عودة الى الذات.. ازمة ثقافة

لا شك ان للفنون التشكيلية دور في مجتمعاتنا العربية منذ القدم..  فهي مرتبطة بالعادات والتقاليد والظروف الاجتماعية والمعتقدات الدينية، حيث نجد الإنسان قد عبّر وعلى مر العصور عن كل ما يحيط بوسائل متنوعة ومستمدّة من المجتمع وذات صِلة قوية به.. فهو ينفرد بقدراته الخاصة على التعبير بما يملكه من عقل ولديه القدرة على نقل الاحاسيس والاختلاجات من اعماق ذاته وتحويلها الى صور يمكن مشاهدتها بصرياً والتأثر بها .

لقد كان للتطّور الحضاري والظروف المختلفة التي عاشها الانسان الفنان الأثَر الاكبر في خَلق وسائل للتعبير عما في داخله، فقد كانت في بداية ظهورها مقتصرة على اساليب تعبيرية مُحدّدة.. ولكنه انتج لنا من خلالها – رغم بساطتها - تركة لا يستهان بها من النِتاجات الفنية والثقافية الرائعة التي وثق فيها جوانب حياته وعكس من خلالها مستواه الفني والظروف التي عاشها كفرد متأثر ومؤثر من مجتمعه وفي شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسة والفكرية والدينية.

وقد أدرك الفنان العربي المسلم بشكل عام والعراقي بشكل خاص أهمية ذلك، حيث عمد لدراسة الموروث الاسلامي والعراقي القديم معاً وباجتهاد اضافة الى دراسة الحياة الاجتماعية والواقع العراقي والطبيعة، وقد حقّق الرسم العراقي خلال مسيرته أفكاراً تُمثل اهتمامات الفنان بشكل خاص ومجتمعه وتوجهاته الفكرية والعقائدية بشكل عام، و كان للواقع والبيئة تأثيراً كبيراً في ابداعاته الفنية حيث استخلص الفنان من تجاربه ليُعبّر عما بداخله كفرد من افراد المجتمع بغية عرضها للمجتمع والعودة به الى اصوله المتجذرة في عمق التاريخ .  

رسم الفنان العراقي مواضيع عديدة ومتنوعة استدرج من خلالها العناصر الجوهرية المُخبّئة في مخزون حضارته وموروثه الشعبي ، فقد تأثر ببيئته وتوجهاته الفكرية والدينية، فارتأى اولاً ان يرسم القرية وازقة المدينة ومن بعدها الجوامع والمراقد المقدسة وقبابها ومآذنها السامقة ومن ثم رسم النخيل وبعض المصورات التعبيرية للمرأة العراقية باعتبارها نواة الاسرة الصالحة... فلا ريب ان البيئة والمحيط الذي يعيش فيه الفنان هي المؤثر الاول على ابداعه ومنه يُعبّر عن مكنوناته المجتمعية.. وهي منبع ثر بكل المعاني والأشكال، فأفكار الفنان لا توحى له من قوى غيبية أو خفيّة وإنما هي مُكتسبة من بيئته وثقافته المجتمعية و منها يستمد ألوانه وأشكاله وشخوصه وهذا ما يؤثر على أسلوبه وكيفية بناءه للوحة ويجعلها ذات صفات مُعبّرة ومؤثرة في المتلقي.

ان عودة الكثير من الرسامين العراقيين للموروث ورسم الاشكال الفلكلورية بكل أبعادها وتفاصيلها ماهي الا عودة لرسم الصور المرئية الأولى التي تعود لطفولتهم ومحاكات موروثهم المهدد من قبل بعض التيارات الفكرية الخارجية، فأعمال الفنان العراقي الحديث  تكشف عن حقيقة هذا الاتجاه وعن ابتعادهم عن تصوير مشاهد المدينة بواقعها الصريح أو عوالمها أو الاهتمام بالأفكار وما شابه ذلك من موضوعات كانت سائدة في الاتجاهات الفنية، فغالبية الفنانين العراقيين عادوا الى موروثهم لتأصيل معالم حياة المجتمع العراقي وموروثهم العربي الاصيل الذي بدأ  بالاندثار شيئاً فشيئاً بحكم ما يدعى  بالتثاقف او التطور، وهذا يعكس بلا شك تفاعل الفنان العراقي مع ابناء جلدته وبيئته التي يعيش فيها.. فرسَم الازقة والريف والاهلة والمراقد المقدسة والأمومة وجوانب الحياة الاخرى ما هو الا رسالة صريحة معبرة من الفنان الى مجتمعه.. فالعلاقة بين الفنان وبيئته توافقية ومُتبادلة تؤثّر على عملية إعادة التركيب الحاصلة في الطرفين عبر التكيُّف..   فالبيئة الاجتماعية هي علاقات تقوم بين الفرد والجماعة في المجتمع ، يتفاعل الأفراد مع بعضهم البعض فتلعب العلاقة بينهم دوراً مهماً في تكوين شخصياتهم ومنهم الفنان من خلال اكتساب الخبرات الحياتية.. وبالتالي يكون شخصاً مؤثرا في مجتمعة يبث  رسائله الجمالية الانسانية الموجهة نحو الجماعة التي ينتمي اليها.

أن السعي وراء الثقافة أمر ضروري من أجل إدراك ما هو أصيل وما هو دخيل في التراث.. وأن الاهتمام بالتراث ما هو الا دلالة الوعي الفكري للمهتم، والبيئة العراقية هي أغنى بيئة حضارية موروثة على مَر التأريخ فعلى ارضها بعث الانبياء وقد شرف الله تربتها بأعمدة الدين من ال النبوة الاطهار سلام الله عليهم حين ووروا الثرى.. وفيها وضَع الإنسان أولى الحضارات المُمتدة عروقها في عُمق التاريخ ومن قلبها كتب الحرف الاول وأنارت بعلومها وفنونها اصقاع الارض و تركت آثارها مُتجسدة على أشكال الثقافة والفنون.

لقد حث الدين الإسلامي على التزيُّن والتجمُّل و ذلك انعكس على أعمال الفنانين ، ليس فقط في الانسجام والتناغُم بين الأشكال وإنما بالمعاني والأفكار أيضاً … وان أساس الفن أن يشعر الإنسان بالجمال ويحس به ثم يعبر عنه بشيء جميل أيضا فكما يقول الفيلسوف الإسلامي أبن الرومي بأن : " الصورة الظاهرة تقود إلى الصورة الباطنة "، وهذا أمر عُني به القرآن الكريم.. فالجمال يغرس في نفس الإنسان المسلم ويحفز عقله للشعور بالجمال من حوله ولكن ... أي جمال ذلك ؟

ولنا هنا ان نعود الى آيات الله البينات لنجد ان الخالق جل شأنه ينبه الانسان ويشد عقله وكيانه إلى الجماليات المبثوثة في خلقه للكون من حولنا فنجد قوله تعالى عن السماء ( وزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) وفي قوله الحق ( اَفَلَمْ يَنظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وزَيَّنَّاهَا ومَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) وايضاً قوله سبحانه (والأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)... فلا يمكن ان نتصور الجمال باي مرحلة فنية او أي فكر ما دون الرجوع الى  خالق الجمال الاول المبدع المصور سبحانه وتعالى ولنجعل الجمال الالهي لغة مشتركة بيننا برموزها ودلالاتها ولنجعلها محوراً للتفاعل على مستوى الفن وحياتنا اليومية... وان لا ننسى ثقافـتنا الذاتية المتأصلة  بروح الاسلام وبناءه المتين.. فمن خلالها ندرك جمال الأشياء المحيطة بنا ونعود الى واقعنا وماضينا الاصيل،  والفن هو جزء من التطور الثقافي المستمر وهو خبرة متفاعلة بين الفنان وبيئته ومجتمعه.. والفنان بفضل ثقافته يُصارع المادة بفكره ويده كفرد من مجتمع كبير... ذلك هو الانسان الفنان .

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

المرفقات