الرسوم الايقونية والمنمنمات هي أوعية حقيقية للعقيدة الروحية.. وهي تتصف برمزيتها وسعة دلالاتها التي يبثُّ منها علم الباطن .. فهي ذلك النتاج التصويري الفني الصغير الابعاد المتميز بدقة رسومه والوانه وهي تلك الوثائق الكتابية المزينة بالصور او الخطوط والهوامش المنقوشة والمزخرفة والمذهبة، التي لطالما حققت كمالا رفيعا بين الفنون الاخرى في اوروبا والشرقين الاوسط والادنى بشكل عام.
لقد استخدمت هذه الفنون للتعبير عن اعمال التصوير وخاصة الصور الشخصي الصغيرة التي كانت ترسم وتلون على الخشب والعاج والعظام والجلود والورق المقوى والمعدن وبعض قطع الاثاث المنزلي والعديد من الصناعات المزخرفة والمطلية.. وهناك اعمال مرسومة على جلد الغزال ومودعة بمكتبات ومتاحف عالمية مثل مكتبة الفاتيكان وتلك الموجودة في متحف سان ماركو بفلورنسا والمتحف البريطاني والمتمثل فيها جمال كتب الخدمة الكنائسية، ويحضر ورق جلد الغزال عادة عن طريق دهان سطحه بطبقة رقيقة من اللون المركب من الزنك الابيض وغراء السمك السائل المشبع بالماء، اما العاج فهو انسب الاسطح لرسم المنمنمات .
هناك انواع عديدة من السطوح الاخرى التي يمكن الرسم عليها وهي الالواح المدهونة بالزيت والناعمة والمزال عنها الدهنيات وكذلك الاوراق دقيقة الحبيبات والمضغوطة ضغطا جيدا على ان تكون ناصعة البياض فضلاً عن الزجاج.. ويتم تحضير الالوان من اذابة الالوان المسحوقة مع المحلول المتكون من الصمغ والسكر المذاب في الماء ويميل البعض الى استعمال الالوان المائية والالوان الزيتية اما الفرش فلها اهمية كبيرة بالنسبة لدقة الرسم المطلوب حيث يتميز بالنقط المتناهية الدقة والخطوط القصيرة التي تعمل بطرف الفرشاة، اما تقنية التذهيب فهي شائعة الاستخدام خاصة في اللوحات التي تمثل أحداثا دينية او بعض الشخصيات المقدسة مسيحية ( ايقونات) كانت ام اسلامية (منمنمات) .
الرسوم الايقونية هي تجسيد للأشكال المقدسة وتأتي قداستها من خلال طبيعة موضوعها التي تعرضه، وطبيعة التفاعل الحاصل ما بين رسام الايقونة (الذي ينكر ذاته) وبين الله (المطلق)، والايقونة هي كلمة اغريقية مأخوذة عن الكنيسة الارثوذكسية، اطلقت على الصور الدينية التي ترسم على لوح خشبي.. وهي تصور الجوهر الروحي الداخلي والقداسة المتسامية للشخوص والمفردات المصورة، وهي صورة مقدسة تحمل البشائر الجمالية لحضور المقدس في وسطن.. وقد عرفت في بادئ الامر في الفن القبطي حيث رسمت على الواح خشبية صغيرة تضج بالموضوعات الدينية والمناظر الطبيعية والمضامين الميثيولوجية والصور الشخصية وهي المجال الارحب للفنانين .
اما فنون المنمنمات التي ظهرت في العصور الاسلامية فقد تميزت بمهارة الفنان من خلال تنفيذ الخطوط بدقة ومهارة عاليتين، حيث سمك الخط المرسوم لا يزيد احيانا سمك شعرة الانسان الناعمة ، ويخطط المزوق الاسلامي المنمنمات عادة بالحبر الاحمر ثم يؤكد هذا التخطيط باللون الاسود، وقد يخطط باللون الاحمر ثم يلون الرسم بمساحات لونية مختلفة.. وهناك من يستخدم اللون الذهبي ثم يخطط فوق الالوان باللون الاسود او الابيض اذا كانت القاعدة سوداء مثل الاشكال المنمنمة في كتاب كليلة ودمنه في لوحة (مجلس ملك الغربان) وقد استعمل المزوق ايضاً المسطرة لتسطير الخطوط و الفرجال لرسم الاقواس والدوائر ليتمكن من حبكة العمل واخراجه بهندسة دقيقة، كما انه ليس هناك رسم في الحبر وانما تخطيط في الحبر وقد اعتمد على التضاد في الالوان بغية خلق الوحدة اللونية للعمل.
كانت الالوان تحضر بان تسحق المعادن الى ان تصّير ترابا ناعما ويتم ذلك عادة بواسطة حجر صنع خصيصا لهذا الغرض، كما كانت تسحق احيانا في وعاد خاص ثم تصفى بواسطة قماش ثم تخلط بسائل يستعين به المصور في تكوين الاصباغ بإضافة المعادن اليه .
اما فرشاة الرسم فقد فكانت تصنع من شعر الحيوانات، وكانت تعد بشكل خاص بحيث ينتهي طرفها بشعره واحدة ليتمكن من تلوين الخطوط الرفيعة.. اما الورق فكان مختلف الانواع ايضاً فمنه المرقط بالذهب والرخامي او السنجابي اللون وكان يصقل بعناية لئلا يمتص الالوان ويصبح لامعاً.
يتم تنسيق المكان في الصور الايقونية او المنمنمات اغلب الاحيان بشكل مسطح او لا منظوري وغالبا ما يعبر عن المكان بسطح ورقة الرسم حيث سطح الورقة هو البعد الثالث للوحة وتميل بها الشخصيات الى الشبحية الدقيقة المرسومة والملونة بالتبقيع ويظهر هذا التبقيع خاصة في تلوين ملابس الشخصيات وتغليب اللون الذهبي فيها لتبرز عن السطح.
ويتميز التصوير في هذين الفنين بخصائص محددة تشمل الجوانب التقنية والاسلوبية والوظيفية التي يطمح اليها وينطلق هذا كله من فلسفة تتناول الانسان والكون والدين في اطار عرفاني.. ولكن هناك ما يميز التصوير الاسلامي عن غيره في ارتباط فلسفته بين العالم المادي وبين العالم الروحي ربطا محكما ينزع الى الكمال ويجعل من اعمال الفن نمطا فريدا في مزاياه بقربه من ان يكون نوعا من ممارسة طقس ديني فيه الاقتراب من الخالق بشكل او بآخر- عكس الايقونات التي انجز كثير منها لخدمة المصالح الشخصية -، ..فقد ارتبطت المنمنمات بتطور المخطوطات التي تناولت شتى المعارف العلمية منها والادبية .
لقد اشتقت المنمنمات موضوعاتها في كثير من الاحيان من الدين، مما اكسبها طابعا عالميا يتجاوز الحدود القومية ولا يقف عند الحدود الجغرافية، واستنادا الى هذه الظاهرة تبرز صعوبة فك الارتباطات بين المدارس المختلفة وتأثيرها في فنون كل دولة من الدول التي دخلت في تكوين الخلافة الاسلامية، حيث تلتقي في تصوير المنمنمات الاسلامية تأثيرات عدة عربية وفارسية وصينية ومغولية وسلجوقية وعثمانية كما تظهر بعض التأثيرات البيزنطية في فترات محددة وخاصة حول القوس المتوسطي.. وتتمثل اهم مدارس تصوير المنمنمات بالمدرسة المغولية والتيمورية ثم الصفوية والمملوكية والمدرسة التركية والهندية ثم المدرسة المعاصرة، وقد تميزت كل هذه المدارس بميزات خاصة ويشكل نشاطها مجتمعة السيرة الرئيسة لتطور فن المنمنمات ورهافة الوانه وموضوعاته في العالم الاسلامي .
*الميثولوجيا .. علم الاساطير وهي فرع من العلوم التي تتهتم بجمع ودراسة وتفسير الأساطير.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق