رغم أن الغايات الأولى للاستشراق قد ارتكزت على تصوير الشرق المليء بالكنوز ونقل الآثار النفيسة والمخطوطات المهمة إلى الغرب إلا أنها تطورت إلى وصف الحياة والأقوام ثم انتقلت نقلة خطيرة بالاهتمام بالتاريخ الإسلامي والفقه والعقيدة والسيرة والشعر بل وحتى خصائص الإنسان المسلم وهو ما يدعو إلى التحرز من المعلومات التي دونوها ووضع كتاباتهم ومدوناتهم على المحك وإجراء كشف مجهري عليها قبل الاندفاع وراء التحريف الذي أصاب (بعضها) والقراءات المغلوطة التي تؤثر سلبا على تاريخنا خاصة أن المستشرقين قد تناولوا جميع مراحل التاريخ الإسلامي بدون استثناء.
من هذه المدونات التي لم تستند على قراءة واعية وعدم دراية هي مدونة المستشرق والرحالة جون بيونت بيترز (1) رئيس بعثة بنسلفانيا (2) للتنقيب عن الآثار القديمة في نفر (منطقة عفج) الذي اعتمد في نقل معلوماته عن تاريخ كربلاء والمراقد فيها على خادمه الأرمني (نوريان) الذي لا يقل جهلا عنه وأضاف إليها معلومات من انتاج خياله ودونها في رحلته (3) !!
ورغم أن المفروض كونه رئيسا للبعثة الآثارية التي جاءت للتنقيب أن يكون ملماً بتاريخ هذه المدينة المشهورة بقدسيتها قياسا إلى بقية المدن العراقية كونها مركزا دينيا مهما ومقصدا للزائرين من كل مكان إلا أنه كان جاهلا بأبسط المعلومات عنها فدون كثيرا من الأغلاط الفظيعة التي لا يقع فيها أي إنسان يدخل المدينة ويسأل أي شخص من أهلها عن أصحاب المراقد فيها وقصة مقتلهم ودفنهم !
فهو عندما يصف ضريح الإمام الحسين (ع) يقول: (إن الحسين قتل من قبل جنود (معاوية) المنافس له على الخلافة .. !! وقد دفن هنا مع أخيه الإمام الحسن (ع) ..!! وإن العباس الذي قتل مع الحسين هو من شيوخ العرب يشتهر بالغضب والشدة) !! فلا يعلم بيترز أن العباس هو اخو الحسين !! كما يجهل أن الإمام الحسن قد دفن في البقيع !!
جون بيترز في كربلاء
رغم هذه الأخطاء التاريخية التي وقع فيها بيترز إلا أن رحلته إلى كربلاء لم تخل من جانب إيجابي تمثل في مشاهداته التي وصفها بدقة متناهية.
زار بيترز كربلاء في عام (1307هـ/1890م) بعد أن زيارته السماوة والنجف وكان قد تولى مهمة التنقيب عن الآثار في منطقة نفّر القريبة من بابل (الحلة) بجنوب العراق وهي أطلال مدينة نيݒور القديمة التي كانت العاصمة الدينية في عهد السومريين والبابليين. وقيل إنها سميت بنفر لأن كنعان بن نمرود (4) نفرت به الجبال حين هبطت عليها النسور
وفي طريقه من النجف إلى كربلاء كان هناك على الطريق خان في طور البناء تبرع ببنائه رجل من المحسنين يدعى ميرزا وكان ميرزا قد مات مؤخرا ودفن في النجف الأشرف ويعقب الأستاذ جعفر الخليلي على قول بيترز هذا بالقول في ترجمة صاحب الخان: هو الحاج سليمان ميرزا من آل ميرزا وهي أسرة نجفية عريقة تنتسب إلى بني أسد وكانت له خيرات ومبرات كثيرة ومنها بناء هذا الخان (5) وموقع هذا الخان كما يتضح هو في الجزء التابع إلى النجف
واصلت قافلة بيترز سيرها إلى كربلاء وعند الظهر وصلت إلى خان الحماد وهو (خان النص) كما يسمى وسمي بذلك لوقوعه في منتصف الطريق الواصل بين مدينتي النجف وكربلاء وتسمى الآن هذه المنطقة بناحية الحيدرية التابعة لمحافظة النجف، وقد بنا هذا الخان محمد صالح كبة سنة عام 1774م لإقامة الزوار القادمين مشياً على الأقدام إلى كربلاء والنجف وهو من أكبر الخانات في تلك المنطقة فهو يضم خمسة خانات وتبلغ مساحته سبعة دوانم ونصف الدونم. وفي هذا الخان يقول بيترز أنهم كان بوسعهم أن يشاهدوا من بعيد أهوار الهندية بلدة الكفل وبُرز نمرود.
بقي بيترز ومن معه في هذا الخان إلى مغيب الشمس لأن الجو كان حاراً جداً ولا يمكنهم معه الاستمرار في المسير وعند الغروب تابعوا رحلتهم على ضوء القمر وهم يمتطون الحمير ولفت انتباه بيترز وجود عدد كبير من الزوار في طريقهم إلى كربلاء وهم يمتطون الحمير مثلهم ولما استفسر عن عدم وجود الخيل والبغال قالوا له: إن الحكومة جمعت الخيول والبغال وصادرتها ولا يعرف سبب ذلك.
وصل بيترز ومن معه كربلاء عند أذان الفجر فدخل خادمه (نوريان) الأرمني إلى الحضرة لصلاة الفجر برفقة الخادم الأرمني الآخر الذي لم يسمه.
وينقل بيترز في وصفه لمرقد الإمام الحسين عن (نوريان) الذي يعتقد (أن مشهد الإمام الحسين أكبر وأوسع من مشهد الإمام علي بكثير وفيه الكثير من أعمال الحفر الخشبي لكنه لا تكثر فيه الزينة بالذهب ولا تغلف منائره بالذهب إلا إلى حد الحوض فقط, كما أخبره أن الصحن الكبير كانت فيه منارة ثالثة مزينة بالكاشي البديع وهي من تشييد أحد العبيد المعتقين)
ويعقب المحقق محمد صادق الكرباسي حول تذهيب المنائر إلى الحوض بالقول: ويبدو أنه ــ أي بيترز ــ زار المدينة حين كانت المنائر في طور الإكساء بالذهب (6) أما بالنسبة للمنارة الثالثة داخل الصحن والمزينة بالكاشي البديع فهي منارة العبد التي يعود تاريخ بنائها إلى سنة (767هـ) وقد بناها الخواجة مرجان الذي الوالي على بغداد من قبل أويس الجلائري وكانت تسمى (انگوشتي يار), وقد هدمت هذه المنارة عام (1354هـ/1936م) بأمر ياسين الهاشمي رئيس الوزراء آنذاك.
ويصف بيترز كربلاء بالقول: (إنها تقع على حافة السهل الرسوبي الخصب الذي يتصل بهضبة الجزيرة العربية. ويبلغ عدد نفوسها حوالي ستين ألف نسمة وأنها بلدة مزدهرة. أما القسم الجديد منها الذي أنشئ حديثاً خارج السور القديم ففيه شوارع واسعة وأرصفة منتظمة بحيث تبدو ولها مظهر أوروبي حديث. ومع أن أسوارها مهدمة قديمة فإن أبوابها كانت لا تزال قائمة تجبى فيها المكوس ورسوم الدخولية).
وهذه المكوس والرسوم الداخلية فرضتها الحكومة العثمانية على الذين يريدون زيارة قبر الإمام الحسين.
وقد صادف وجود بيترز في كربلاء موجة حر شديدة من موجات منتصف الصيف حيث بلغت درجة الحرارة فيها 110 إلى 120 درجة فهرنهايت في الظل, فيقول إن الناس كانوا يعلقون على الشبابيك في البيوت العامرة طبقات العاقول المنقع بالماء.
ومن الأخطاء التي وقع فيها بيترز في حديثه عن الصناعات التي اشتهرت بها كربلاء إنه قال: (إن من الصناعات الخاصة تزوير الآثار القديمة) وفي الحقيقة إن كربلاء اشتهرت بالصناعات النحاسية والخزفية المنقوش عليها بعض الأماكن المقدسة مثل مكة المكرمة وقبر النبي (ص) وقبور الأئمة (ع) وغيرها فظن بيترز إن هذه الصناعة هي تزوير لآثار قديمة
محمد طاهر الصفار
.............................................................................................................
1 ــ جون بوينت بيترز (john punnett peters) عالم آثار ورحالة ومستشرق أمريكي ولد في نيويورك ستي عام 1852 وتوفي في مسقط رأسه عام 1921, تولى التنقيب عن الآثار في منطقة نفّر القريبة من بابل (الحلة) بجنوب العراق وهي أطلال مدينة نيݒور القديمة التي كانت العاصمة الدينية في عهد السومريين والبابليين.
2 ــ بنسلفانيا (Pennsylvania) مقاطعة تقع في الشمال الشرقي من الولايات المتحدة الأمريكية على حدودها الشرقية تقع ولاية نيوجرسي وقاعدتها مدينة هاديسبورغ وهي قريبة من المحيط الأطلسي
3 ــ John punnett peters: Nippuar or Explorations and Avcentures on the Euphrates 1880 - 1890, page: 331, Volume II - second compaign 1897.
4 ــ كنعان بن نمرود هو حفيد كوش بن حام بن نوح تولى كنعان الملك من أبيه نمرود الذي كان طاغيا وأسس دولته في العراق متخذا من بابل عاصمة له وبنى مدينة نينوى في شمال العراق التي أصبحت عاصمة دولة آشور فيما بعد كما بنى مدينة نمرود (كلخ)
5 ــ موسوعة العتبات المقدسة ج 8 قسم كربلاء ص 305
6 ــ تاريخ المراقد ج2 ص 202
اترك تعليق