أم البنين (ع).. صلاة الحزن

(الرائد لا يكذب أهله), تجلى هذا القول بأبهى صوره في قصة زواج أمير المؤمنين (عليه السلام) من السيدة الجليلة فاطمة بنت حزام الكلابية (عليها السلام) حينما طلب (عليه السلام) من أخيه عقيل أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب ليتزوجها فتلد له غلاماً فارساً شجاعاً, فقال له عقيل ــ وكان نسابة وعالماً بأخبار العرب ــ أين أنت عن فاطمة بنت حزام, فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها.

كان لأهل هذه السيدة سجل حافل بالمآثر والبطولات, حتى ضُرب بهم المثل بالشجاعة والإباء, وكانوا من سادات العرب وأشرافهم وزعمائهم وأبطالهم المشهورين، وقد اجتمعت فيهم إضافة إلى الشجاعة والفروسية صفات الكرم والسخاء والنجدة وحفظ الذمار.

فهي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب.

أمها ثمامة بنت سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب

وُلدت في السنة الخامسة للهجرة في أغلب الأقوال.

كنيتها أم البنين وهي على كنية جدتها من قبل آباء أمها ليلى بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة التي كان لها خمسة أولاد أكبرهم أبو براء مُلاعب الأسنّة، وقد قال لبيد الشاعر للنعمان ملك الحيرة مفتخراً بنسبه ومشيراً إليها:

نحنُ بنو أُمّ البنيـــنِ الأربعه  ***  ونحنُ خيـــرُ عامر بنِ صعصعه

المطعمونَ الجفنة المدعدعه  ***  والضاربون الهامَ تحتَ الخيضعه

وقيل: إنها طلبت من أمير المؤمنين أن يناديها بأم البنين, لئلا يتذكر الحسنان (ع) أمَّهما فاطمة (ع) فتتجدد أحزانهما, فقد أبت هذه السيدة الحرة الطاهرة أن تتسبب بحزن سيدي شباب أهل الجنة, بل كانت لهم كالأم الرؤوم, فهي قد اكتسبت من أهلها الصفات الكريمة الفاضلة النبيلة, وانتقلت إلى بيت كان مجمع كل فضيلة ونبل وأخلاق فاضلة.

ولدت أم البنين أربعة أبناء كانوا مثال الشجاعة والفروسية والنجدة والإباء وهم قمر بني هاشم العباس بن علي بن أبي طالب, وعبد الله, وعثمان, وجعفر.

كانت أم البنين مثال المرأة المؤمنة الموالية لأولياء الله العارفة بحق أهل البيت (ع)، فأعطاها الله كرامة الدنيا والآخرة, وكانت تحرص أشد الحرص على ولَدَي رسول الله وسبطيه الحسنين أكثر من حرصها على أولادها الأربعة, وكانت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين تزورها في بيتها لجلالتها ومكانتها عند أهل البيت (ع)

وحينما خرج الحسين إلى العراق قدمت هذه المرأة أولادها الأربعة بين يديه وحثتهم على نصرته والتضحية دونه, فما أعظمها ؟ وما أعظم ما قدمته في سبيل الله ؟ ويكفيها فخراً وعزاً وشرفاً وكرامة أنها أم العباس وأخوته الشهداء.

ولما جاء خبر استشهاد الإمام الحسين (ع) إلى المدينة كانت تقدم عزاء الحسين على عزاء أولادها, فأقامت العزاء على الحسين, واجتمع عندها نساء بني هاشم يندبن الحسين وأهل بيته, وبكت أم سلمة وقالت: فعلوها ملأ الله قبورهم نارا.

وروي أنها بعد مقتل الحسين ومقتل أولادها الأربعة كانت تخرج الى البقيع كل يوم وتحمل حفيدها عبيد الله بن العباس معها وترثي أولادها:

يا من رأى الـعباسَ كرَّ  ***  عـــلى جـماهير النقد

ووراه مــن أبناء حيدرَ  ***  كــــــلُّ لـيثٍ ذي لبدْ

أنبئــت أنّ ابني أصيبَ  ***  برأســــه مقطوعَ يدْ

ويلي على شبـــلي أمــــــــــــالَ براسهِ ضربُ العمدْ

لوكان سـيـــفه في يديـــــــــــــه لما دنـا منـــــه أحدْ

لم تعد أم البنين بعد أن فقدتهم كلهم, وأصبحت هذه الكنية تذكرها بهم, فتبكي كلما سمعتها وهي تستحضر وجوههم المشرقة وهم يلتفون حولها وخاصة قمر بني هاشم فتهيج بها اللوعة والأسى:

لا تدعونّي ويـــكِ أمَّ البنينْ  ***  تذكريـــــــــــني بليوثِ العرينْ

كانت بنـــونٌ ليَ أدعى بهم  ***  واليومَ أصبــــحتُ ولا من بنينْ

أربعةٌ مثـلُ نــــسورِ الرُّبى  ***  قد واصلوا الموتَ بقطعِ الوتينْ

تُنازعُ الخرصــانُ أشلاءهمْ  ***  فكلهمْ أمســــــى صـريعاً طعينْ

يا ليت شعري أكما أخبروا  ***  بأنَّ عباساً قطيــــــــــــعَ الوتينْ

وآن لهذه الروح الطاهرة أن تستريح من عناء الدنيا وشقائها لتسكن جنة الخلد ومرافقة أهل البيت (ع), كان ذلك سنة (64هـ)، عندما دخل الفضل بن العباس بن علي بن أبي طالب على الإمام زين العابدين (ع) وهو يبكي وقد خنقته العبرة وقال له بصوت متحشرج: لقد ماتت جدتي أم البنين...

المرفقات

: محمد طاهر الصفار