في مدوّنة هذا الرحالة وثيقة تاريخية مهمة تدين الغزو الوحشي الوهابي لكربلاء وما ارتكبه الوهابيون من جرائم شنيعة من قتل الناس الأبرياء ونهبهم وحرق المرقدين المقدسين للإمام الحسين وأخيه العباس (عليهما السلام) ونهب التحف والنفائس منهما, كما تعد مدوّنته وثيقة أيضاً تدين العثمانيين الذين تواطؤأ مع الوهابيين وتآمروا معهم على غزو المدينة فقد صادفت زيارته إلى كربلاء بعد حادثة الوهابيين بسنة واحدة فشاهد آثار الدمار والخراب الذي ألحقه هؤلاء الوحوش بالمدينة.
زار الرحالة الهندي أبو طالب بن حاجي محمد بك خان كربلاء عام (1803م) أي بعد السنة التي غزا فيها الوهابيون كربلاء وكان قد بدأ رحلته عام (1313هـ/1799م) من الهند إلى بريطانيا وفرنسا وعبر المحيط الأبيض المتوسط إلى إسلامبول ــ اسطنبول ــ ومنها دخل العراق عن طريق الأناضول براً فزار سامراء ثم كربلاء فالنجف فبغداد ومنها عاد إلى الهند وأنهى رحلته في كلكتا وقد دون مشاهداته في رحلته باللغة الفارسية وطبعت في الهند بإشراف ولده ميرزا حسن وسميت بـ (مسير طالبي) ــ رحلة أبي طالب إلى العراق وآسيا وأوربا وأفريقيا ــ وترجمت إلى عدة لغات فترجمت إلى الإنكليزية وطبعت في لندن عام (1810) ثم ترجمت إلى الفرنسية وقد ترجمها من الفرنسية إلى العربية الدكتور مصطفى جواد عام (1969)
ولد أبو طالب في لكنو بالهند عام (1167هـ/1753م) وبدأ رحلته إلى العراق بماردين فالموصل فكركوك فبغداد وبعد أن يصف مشاهداته وانطباعاته عن هذه المدن ينتقل في الحديث عن مشاهداته عن المدن المقدسة في العراق كربلاء والنجف ثم البصرة.
وقد نقل عدد من المستشرقين من رحلة أبي طالب ومشاهداته ومعلوماته في كربلاء وغيرها منهم لونكريك ــ ستيفن هيسلي لونكريك ــ في كتابه أربعة قرون من تاريخ العراق, وريتشارد كوك في كتابه بغداد مدينة السلام.
كربلاء
يصف أبو طالب رحلته من بغداد إلى كربلاء بما نصه:
وباليوم الرابع من ذي القعدة سنة 1217هـ الموافق اليوم الأول من مارس سنة 1803م بعد إقامتي ببغداد ثمانية أيام استأنفت سفري لزيارة مشهد كربلاء ومشهد النجف الأشرف وفي هذه المرة لم أعلم الباشا بنيتي وخطتي فاكتريت خفية خيلاً وبغالاً من حوذي واتفقت معه على أن يرافقني في جميع الطريق ...
ثم يصف أبو طالب لقاءه بقاضي كربلاء في الطريق وكان أيضاً عائداً إلى كربلاء من بغداد والذي سر بلقاء أبي طالب وطلب منه مرافقته في السفر وفي الطريق شاهد أبو طالب خانات على طول الطريق بنيت للمسافرين بالآجر ووصفها بأنها تشبه الحصون ولكنها يندر أن يقيم بها المسافرون كما يقول
أقام أبو طالب عند دخوله إلى كربلاء بدار السيد حمزة وهو من أعيان أسرة آل الأشيقر العلوية ويذكر أبو طالب معرفته بهذه الأسرة بالقول: وكنت عرفت ابن أخيه ــ ابن أخ حمزة ــ في مقصود آباد في البنغال وكنت أرجي أن أراه ثانية بكربلاء ولكنه توفي قبل وصولي إليها بعد أشهر ومع ذلك استقبلني أبواه استقبالاً حسناً وأعاناني على إتمام مختلف مناسك الزيارة, كما يصف أبو طالب الحفاوة التي استقبله بها حاكم كربلاء أمين آغا ودعوته إلى الغداء وكذلك إعداد عدة السفر له إلى النجف على نفقته رغم ممانعة أبي طالب من ذلك
حادثة الوهابيين
يصف أبو طالب حادثة الوهابيين التي لا تزال جراحها النازفة في قلوب الأهالي عند وصوله إليها فلم يمر عام على تلك الحادثة فكانت المدينة تعيش حالة الحزن والمآتم ويسودها أجواء الأنين والأسى ومما يزيد من حالة المأساة أن الأهالي قد فقدوا الأمان والسلام في مدينتهم بعد اشتراك الحكومة العثمانية التي كانت تحكم العراق بإبادتهم بتسليمهم بيد الوهابيين يقول أبو طالب وهو يصف هذه الفاجعة:
في الثامن عشر من ذي الحجة يوم غدير خم حيث كان معظم سكان كربلاء قد ذهبوا لزيارة النجف الأشرف بقصد الزيارة المخصوصة إذ داهم كربلاء خمسة وعشرون ألفاً من الفرسان وقد امتطوا الجياد العربية الأصيلة وكانوا قبل ذلك قد بعثوا جماعة منهم إلى ضواحي كربلاء وقد ارتدوا زي الزوار وجرى بينهم وبين (عمر أغا) والي كربلاء اتفاقاً وكان هذا الوالي سنياً متعصّباً, وعند دخولهم المدينة تعالت أصواتهم بـ (اقتلوا المشركين) وكان من البديهي أن عوقب عمر أغا آخر الأمر بأن أمر سليمان باشا والي بغداد باعدامه.
ويؤكد لونكريك ما قاله أبو طالب ويعقب بالقول: إن مرزا أبا طالب صاحب الرحلة المشهورة يلوم في هذا الحادث عمر أغا الذي لم يعمل شيئاً لحماية البلدة وقد قتله سليمان باشا في الأخير, لكن الملاحظ في الرحلة المذكورة نفسها إن عمر أغا هرب إلى قرية قريبة من كربلاء أول ما علم بالخطر فلم يدافع قط مع أن الناس كانوا يتهمونه بمخابرة الوهابيين والتواطؤ معهم.
ثم ينقل لونكريك عن رحلة أبي طالب أنه لقي بكربلاء عمته (كربلائي بيكم) التي جاءت لتقضي بقية حياتها في هذه الأرض المقدسة بجوار سيد الشهداء (ع) وهو غاية ما كانت تتمناه وكانت امرأة غنية فوجدها وهي في حالة يرثى لها من الفقر والعوز فقد سلبها الوهابيون كل ما تملك من الأموال والحلي الذهبية فأعطاها من بعض المال الذي يحمله معه.
كما ينقل هذا الحادث عن أبي طالب المستشرق ريتشارد كوك في كتابه بغداد مدينة السلام ويضيف عليه بالقول: إن الحادث الأليم قد أحدث رعباً وقلقاً في بغداد كلها وسرعان ما انعكس ذلك في استنبول وإيران.
ومن المرجح أن هذا هو السبب الذي اضطر له سليمان باشا لإعدام عمر أغا لتهدئة الرأي العام وامتصاص نقمة الجماهير فهو لا يعبأ لإبادة مدينة فضلاً عن إعدام الوالي عليها ولا يستبعد أيضاً اشتراكه في الجريمة فأراد التستر على نفسه بإعدام الوالي فهو الذي عيّنه والياً ويعلم جيدا تعصّبه وكرهه للشيعة ثم إن تصرف الوالي بترك المدينة وإعطاء الضوء الأخضر للوهابيين باستباحتها لا يمكن أن يكون تصرفاً فردياً ما لم تكن هناك سلطة أعلى أشارت عليه بذلك.
وكان هذا الحادث الأليم أثناء وجود أبي طالب في كربلاء هو حديث الناس فلا تزال جراحهم مقروحة وقلوبهم مفجوعة فيتحدث أبو طالب عن إحصائية الشهداء الأبرياء الذين قتلهم الوهابيون فيقول:
وقد قتل الوهابيون في الوقت القليل الذي لبثوه في المدينة خمسة آلاف إنسان, أما الجرحى فلا يحصون لكثرتهم وقد أخذوا الذهب والفضة والأشياء الأخرى الثمينة التي وجدوها. ودمروا البيوت والأسواق وسرقوا ما خف وزنه وغلا ثمنه وبعد أن قتلوا الناس أرادوا أن يخلعوا صفائح الذهب الإبريز من جدران المشهد الحسيني ولكن لاستحكامها ومتانة وضعها لم يستطيعوا ذلك, فقط خربوا قسما من الضريح الذي تحت القبة وفي الغروب غادروا كربلاء متجهين إلى الحجاز تاركين وراءهم مدينة منكوبة
ثم يتحدث عن أصداء هذه المجزرة الرهيبة فيقول:
هذا الحادث لا يزال على حداثته فلا يتكلم الناس عن غيره ولا يتحدثون بما سواه من الحوادث وحكاية هذه القسوة والوحشية الوهابية أقفت شعر رأسي إقفافا ــ أي لهول ما سمع ــ
ولكن آثار التدمير الذي ألحقه الوهابيون بالمرقد الحسيني الشريف سرعان ما أزيلت وعمر الضريح من جديد من قبل السلطان القاجاري محمد خان كما يظهر من وصف أبي طالب حيث يقول:
ومن المعلوم في هذا الزمان بفرمان من محمد خان القاجاري قد جدد وعمر قبة الحرم الشريف فالسقف من الذهب الإبريز اللماع والجدران مذهبة ومزخرفة بنقوش هي من صنع شهيري نقاشي إيران والصحن الخارجي والأواوين قد زينت بأكملها بالقاشاني الموجود في البديع الزاهي الألوان
وينبهر أبو طالب بهذا القاشاني الذي يكثر في وصفه والإعجاب بصنعه ومتانته وهو يفوق كثيرا ما رآه في الروضة العلوية والكاظمية من حيث رصفه وصنعه كما يقول ولكنه للأسف لم يكتمل بسبب وفاة السلطان محمد خان القاجاري.
ثم يصف الضريح الحسيني المطهر فيقول: إن في وسط الحرم صندوقا فولاذي الصنع في كمال الأناقة والجمال يثوي داخله سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) وعلي الأكبر وفي الجانب الآخر من الحرم ضريح الأثنين والسبعين شهيدا ...
ثم يصف عمل الخدم في الضريح المقدس فيقول: وخدمة الإمام الحسين (ع) منقسمون إلى أربع نوبات فكل طائفة من هؤلاء عندما تنتهي مدتهم في ضريح الإمام الحسين (ع) يذهبون إلى ضريح العباس (ع) وبالقرب من ضريح حبيب بن مظاهر سرداب المقتل ــ المذبح ــ الذي من هذا المكان يأخذون التراب, وفي وسط الصحن مقام إبراهيم المجاب ابن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم وبفاصلة ربع ميل خارج المدينة المخيم ومقام زين العابدين وزوجة آصف الدولة وقد شيدت عمارة لائقة على هذا المكان وبالقرب من هذه العمارة خان كبير قد شيده آصف الدولة وبسبب وفاته لم يتم بناؤه.
كما يصف أبو طالب الوضع الأمني المزري في ذلك الوقت وعدم قيام الحكومة العثمانية بأي دور يحمي الناس من الأخطار والمداهمات وقد منعه ذلك من زيارة قبر الشهيد الحر بن يزيد الرياحي لخطورة الطريق حيث يقول:
إن على بعد ثلاثة فراسخ من المدينة قبر الحر بن يزيد الرياحي الذي تشاهد قبته من بعيد وبما أن أعراب هذه النواحي من الشقاة ــ قطاع الطرق ــ فلا يخرج أحد للزيارة إلا مع قافلة كبيرة. ويبدو أنه لم يتهيأ له وجود قافلة كبيرة لكي يرافقها للزيارة حيث يقول: وقد حرمت من زيارته
ويصف السور الذي كان يحيط بكربلاء بالقول إن سورا من الطين كان يحيط بكربلاء وهو قليل العرض وغير متين وقد استطاع الوهابيون أن يفتحوا ثغرة به وينفذوا منه إلى داخل المدينة التي كانت قبل الحادثة غنية عامرة يسكنها سراة التجار والمتمولون وبعد ذلك الحادث المزبور هجرها الناس وتفرقوا عنها ولكن بعض أهل الخير أخذ يشيد سورا متينا للمدينة.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق