمعي وبصري لأشياء هي في العادة تحت سلطة قمعية كحلم التخلص من تقويض الحريات والاستبداد والعودة الى بعض الذكريات الجميلة والحنين الى الماضي... ومن خلال هذه الديمقراطية يعد الفن نفياً لكل تمرد قد تسعى له تلك المكبوتات لما تتعرض له من قمع وكما انه يجعلها منقادة للضبط والنظام بسبب إخضاعها لشروطه وقوانينه الجمالية من خلال تنظيم التجربة، فالفنون في اصلها هي انضباط وتعديل للأهواء وتهذيب لثورتها سواء ذلك في رجل الفن أم متذوقه.. فهو انضباط لنفسية الفنان والمتذوق في نفس الوقت.
ومن المهم ان نعلم ان العمل الفني لأي فنان لا يقتصر على إثارة العواطف أو كسب الإعجاب بفنه أو التنفيس عن مكبوتاته وتحقيـق أحلامه ورغباته فحسب، بل انه ينسحب الى استهداف اشياء وغايات آخرى، ولكن بشرط ان تكون مدرجة ضمن شروط الشكل الجمالي والوظيفي، فنحن نسلم ان المقصود من الفن بالدرجة الاساس هو العرض الجمالي للتجربة وفق شروط المنهج الفني من شاعرية وحدس وجمالية.. على ان يكون التأثير مصوراً بوساطة الإدراك الحسي، فالتأثير الجمالي هو الغرض المباشر من الفن.. ومنه نستطيع الانتقال الى الغرض غير المباشر، فمن خلال جمالية العمل الفني وتأثيره الحسي يتوجه الإنسان نحو أعمال الخير والفضيلة ورفض الواقع المرير، من خلال ارشاده إلى السلوك القويم وتنمية حسه الجمالي والذوقي، وبالتأكيد لا يكون ذلك للفنان الا ان كان متوسلاً بوسائل معينة لتحقيق اغراضه، ومنها ثقافته العالية وثبات مرجعياته التاريخية والتي يطرح من خلالها مثله العليا.. ليدخُل هو والمتلقي حيز الرضا والسرور بتحقيق الديمقراطية الحقيقية التي يسعى لها العقلاء.
إن الفن بزرعه عنصر التضخيم والمبالغة في جوهر الحدث والأشياء، وبما يمتلكه من وسائل قادرة على إضافة هالة من الغموض والقوة على ما يعرضه من تجارب محملة بالقيم والأفكار - التي يتوجب على الإنسان التمسك بها لما فيه خيره وخير المجتمع المنتمي اليه- ، فهو قادر على ترسيخ تلك المفاهيم والمطالب في ذهن الإنسان ودفعه لالتزامها والعمل بها.. فأوامر الانسانية والدين والعقيدة وآثار الفكر النير، لا فاعلية لها الا إذا اتشحت بوشاح الاخلاق والشرف والجلال.. وهذا من غايات الفن الملتزم، فكما إن للفن وظيفة زرع القيم الأخلاقية الحميدة في نفوس المتلقين، فإن له دوراً يتمثل في إزالة الصفات الخلقية السيئة من عند الآخرين وتنويرهم بالحقائق ومجريات الامور التي يحاول الفنان استعراضها كثائر ضد الواقع المرير الذي يعيشه هو والمجتمع المنتمي اليه، ولا شك هنا إن سمة التجسيد الحسي التي تتميز بها الاشكال الفنية، هي التي تؤهله لامتلاك القدرة على تحريك مشاعر وعقول الناس وبعض انفعالاتهم، اذا ما اسيء استخدامها من قبل البعض.. وان كان ذلك فهي تؤدي لا محال إلى تأثير معاكس للأخلاق الفاضلة، وهذا وارد في مجال الفنون في حال توظيف الفن سياسياً او دينياً مثل الفن الكنسي في العصور الوسطى وتوظيف الدين لخدمة افكار واهواء رجالات الكنيسة وقساوستها آنذاك، او كما حصل في بعض البلدان العربية والعالمية، حين وظف الفن لخدمة الطبقات الحاكمة وجبروتها.. ولهذا اكد العديد من الفلاسفة والباحثين في هذا المجال على ضرورة مراقبة الفن باعتباره اداة تربوية وثورية فعالة.. تغور عميقاً في تربة الحضارات ولها الدور الفعال في سعي الفرد لان يعي ذاته ووجوده، فالفن يعد احد الوسائل الأكثر فعالية في ميدان المعرفة والوعي ومن خلاله تدرك الروح ذاتها شأنه بذلك شأن الدين الفلسفة فهو كشف للحقائق وتجسيداً لها.
والفن بوصفه تعريفاً جمالياً للتجربة يتطلب منه التزام جانب الحياد في النظر إلى الأشياء، سواء كانت تلك الأشياء ممثلة للفضيلة أم الرذيلة، فعلى الفن تجسيدها حسياً وفق شروط وقوانين الشكل الجمالي ليصبح الإنسان واعياً بمكنوناته ومواضع قوته وضعفه، لذا فإن مهمة الفنان تكمن في الكشف عن الحقيقة كما هي واقعة وتوظيفها لما فيه خير البشرية وتنمية سلوكها القويم، وهذا هو هدف كل مفكر مسلح بقلم أو ريشة أو أزميل، فعلى الفنان ان يبث بين ابناء قومه روح الفضيلة والمواطنة والشجاعة، وعلى الفنان ان يصدر حكماً قطعياً واضحاً على الظلم والشر و يهاجم الطغاة ويكون نداً لهم بجمال طروحاته الفنية الاخلاقية ورقيها. اللوحة من ابداع الفنان التشكيلي فهمي 2019
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق