لا شك ان للمراقد والأضرحة الدينية المقدسة دور بارز في تطور وعمران المدن الإسلامية.. كما هو حال المساجد ودور العبادة الاخرى، اذ أنها تشكل قطب الرحى والركيزة الأولى لانطلاق وتطور بناء المدن، ويستند تخطيط المدينة الى وجوده فتتوافد الناس اليه وتقصده وتتواجد عنده فيكون محوراً وأساسا لمدينة حضرية جديدة، فضلاً عن أن المراقد تتسم بتنوع وتفرد فنونها الزخرفية والعمارية مما يشكل عامل اخر لجذب للزوار من كافة انحاء العالم اضافة الى الصلاة والدعاء والتبرك بها كمراكز دينية مقدسة، وقد وصى خير خلق الله نبينا محمد صلوات الله عليه وآله بزيارة القبور للاتعاظ وتذكر الآخرة، وخير مثال على ذلك قبور أهل بيته التي تعلمنا من مسيرة حياتهم دروس التضحية والفداء واعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى .
يعد المرقد العلوي المطهر من المعالم الدينية المهمة في العراق والعالم الإسلامي بشكل عام، وقد وطرأت عليه عمارات عديدة وعلى مر العصور.. وكان ذلك على يد الحكام والملوك ومحبي وموالي العترة الطاهرة، حيث بدأت عمارة المشهد العلوي ببساطة البناء وتطورت عبر الزمن لتصل الى أوج ازدهارها العمراني وزينتها كما هي عليه اليوم، ففي عام (130)هـ وضع أول شاهد واضح المعالم ينبئ عن القبر المقدس لامير المؤمنين عليه السلام بأمر من الأمام جعفر الصادق سلام الله عليه، وهو كما ورد تاريخيا أول من أظهره الى عامة الناس وحدد موضعه، وبعد انتهاء الدولة الأموية وضعف نشاط الخوارج ببناء دكة من الآجر عليه ليكون دلالة لمحبيه ومن يريد زيارة قبره المقدس.. وقد عمد هارون العباسي بعد عام (170) هـ ببناء قبة من الطين الأحمر تعلو القبر الشريف الذي بناه هو الاخر بالحجارة البيضاء.. واستمرت مراحل التطوير العمراني المتباطئة حتى عام 273هـ حيث وضع صندوق فوق القبر . الشريف واطلق عليه صندوق داود نسبة الى صانع الصندوق ومزينه.
وهناك مراحل عمرانية اخرى بدأت عام 279هـ وهي تدعى بمرحلة عمارة ابن زيد الداعي .. والذي بنى على القبر الشريف قبة وعمر قلعة تحتوي على 70 طاقا ، وقد أخبر الأمام جعفر الصادق عنه فقال :( لا تذهب الليالي والأيام حتى يبعث الله رجلا ممتحنا في نفسه في القتل يبني عليه حصنا فيه سبعون طاقا )، وقد طرأت على هذه العمارة تعديلات كثيرة فيما بعد، حيث فشيدت على القبر قبة عظيمة لها باب من كل جانب وضعت لها ستائر من فاخر الستور وفرشت الارض بالثمين من الحصر.
اما عمارة عضد الدولة التي انطلقت من عام (338هـ) ، فهي تعد من أجمل العمارات وأفضلها.. وذلك بسبب ما توصل اليه الفن المعماري في ذلك الوقت من تطور وتميز جمالي، حيث تتميز تلك العمارة بتغطية الجدران بالقاشاني ذو اللون المشرق والمنقوش، ووضعت اعتابه من الفضة وفرش المرقد بأنواع البسط الحريرية وزين بقناديل الذهب والفضة بأحجام كبيرة وصغيرة وفي وسط القبة مسطبة مكسوة بالخشب المغطى بصفائح الذهب المنقوش وارتفاعها دون القامة وفوقها ثلاث قبور لنبيي الله آدم ونوح والامام علي بن ابي طالب عليهم السلام، ويتوسط هذه القبور طشوت من الذهب والفضة بداخلها ماء الورد والمسك يغمس الزائر بها يده ويدهن بها وجهه تبركا، وقد انشئ للقبة باب آخر يؤدي الى مسجد مفروش له أربع أبواب، وقد طرأت على هذه العمارة اصلاحات وتحسينات ثمينة الا أنها تعرضت للحرق وضاعت أغلب معالمها ولم يبق منها الا القليل وقد كانت القبة مميزة باللون الأبيض.
ومن جانب اخر تستمر الحضارة الإسلامية بالتنامي والازدهار الثقافي والعمراني والعمل على ارتباطها بثقافة البلدان المجاورة والتبادل الفكري والفني واقتناء كل ما يعمل على تطور هذه الحضارة العريقة بعد تشذيبها وتنميقها لتنسجم وترتقي مع متطلباتها الحضارية.. والعمل بالتغيرات الطارئة على الاساليب الفنية والإبقاء على الموروث بما يخدم عقيدة الاسلام والمسلمين، لتبدا عام 914هـ مرحلة العمارة الصفوية في تطوير المراقد المقدسة في العراق.. حيث صنع ضريح الامام علي عليه السلام من الفولاذ ووضع فيه صندوقين لكل من آدم ونوح وامير المؤمنين، وزينت الروضة المقدسة بقناديل ملونة، وصولاً الى عام 1032هـ حيث عمرت ووسعت الروضة العلوية المقدسة واستكملت القبة المطهرة ورمم الضريح وجهز بالفرش وأسس من ضمنها مضيفا للزائرين ايضاً.
أما في عام 1047هـ الموافق لعام 1067م، بقد ارتفعت العمارة الحاضرة لمرقد امير المؤمنين سلام الله عليه.. بعد أن شاهدوا خللاً ما في القبة الشريفة، اضافة الى بعض الضيق في مساحة الصحن الشريف، فعمدوا الى هدم بعض من جوانب الصحن بغية التوسعة .. حيث انفتحت ساحة الحرم العلوي المطهر افقياً لتشمل مساحات تتوافق وعدد الزائرين الوافدين الى الحرم المقدس، واستمروا بالعمل ثلاث سنوات وجلبوا أمهر المعماريين والمهندسين مما جعلها رائعة الشكل متقنة الصنع وأوجد فيها معرفة أوقات الزوال وعدم اختلافه صيفا وشتاء من خلال انتشار الاواوين على محيط الصحن الشريف.
وفي الفترة المحصورة بين عامي 1155هـ و 1153هـ م تم تذهيب القبة الشريفة وتزين القسم الداخلي بالكاشي ورمم الضريح ووضع أمام الصندوق تاجه وبعد عام تقريباً تم تذهيب المنارتين ووضع ضريح من الفضة ونصب على الباب الرئيسي ساع كبيرة، واستمر على ذا الحال حتى حلول مطلع عام 1360هـ حيث رصفت أرضية الروضة المطهرة بالرخام والمرمر الفاخر لتزين بعدها بعقد من الزمن تقريباً جدران الروضة المقدسة وقبتها من الداخل بزخارف مميزة من المرايا والزجاج.. وتستمر مراحل الاعمار والتزيين حتى الوقت الحاضر ليكون المشهد المقدس لأمير المؤمنين عليه السلام حلة من حلل الجنان في الارض وملجأ للحيارى والمحبين.
اعداد: سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق