المنظور المتحرك..

أخذت الحداثات الفنية في القرن المنصرم دورها في الإطاحة بالبنى الاجتماعية للأعمال الفنية وعزلها عن محيطها الخارجي وتكريس دراستها الجمالية عن طريق ردود فعل المتلقي تجاه منظومة العمل الفني وجماليته الداخلية حصراً، الأمر الذي دفع بإعلاء فعل التأويل والقراءة عند المتلقي ليكون له فضاءه الجمالي والنفسي والمعرفي في تحاوره مع العمل الفني نفسه.. فعند مطلع العقد السادس من القرن العشرين شهدت الساحة النقدية بآفاقها المتعددة ولادة مشروع المنهج البنيوي في النقد والذي عُدّ نقطة تحول جوهرية في تأريخ المناهج النقدية السابقة.. حيث كثف القائمون على هذا المنهج جهودهم للوقوف على البناء الداخلي للنص الأدبي او الفني بغض النظر عن العوامل الخارجية المحيطة به، اضافة الى الإحاطة بالماهية والتشكيل للنص من خلال في دراسته من الداخل، ليبدأ التأسيس للفاعلية الحداثوية الجديدة والانتقال الى لحظة الصيرورة والتحول الأشد تأثيراً على النصوص الفنية من خلال انبثاق نظرية القراءة والتلقي.

وجدت نظرية القراءة والتلقي ملاذها الآمن مع اتجاهات ما بعد البنيوية في ازدرائها لأحادية المعنى وتقويضها لمبدأ الإيمان بمرجع محدد، حيث تفتحت الآفاق أمام الذات لتفعل فعلها مع إنتاج النص والمعنى بواسطة فعل الفهم والإدراك متمكنة بذلك من تكثيف المعنى، فقد أعادت هذه النظرية مفاهيم الفلسفة الذاتية من خلال موضوع توظيف المعطيات الإدراكية لدى المتلقين.. وإقصاء حالات الانقياد اللاواعية للنص.. عبر تشغيل آليات الفهم والاستبطان والاستنتاج في عملية بناء المعنى، فضلاً عن تنشيط علاقة معرفية جدلية هادفة إلى تتبع واستقراء العمليات الذهنية والاستجابات الذاتية الصادرة عن المتلقي في أثناء قراءته للنص ومعرفة الكيفية التي يصل من خلالها إلى حلقات المعرفة وطبقاتها المتعددة بدون مساعدة تذكر، حيث يتلخص مبدأ نظرية التلقي الى إن أهم شيء في الأدب أو الفن التشكيلي هو المشاركة الفاعلة بين النتاج الإبداعي الذي أنتجه المبدع والقارئ المتلقي، أي أن الفهم الحقيقي للنص الفني ينطلق من مبدأ.. إن النص أو النتاج الفني لا يمكن أن يكون بمعزل عن القارئ المتلقي ، فالنص وحده لا يملك قدرة الصياغة الذاتية أبداً بل يفترض من القارئ أن يحضر في مادته ما ينتج المعنى من جديد، وهذا ينطبق على الفنون البصري ايضاً فهو ليس حكراً على النصوص الأدبية ، إذ يفترض أن يسجل المتلقي حضوراً في مادة النصوص الفنية من خلال استيعابه لعناصرها وتشكيلاتها الفنية وإطلاق العنان لمخيلته ليستطلع كل التأويلات الواردة في ذهنه ليتمكن في إنتاجها من جديد حسب رؤاه.

لقد بات العنصر الثالث في المثلث الاتصالي ( المؤلف والنص و القارئ ) يمتلك الصفة الجمالية والابداعية في عمليات انتاج الخطاب، من حيث انه الذات التي بمقدورها العمل على استكمال المعنى باعتبار ان الحوار القائم بين الاطراف الثلاثة يغذي القارئ بثقافته وافقه ليملأ النقص والفراغات التي خلفها النص، فللمتلقي دوراً مهماً في بناء المعنى وانتاجه وتغذية التحليل الفكري واللساني بمرجعيات ذاتية قائمة على فعل الفهم، ليكون الافق المتباين والمتشاكل الموجود بين النص بدلالاته والقارئ بثقافته الاجتماعية والنفسية والايديولوجية.. ماهي الا مجموعة من التوقعات المقصودة وغير المقصودة التي تشكل في نهاية الامر الفن بكليته من خلال التقاط القارئ للمفردات وينظم منها شجرة دلالية مفهومة.. وهنا يكون التلقي مستمرا بلا توقف و يختلف من زمن الى آخر ومن قراءة لأخرى باختلاف معطيات الظروف من حيث انصهار الافاق بعضها مع البعض من الماضي الى الحاضر.

تشكل النصوص الادبية او الفنية قناة وسطى تستفز آفاقها ملكة المتلقي لتحركها من جهة الى اخرى لأجل التفاعل وتمزجها من جهة اخرى لأجل التوالد.. مما يمنح القارئ قدرة اكبر على توقع بعض الدلالات والمعاني لقلب معادلة السائد في النص لحظة القراءة الى لحظة ممتلئة بالدهشة والمخالفة، فالقارئ في عملية التلقي يعد نقطة رؤية متحركة كون ان النصوص تمثل افتتاحيات أولية للمعاني وهنا يكون القارئ منظورا متحركاً بين الموضوعات الفنية او الادبية لأجل التأويل وهو من يحددها جماليا.

ان المسافة ما بين النص وبين القارئ تعد مسافة جمالية،  كونها تشكل استجابة مؤثرة للطرفين من جهة وتغيرات ظرفية للآفاق المتوقعة بينهما من جهة ثانية، وبذلك ينتج من خلال هذه المسافة وفرة من المتعة التي تضفي على الإنتاج فعلا ابداعيا وحسا جماليا، فهو ( القارئ) حين التلقي يستخرج ما هو مستبطن ومضمر داخل النصوص او الاشكال ليمنح تلك العملية اضافة جمالية في فهم الخطاب.

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات