أطلق عليه المختصون والمثقفون لقب (ذاكرة التاريخ)..
وعدّه الباحثون بقية العلماء السبعة الكبار في التاريخ العربي والإسلامي وهم: جابر بن حيان، والكندي، والرازي، والفارابي، وأبن سينا، وابن الهيثم، والطوسي.
كما لقبه علماء أوربا وأساتذة جامعاتها الكبرى في الندوة الربيعية الأولى للجامعة الصيفية العربية ــ الأوربية في بغداد سنة 1989بـ (المكتبة المتنقلة) و(الموسوعة المتحركة) و(انسكلوبيديا تمشي على رِجلين).
وقال عنه العلامة باقر شريف القرشي ( أن له فضلاً على كل بيت من بيوتنا)..
كما قال عنه عيسى اسكندر المعلوف: (شيخ العبقرية، والمخلص، شيخ العرب، وشيخ الأدب)..
وعدّه المرجع السيد محسن الحكيم (قده) (مجتهداً بلا عمامة) ولقبّه أيضاً بـ (مجتهد أفندي) ..
وقال عنه شيخ الإسلام فضل الله الزنجاني (العلامة المحدث الأديب، نادرة الأيام والأعوام) ..
أجازه المراجع الكبار في النجف الأشرف وقم المقدسة ونعتوه بـ (العلامة المحقق الفاضل) وفي مؤتمر ألفية الشيخ المفيد (قدس سره) في مدينة قم المقدسة قام بعد ألقاء كلمته عند الوفد العراقي بإعطاء هديته إلى كافة المؤتمرين وهي: عبارة عن أجازته الروائية المتصلة بالشيخ الصدوق (قدس) فكان لها صدى كبير وعدت أعظم هدية قدمت للمؤتمر.
وهناك ألقاب أخرى أطلقت عليه من قبل المؤرخين والباحثين والكتاب والأدباء مثل (المصدر الكبير) و(الأستاذ الأقدم) و(أبو العراق) و(العراق) أما اللقب الذي كان يعتز بها كثر من غيره فهو (شيخ بغداد)، ويقيناً أن هذه الالقاب التي أطلقت على شخصية نادرة كشخصية حسين علي محفوظ لم تطلق جزافاً.
العبقرية النادرة
كان عبقرية نادرة الوجود متعددة المواهب، أضاء بأعماله الفكرية والأدبية المختلفة دروب الباحثين وطلاب العلم بما قدمه من زاد فكري طيلة حياته الحافلة والتي أفناها في سبيل العلم وبها أثرى المكتبة العربية بتأليف ترفد أجيالاً وأجيالا وتلهمهم تراثنا الثقافي والتاريخي.. فقد كان العالم المتبحر والثقة الصدوق الذي تربع مكانه متميزة بين العلماء الأفذاذ..
في بيت تشع أنوار العلم من جنباته استقبلت مدينة الكاظمية المقدسة وليداً سيحفر اسمه من نور في صفحات مشرقة من تاريخها وسيتلألأ نجمه في سمائها, ففي يوم الاثنين 20 شوال 1344هـ المصادق 3/5/1926م كان هذا البيت مع موعد ولادة علم من أعلام الفكر العربي ذلك هو العلامة الدكتور حسين علي محفوظ.
وينتمي العلامة حسين علي محفوظ في نسبه إلى آل محفوظ وهم بيت علمي وعربي عراقي قديم فهو حسين بن علي بن الجواد بن موسى بن محفوظ الوشامي الأسدي من بني أسد بن خزيمة وقد عرف هذا البيت بآل محفوظ نسبة إلى جدهم الأعلى محفوظ بن وشاح بن محمد الملقب بـ (شمس الدين) والمتوفي سنة 690 هـ وكان محفوظ هذا من أعيان العلماء وأعلام الشريعة وأكابر الفقهاء وأجواد الأمة وسادة العرب في العراق في عصره وكان من فحول الشعراء وأئمة الفتوى والتدريس والكلام واللغة والنحو والعروض في القرن السابع الهجري.
أما أم الدكتور حسين علي محفوظ فهي السيدة العلوية خديجة بنت السيد هاشم بن محسن بن هاشم الحسيني وهم من ذرية عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).
رحلة العلم والأدب
توفي الشيخ علي وترك ولده الصغير (حسين) يعاني من حرمان حنان الأبوّة لكن الله سبحانه وتعالى عوّضه عن حنان الاب برعاية وكفالة عمه الاستاذ محمد محفوظ الذي أولاه رعاية تفوق رعاية الأب لابنه ذلك أنه تولى تربيته وتأديبه فنشأ ينهل من مكتبة عمه التي كانت الحاضنة الأولى التي غذته والمنبع الثر الذي استقى منه كما استفاد إضافة إلى هذه المكتبة من توجيهات عمه وأمه الفاضلة، فاطلع (محفوظ) على كتب العلم والتراث كما كان لمجلس العلم ومواسم الأدب التي كانت تزخر بها مدينة الكاظمية المقدسة أثراً كبيراً في رسم خطوات هذا الصبي في طريق العلم والفكر والأدب
كما اطلع على أصول التاريخ والثقافة وتتلمذ على يد أفاضل أسرته فقرأ مقدمات المنطق والأصول وقد ساعدته هذه المطالعات في التفوق في دراسته المنهجية وكذلك في كتبه وتأليفاته فكان للقرآن الكريم والحديث الشريف وأدب الدعاء ونهج البلاغة وعيون الكلام أثراً كبيراً في صقل بلاغته وأسلوبه وجمله وألفاظه ومعانيه وبيانه ويتجلى ذلك في خطبه وكلماته ورسائله ومقالاته.
تخرّجَ (محفوظ) من دار المعلمين العالية بعد أن حصل على شهادة (ليسانس) الأدب في اللغة العربية سنة 1948 بدرجة الامتياز والاولية ثم نال دكتوراه الدولة في الآداب الشرقية (الأدب المقارن) سنة 1955.
الشعر .. نقطة الإنطلاق
بدأ (محفوظ) رحلته الأدبية والفكرية مع الشعر في سن مبكرة فكتب أول قصيدة في وصف الربيع عام 1939 ولما بلغ السادسة عشر من عمره كان قد أكمل ثلاثة دواوين شعرية هي: (عبث الصبا) و(روائح الشباب), و(يواقيت الوشاح) وبعد أن دخل دار المعلمين العالية أصدر ديوانين آخرين هما: (شقائق) و(المحنة) وعندما غادر العراق كان مخاض شوقه وحنينه إلى أهله ووطنه ديوان (كربة الغربة) وسمى شعره بعد الأربعين (ثمالة كأس) وقال رحمه الله عن شعره في هذه المرحلة: (هي قصائد ومقطوعات وأبيات معدودة أحبها وأحسبها من القليل الجدير بالخلود والبقاء في شعري).
وعن إحساسه بالشعر يقول محفوظ: (إذا كان لا بد أن أقول شيئاً في شعري، فأنا لم أتكلف نظمه، بل كنت أحس في نفسي حاجة إلى قرضه).
ويتبين من كلام محفوظ عن الشعر إنه كان شاعراً حقيقياً صادقاً ملتزماً يؤمن بما يقوله فهو لا يقول الشعر ألا عندما يشعر أن هناك حاجة إلى قوله وهذه الحاجة بالطبع ليست كأغراض المديح المبتذل أو أغراض تافهة يبالغ فيها أغلب الشعراء وينزلون بالشعر إلى مرحلة الاسفاف والابتذال.
فالشعر عند محفوظ أسمى وأرفع من أن يمدح به من لا يستحق المدح أو يستخدم لأغراض اللهو واللعب كما يتبين كذلك أنه يريد من شعره ان يكون ذا مستوى ينظر إليه نظرة البقاء والخلود وليس نظرة وقتية مرحلية ينتهي الشعر بانتهائها.
مع التأليف
أما رحلته مع التأليف فتعود إلى مطلع الأربعينات حيث كانت رسائله القصار في الشريف الرضي والمعري والمتنبي وابن زيدون هي أوائل أعماله الأدبية وقد أصدرها عام 1942 وخلال حياته المليئة بالعطاء الثر تجاوزت نتاجاته الأدبية وبحوثه العلمية إلى ( 1500) مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة ودراسة وبحث.
لقد جمعَ محفوظ بين الدراستين القديمة والجديدة وروى الحديث إجازة وسماعاً وقراءة عن جماعة من علماء الأمة ومشايخ المحدثين، فروى عن أكثر من سبعين محدثاُ في المشرق والمغرب وروى قراءة عاصم من مشايخ القراءة والاجازة كما قام بتأسيس قسم الدراسات الشرقية في كلية الآداب بجامعة بغداد سنة 1969وترأسه حتى سنة 1973 ثم بقي أستاذاً للدراسات الشرقية في جامعة بغداد.
اهتم بالتراجم والطبقات والوفيات والاجازات والرجال وضبط وفيات المشاهير واقترح تأليف (تقويم الخالدين) عام 1960 لتكريم العلماء والأدباء والنوابغ والمشاهير والأعلام قديماً وحديثاً وإحياء ذكراهم، سجّلَ الأيام والوقائع والحروب كما سجل تقويم حياة النبي (ص) من الولادة حتى الوفاة وقام بإحصاء أحاديث الاخلاق في السنة واستخراج المقاييس الإنسانية في التراث العربي والإسلامي ورسالة العرب واللغة العربية وبراءتها من النقص وجوانب منسية في دراسة السنة النبوية.
المخطوطات
كما وضع علم المخطوطات سنة 1975وجمع ضوابطه وقواعده ومسائله ومصطلحاته وتعريفاته وألّف فيه (مصطلحات المخطوطات) و(مصطلحات المكتبة العربية) و( مصطلحات الخط) و(ومصطلحات الرسم والنقش والتزويق) كما وضع فهرست التراث المخطوط في العديد من دور الكتب والخزائن والمكتبات الخاصة في الشرق والغرب لا سيما في العراق وإيران وأذربيجان وروسيا حتى عد (الرائد الأمثل للتراث وعلم المخطوطات).
وفي سنة 1981وضع محفوظ (نظرية التأصيل) في تأصيل التراث العربي والإسلامي بأسلوب منهجي وأبتكر (دائرة التأصيل) للتطبيق والإيضاح, ومن أعماله المهمة في الخط (الدلائل الأدبية على قدمية الخط العربي) وقد حقق أن الخط العربي هو خط سدس لغات العالم تقريباً كما كتب في الفلسفة كتاب (من أجل الإنسان) سنة 1959.
مع العلوم الأخرى
وكتب في شتى المواضيع العلمية والفكرية والثقافية والتراثية والأنساب ومن مؤلفاته: أمهات النبي (ص) 1952 والمتنبي وسعدي 1957 وصحيفة الرضا (ع) 1957 وفضولي بغداد 1959 وتراث اقبال 1977 والمتنبي وسعدي (مجلدان) 1957 وعراقيات الكاظمي 1960 وتاريخ المتنبي في الأدب الفارسي وسعدي خريج بغداد في العصر العباسي الاخير وغيرها من المؤلفات.
أما نشاطاته العلمية فقد شارك ومثّل العراق في عشرات المؤتمرات العالمية والاستشراقية والندوات والمجالس العلمية والحلقات الدراسية والمهرجانات الأدبية في البلدان العربية والأجنبية منذ سنة 1954
انتخب عضواً باللجنة الأدبية في بعض المجامع العلمية في الشرق فقد انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1956والمجمع العلمي الهندي في علي كرة سنة 1976 كما انتُخب عضو شرف في العديد من المجامع العلمية العالمية منها الجمعية الآسيوية- الملكية في لندن عام 1961.
دخل محفوظ الكلية الشرقية في جامعة (بطرس بورغ) دارساً اللغة العربية وآدابها لمدة ثلاث سنوات لينال بعدها على لقب (أستاذ المستشرقين) وذلك عام 1969، ونال (وسام الثناء) في الثقافة 1957 و(وسام إقبال الذهبي) 1978 وفاز كتابه (المتنبي وسعدي) بجائزة أحسن كتاب لعام 1958 ورشحته جامعة بغداد كلية الآداب لعدة جوائز علمية وأدبية.
ذاكرة التأريخ
كان (رحمه الله) يمتلك ذاكرة عجيبة بقي محافظاً عليها حتى آخر أيامه، يقول أحد مستمعيه (كان أيسرّ الجالسين وهم ما بين طالب علم ومثقف وعالم دين ومستمع وكأنه يعرض أمام ذاكرته شريطاً من الأحداث، وما أثار دهشتنا وأعجابنا انه لم يتلكأ أو يتردد في ذكر تاريخ أو حدث بل لم يتوقف ليسعف ذاكرته).
كما كان رحمه الله كريم الأخلاق متواضعاً (فكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه وطالما ختمَ محاضراته أو مداخلاته بطرفة ارتسمت بعدها البسمة على شفاه الجالسين).
هذا ما رواه أحد المستمعين وهو يلقي آخر محاضرة له في مكتبة الجوادين في العتبة الكاظمية المقدسة عن الإمام الحسين (ع).
وفي يوم الاثنين 19/ 1/ 2009 الموافق 23 محرم 1430هـ فاضت روحه إلى بارئها في مستشفى ابن البيطار ببغداد عن عمر يناهز الثالثة والثمانين ودُفن جثمانه الثرى في طارمة باب المراد في الصحن الكاظمي الشريف، وقد ألّف فيه الأستاذ حميد المطبعي كتاب (العلامة الدكتور علي محفوظ) وكتب عنه العلامة الشيخ عيسى الخاقاني رسالة بعنوان (العلامة الموسوعة)، كما كتب الأستاذ طاهر الاسدي رسالة عنه أيضاً وطبعت عنه اطروحة وهناك اطروحات أخرى لم تكتب، فمحفوظ موسوعة معرفية متعددة الجوانب تنتظر الكتابة عنها.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق