ابتكر الفنان المسلم العناصر الزخرفية بأنواعها المعروفة، واصبحت تلعب دوراً هاماً وميزة من مميزات الفنون الاسلامية مستعيناً بالحروف العربية على ذلك، بما تمتلكه من مرونة وبساطة وحيوية وقابلية للزخرفة بوجوه شتى، مما ترك الاثر الاكبر في تطوير الفنون الى ان وصلت حد الابداع وابهار المتلقين ونقلهم - حين التعرض اليها - من الوجود المادي الى الوجود الروحي بتكويناتها الاخاذة.
ان ازدهار الحضارة الاسلامية وتنوع الثقافات واغتناء الفكر الاسلامي بالدراسات والشروح المختلفة انعكس على الجماليات الاسلامية، فازداد الوعي الجمالي واغتنى وتنوع وكان لابد للحرف العربي من مواكبة هذا التطور.. فظهرت انواع من الخطوط لها قراءتها.. فبعضها امتاز بالخطوط الهندسية وزوايا مثل الكوفي، او الجمال الرصين كالثلث أو السهولة كخط النسخ والرقعة أو الليونة كالديواني أو الشكل الفني المبدع كالجلي ديواني والطغراء … وهكذا بالنسبة لباقي انواع الخطوط العربية الاخرى.
لقد انطلق الحرف العربي كما هو معروف في اغلب الدراسات من مصادر الكنعانية وهو يحمل اشكالاً اكثرها هندسي، وتطور فيما بعد حتى اخذ اشكالاً لينة تارة أو هندسية متكسرة اخرى أو لينة ومنكسرة معاً وتطور وصولاً الى الخط الكوفي الذي كان ذروة هذا النوع المركب من الخط ليتكون منه الرقش العربي المتكون من شكلين، احدهما هندسي ينطلق من مثلث أو مربع ويدعى بالخيط، و آخر يستوحي اشكاله من النباتات وعروقها ويسمى الرمي والذي يؤكد العفوية الابداعية عند الفنان المسلم.
فالرقش اللين لا ينفصل عن الطبيعة ، أي هناك رموز مشتركة لهذه العناصر الزخرفية بعالم الازهار والنباتات والأوراق ونظامها في الرقش المعزز برموز الطبيعة والكون التي تؤكد ارتباطها المستمرة بقوة علوية لا مناص من الارتباط بها.. وكذا الحال بالنسبة للرقش الهندسي بنظام خطوطه المتقاطعة وفق اسقاطات الاشعة البصرية الإلهية، وهذا ما يتجلى في الانظمة الزخرفية من خلال العروق المورقة والمزهرة بكلمات الله وبالخط الكوفي او اللين، كتأكيد على هيمنة الله من خلال كلامه المقدس على هذا النظام الكوني الفردوسي، فاذا كان نظام الخيط الرقشي قد عبر عن الملأ الاعلى بأبعاده اللامتناهية فانه هنا يعبر عن الفردوس الارضي وارتباط الانسان بملاذه الامن .
تستمد الحروف العربية جماليتها الزخرفية من تناسق الحروف وحدها، واتخذ الخطاطون العرب في القرون الوسطى من الحروف العربية ما يصلح لان يكون اساساً لزخرفتهم.. فوظفوا عناصر زخرفية جميلة من رؤوس الحروف وسيقانها.. وجعلوا للحرف العربي اشكالاً متنوعة وبديعة سواء بشكلها الهندسي أو الزخرفي ، فكتبوا الحروف على اشكال دائرية وعلى مربعات ومسدسات وعلى اشكال الطير والزهر وساعدهم على ذلك طبيعة الحروف العربية وطريقة اتصالها ، وهم بذلك لم يلتزموا بما تفرضه عليهم قواعد الخط واصوله من ضروريات أو مستلزمات ، فأخذوا يتلاعبون بتشكيلها الزخرفي، فمرة يظهرونها متقاربة جداً أو مزدوجة وتارة متباعدة منسقة ومرتبة ترتيباً بديعاً، وهذا لا يعد اغراقاً في الشكلانية بقدر ما هو اهتمام من الخطاط كي تأخذ كتابته شكلاً خارجاً عن المألوف ، مستق احياناً من الماضي ومحققاً به جماليات اضافية.
تعتمد اللوحات الحروفية قديما وحديثاً على كيفية صياغة المفردات الحروفية وفق الانشاء العام للوحة، والخيارات اللونية المتمثلة والحسابات الدقيقة والموفقة في تكوين العلاقة بين الكتلة والفراغ وغير ذلك، مما يعكس في النهاية قدرات الخطاط الفنية ومؤهلاته الابداعية في تشكيل اللوحة الخطية المعبرة عن الامكانات اللامحدودة التي يختزنها الحرف العربي في الاشكال الفنية الجمة لأنواع الخط ، وتجديداً في جمالية الاشكال والمرونة والانسيابية ، وهذا يعطيها علاقات متناغمة في تنظيم الحروف التي تشكل البنية الخطية الكلية في
هيئة متميزة، من خلال عمليات الاختيار الموفقة لخصوصية شكل معين لهذه الحروف دون سواه من الاشكال الخاصة بنفس الحروف .. حيث تعددية اشكال الحرف الواحد عند خط كلمة معينة واداء حروفها برشاقة من جهة ، وايضاً من خلال عمليات المد والفصل والوصل والتركيب والتشكيل والتأليف وغيرها من عمليات صقل وتهذيب التعبير الفني الشكلاني في أداء الحرف العربي داخل اللوحة او المخطوطة.
ولو تطرقنا الى الشكل والمضمون في صياغة الحرف العربي واللذان يمثلان قوام كل عمل فني جميل ، لوجدنا ان الحروف العربية تسمو فيها قيمة الشكل بقيمة المضمون ، حيث اننا لا يمكن ان نفصل الشكل عن المضمون في الفكر الاسلامي، بل نستطيع الجزم بان هذه الثنائية غير قائمة اصلاً.. ففيه يكتسب الشكل في التكوين الفني قيمته المتعالية والمتناهية من تعالي وسمو المضامين البليغة والخالدة التي اتجه الحرف العربي ، ولا يزال الى التجويد الفني السامي في التعبير البصري عنها عبر أداء خط الآيات القرآنية الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة واقوال الائمة الاطهار والحكم والأمثال الخالدة والمقولات السديدة وروائع الاعمال الأدبية... أي ان المسلم في تمتعه بالنظر الى هذه الآيات والأقوال وقراءتها يرى فيها جمالاً اضافياً هو جمال المضمون خصوصاً ان كانت تلامس الطبائع التفكيرية الدينية لديه، حيث يشعر بسرور داخلي من خلال النظر الى هذه القطع الفنية بطريقة اعمق، وهو لا يفصل في داخله ابداً جمالية الشكل الفني عن جمالية المضمون الروحي لما يشاهده من ابداع.
وهذا ما نلمسه جلياً في الحروف العربية المنقوشة على المساجد والمراقد المقدسة اضافة الى الرقع الخطية والمخطوطات الورقية المختلفة، اذ اصبح لها وظيفة رمزية تؤكد قوة الاسلام وروحانيته، وتلك الوظيفة الرمزية ما هي الا الجانب الاجتماعي للفن العربي الاسلامي الاصيل مؤكداً قدرته على اضفاء المسحة الفنية الى جانب العطاء الروحي، الذي يقدمه الاسلام لراحة النفوس والدعوة الى الروحانية الخالصة والطهر العفيف.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق