ابتعد الفنان العربي المسلم في تصويره للأشكال والاشياء عن الجمال الطبيعي .. اذ كان يصور الأشياء كما يراها هو وليس كما هي.. منطلقاً بذلك نحو ادراك الجوهر بعيداً عن المعارف المادية في هذا العالم، فالفن الاسلامي هو فن روحي نظر إلى الانسان والطبيعة نظرة دينية لا تحدها رؤية ضيقة.. والمسلم بفنه قادر على الانشاء في كل مرافق الحياة التعبيرية المؤثرة التي تترك عند المشاهد متعة بصرية توصله إلى جمالية روحية استثنائية فيها تجسيدات عملية للفكر الاسلامي . لم يفرق فكر الفنان المسلم في اعماله بين ما هو حياتي وما هو فكري مطلق.. فكلاهما وجه لطبيعة فنية واحدة تحمل جدلية العلاقة بين الظاهر والباطن، وهذا هو الفكر التوحيدي للجمال تحديداً، والذي جعل للجماليات الاسلامية صورة توحيدية تعبر عن فكرة الجماعة واهدافها، كما هو الحال في المخطوطات والزخارف والرقوش الاسلامية الخلابة التي تغطي جدران وزوايا اغلب العمائر الاسلامية والتي لم تكن مجرد تزيين بل تمثيل للملكوت الالهي، فهي آية فنية ودينية في نفس الوقت وطالما ما لوحظ فيها التعبير عن العبادة بقدر ما فيها من تعبير عن الابداع الفني . ونلمس تلك التأثيرات الروحية في العقيدة الاسلامية على الخط العربي والزخرفة بشكل مميز عن غيرهما من الفنون، حيث تُعد اللغة العربية هي الوعاء الواقي للشريعة التي سنها الإسلام، مما تحتم على الدولة الاسلامية الفتية ان تهتم بها اهتماماً كبيراً وذلك من خلال نقلها من مستوى المشافهة الى مستوى الكتابة.. ومن هنا أكد الفنان المسلم على أهمية الحضور الجمالي للكلمة المقدسة وعلى القيمة الجمالية المطلقة للأشكال الهندسية وبشكل خاص للخط العربي الذي يعد من أكثر هذه الأشكال قداسةً لارتباطه المباشر بدلالتها اللغوية. ابدع الفنان العربي المسلم في مجال الخط وتفنن به.. والدافع الاول لذلك هو حافز الإيمان الذي أضفى القدسية على الخط الذي كتب به القرآن الكريم، إضافة الى ما عُرف من كراهية أو تحريم لتصوير الاشكال و اضطلاع العرب بالعلوم الرياضية والهندسية وشروعهم بتطويرها . ان اقتران الخط العربي بلغة القرآن الكريم منحه الفرصة الكافية للنمو والتوالد.. من حيث ان كلام الله سبحانه وتعالى لم يكن مقيداً وكان محفزاً للتفكير العلمي والفلسفي الإسلامي، اضافةً الى مضامينه المجردة من القيم والمقاييس المادية، لا سيما وانها القوة المحفزة لمظاهر الجمال الباطن والظاهر، وكان بحق اختباراً لحكمة الفنان العربي وحدسه ومهارته من أجل اتقان اعماله الابداعية في ميدان الخط العربي والزخرفة واظهار الجمال الإلهي ممثلاً بالأشكال والحروف والكلمات التي تجسد صورته، ونستطيع الجزم ان النص القرآني اعطى فرصة في الرقي لفعل التجريد عند المسلم، حيث كان الصيغة المناسبة لتقديم صورة الحقيقة الجوهرية المتكاملة والمستقلة (كلام الله المُنزل)، وهذه الصيغة غير قابلة للتأويل والتجزئة ومعبرة عن الجمال الوجداني الذي يتجلى للنفوس المتطهرة، وبذلك كان على الفنان ان يكيف وينزه وسائله التصويرية المتمثلة بالحروف والكلمات ويحولها من حالتها السكونية الى الحركية واعدادها لتقبل الجمال الإلهي الذي يملأ الوجود. لقد ظهر الخط العربي ليضفي بعداً جديداً ومساحة تشكيلية ألهمت الفنان صوراً جديدة للتعبير عن ابداعاته حتى أصبح ميزة اسلامية أخرى مع الزخرفة، وانعكس هذا ايضاً في الرقش العربي وتطورت الزخارف مع الخط الى المستوى الذي بدأت تأخذ الشكل الإنشائي وتنسجم مع ايقاعات العمائر الاسلامية التي نراها تتجلى بوضوح في المشاهد المقدسة والمساجد والجوامع. سعى الفنان المسلم الى اكتشاف القيمة الجمالية للكلمة العربية، خاصةً بعد أن اصبحت الكلمة الإلهية في القرآن الكريم هي جوهر عقيدته ومصدر وحيه.. فاستشف الشحنة التعبيرية والرمزية الكبيرة التي يحتويها فن الخط العربي، فكان هذا الفن كباقي الفنون الإسلامية يسير على نفس النمط ويكون خاضع لنفس الهدف الذي دأب الوجدان الإسلامي على ابرازه وتصويره، وقد طوّع الفنان المسلم الحروف لتصبح قادرة على اشباع حسه الفني .. واستخدم الخط العربي كلوحة فنية متكاملة تتحقق فيها الانسيابية والحركة المتفرقة، سواء كان ذلك بتفجير الالوان او بتحريك الخطوط . ولا يمكن التغاضي عن الاسس الحسابية والهندسية للخط العربي التي تكمن خلفها قيماً فلسفية ذات ابعاد تعبيرية ودينية، فالزخارف في الخط العربي كانت بديلة عن الألوان التي استُخدمت رمزياً بالألوان الهادئة - الوان السماء والماء والوان شفافة اخرى معبرة عن الهواء – والتي تعطي احساساً باللانهائية، وقد استخدم الفنان الكتابة العربية بقوالبها الزخرفية وأحلها محل الصورة التي عكست نوعاً من التعبير له خصائصه التي تتيح اظهار قيماً جمالية ترتبط بالقيم الروحية والعقائدية ان الفنان المسلم في طروحاته الفنية كان يسعى جاهداً إلى اقامة وشائج روحية مع الفكر الاسلامي.. وكان ينشد ان تكون قيمه الجمالية متساوقة مع قيم دينه ومعتقداته .. وهو انما كان يريد ان يبقى مع محيطه الديني وغير بعيد عنه ، لذلك كانت وما زالت ظلال العقيدة تخيم على فكره ووجدانه .. وترتسم تأثيراتها على موضوعاته الفنية ودلالاتها المندرجة ضمن المفهوم الاسلامي للوجود وقيمه الجمالية في التناسق العام والتوازن بين الأجزاء او بين الصورة ومعانيها مما يضفي جمالا محاكياً للوجدان في التكوين الفني الاسلامي وهو الهدف المنشود . سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق