وظف الفنان المسلم الحرف العربي في تزيين جدران المساجد والتحف والمصوغات الاسلامية بشتى انواعها ، أي لم يكن توظيفه وسيلة للتبرك أو تخليد ذكرى اشخاص أو تحديد تاريخ ما، بل كان يهدف باستخدامها كعنصر زخرفي ابتكره الفنان المسلم ليلعب دوراً هاماً ويعد فيما بعد ميزة مهمة من مميزات الفنون الاسلامية الى ان وصل بها الى درجة الابداع في التكوين.
انعكس ازدهار الحضارة الاسلامية وتنوع الثقافات واغتناء الفكر الاسلامي بالدراسات والشروح على الجماليات الاسلامية.. فازداد الوعي الجمالي واغتنى وتنوع، وكان لابد للحرف العربي ان يواكب هذا التطور فظهرت انواع من الخطوط لها اليد الطولى في تطور الفنون الاسلامية، فقد امتاز بعضها بهيأته الهندسية وزواياه مثل الخط الكوفي، وامتاز آخر بالجمال الرصين كخط الثلث أو السهولة كخط النسخ والرقعة، أو الليونة كالخط الديواني أو الشكل الفني المبدع كالجلي ديواني والطغراء وغيرها من انواع الخطوط الاخرى.
لقد انطلق الحرف العربي من مصادر الكنعانية وهو يحمل اشكالاً اكثرها هندسي القوام، وتطور فيما بعد ليأخذ اشكالاً لينة تارة أو هندسية متكسرة تارة اخرى أو لينة ومنكسرة معاً، وعندما ظهر الخط الكوفي كان في الواقع ذروة هذا النوع المركب، بل اصبح صيغة راسخة كالبناء الهندسي تعم اشكاله اغصان واوراق مجردة من الرقش، ولكن خطاً هندسياً صرفاً استعمل في القرن الخامس عشر في تزيين الواجهات المعمارية في بلاد فارس، وقد جاء مركباً من الواح الآجر التي تتشابك مؤلفة كلمات مقدسة كاسم الله جل وعلا ونبيه والاولياء صلوات الله عليهم.
يتكون الرقش العربي من شكلين احدهما هندسي ينطلق من شكل المثلث أو المربع، وآخر بين يستوحي اشكاله من النباتات وعروقها.. والتي تؤكد بمجملها الحدس المطلق والعفوية الابداعية عند الفنان المسلم، حيث ان نظام الرقش الهندسي ما هو الا تشابك وفق اسقاطات الاشعة البصرية الإلهية حسب رؤى الفنان المسلم، وان نظام الرقش الآخر تتواجد فيه رموز الطبيعة والكون التي تؤكد على ارتباطها المستمر بقوة علوية لا مناص من الارتباط بها والمتمثلة بالخالق المصور جل شأنه، وكثيراً ما تجلت هذه الصور من خلال العروق والاغصان المورقة والمزهرة بلفظ الجلالة الله بالخط كوفي او الخط اللين.. والتي جاء بها الفنان كتأكيد على عظمة الله ووحدانيته من خلال كلماته التامات واسماءه الحسنى.
من المؤكد ان الحرف العربي كعنصر فني زخرفي يساعد على ايجاد جو اسلامي بحت.. الا انه ليس بالضرورة ان يكون محتواه اسلامياً، فكثير من تلك النقوش الحروفية ليست ذات معنى بل تكون على شكل نقوش عربية بهيئة اسلامية أو قد تكون على شكل تكرار لكلمات مألوفة تعبر عن مسميات ما او حكمة جميلة أو امثال دنيوية،
ومن هنا اتجه الحرف العربي من شكله البدائي الى شكله الفني الزخرفي.. ولم يعد له حد في التفنن والابداع ولم يتخل في بعض المواطن عن وظيفته اصبح فيها صيغة فنية مجردة لا ترتبط بالمعنى بذاته بل بصفته القدسية التي اصبحت جمالية خالصة تبعاً لجمالية الحرف العربي ذاته، ومن المفارقات الرائعة في الحروف الفنية مكانته تزداد كلما ازداد بعده عن وظيفته البيانية.. فتصبح بعض صيغه المجردة التي هي من نوابع الخط مستقلة بذاتها وتحيطه بالمزيد من التزويق فضلاً عن المعنى، أو قد تنفصل عنه لكي تصبح رقشاً بحد ذاتها.
وظف الفنان المسلم الحرف العربي في الزخرفة كونه الحرف الوحيد الذي يمتلك قدرة مطاطية على التجاوب الهندسي من مختلف الزوايا، وذلك لأن كل ما اراده الفنان المسلم هو أن يخلد ذكر الله في ابداع صورة من صوره الماثلة في الحرف.. وقد ادى الخط الكوفي بشكل خاص وظائف زخرفية مهمة فضمن اشكاله المختلفة، واستطاع الفنان ان يصنع من خلال ربط كلماته اشكالاً هندسية بالغة التعقيد والدقة وبوظائف جمالية بالغة الاتقان والجمالية.
ان حرفنا العربية تستمد زخرفتها عادة من تناسق الحروف وحدها، وقد اتخذ الخطاطون العرب في القرون الوسطى الحروف العربية ما يصلح لان يكون اساساً لزخرفتهم فوظفوا عناصر زخرفية جميلة من رؤوس الحروف وسيقانها ، وجعلوا للحرف العربي اشكالاً متنوعة وبديعة سواء بشكلها الهندسي أو الزخرفي، فكتبوا الحروف على اشكال متنوعة منها هندسية ومنها نباتية او حتى بأشكال حيوانية معينة، وهذا ليس اغراقاً في الشكلانية بقدر ما هو اهتمام من الخطاط كي تأخذ كتابته شكلاً خارجاً عن المألوف ومحققاً جماليات اضافية في الوقت نفسه، فالمخطوطات او اللوحات الحروفية تعتمد على كيفية صياغة المفردات الحروفية وفق الانشاء العام للوحة، والخيارات اللونية المتمثلة والحسابات الدقيقة والموفقة في تكوين العلاقة بين الكتلة والفراغ وغير ذلك.. تعكس قدرات الخطاط الفنية ومؤهلاته الابداعية في تشكيل لوحة خطية تعبر عن الامكانات اللامحدودة التي يختزنها الحرف بشكله ومضمونه، فالحرف العربي تسمو فيه قيمة الشكل بقيمة المضمون ولا يمكننا ان نفصل الشكل عن المضمون في الفكر الاسلامي، بل ان هذه الثنائية غير قائمة اصلاً فيه ان صح القول.. حيث يكتسب الشكل في التكوين الفني قيمته المتعالية والمتناهية من تعالي وسمو المضامين التي اتجه الحرف العربي في التعبير البصري عنها عبر خط وتجويد رسم الآيات القرآنية الكريمة والاحاديث الشريفة والحكم والأمثال الخالدة والمقولات السديدة وروائع الاعمال الأدبية، أي ان المسلم في تمتعه بالنظر الى هذه الآيات والأقوال وقراءتها يرى فيها جمال الشكل والمضمون معاً، مما يدفعه للشعور بالسرور والرضا ولا يستطيع ان يفصل بين جمالية الشكل الفني عن جمالية مضمونه الروحي.
لقد خدمت الحرف العربي والكلمات المنقوشة على المساجد والاضرحة والمشاهد المقدسة ان اصبح لها وظيفة رمزية تؤكد قوة الاسلام وروحانيته، وكانت تلك الوظيفة الرمزية هي الجانب الاجتماعي للفن العربي الاسلامي بشكل عام، مؤكداً قدرته على اضفاء المسحة الفنية الى جانب العطاء الروحي الذي يقدمه الاسلام لراحة النفوس والدعوة الى الروحانية الخالصة .
ولذلك فقد حاول الفنان المسلم ان يؤكد دوره الفني الزخرفي في تقديم الحرف العربي تقديماً تشكيلياً مبدعاً يمزج ما بين اصولية الحرف والقواعد المتوازنة وبين الاتجاه التجريدي في الفن.. فان خاصية التجريد التي يمتاز بها الحرف العربي قد جعلت طبيعة التكوين الفني طبيعة تجريدية مثالية متسامية، تتجاوز في معناها البعد الكتابي الوظيفي المحض لتكسبه بعداً جمالياً متنامياً تنامياً رؤيوياً وعقائدياً محكوماً بين محاولة الفنان العربي المسلم في انتاج تكوينات خطية متسامية الشكل والمضمون وبين محاولته في السعي وراء الكمال المطلق في تمثيل العقيدة الاسلامية تمثلاً روحياً نقياً.
ومن هذا المنطلق اتجه الفنان المسلم بالحروف نحو الزخرفة بأنواعها التي تمتاز بالتجريد حيث وظف الحروف زخرفياً بدلاً من توظيف الاشكال الاخرى- الادمية او الحيوانية التي كانت شائعة الاستخدام قبل الاسلام في البلدان العربية والاوربية -، فأصبحت حروفه هي الصفة المميزة والطابع التشكيلي المختار لأعماله بما يتميز من تراكيب فنية وقوانين رياضية قامت عليها اشكاله ذات الحيوية والتوافق والايقاع الزخرفي.. والتي يظهر من خلالها التأثير المباشر في نفس المتلقي بما توحي به تراكيبها اللامتناهية بالخروج من الحيز المحدود الى اللانهائية ومنها الرجوع الى الله الخالق المبدع .
اعداد: سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق