المؤمن الصادق في اعتقاده يبادر الى التوبة ويعجِّل بتدارك الحقوق التي عليه
النص الكامل للخطبة الاولى
اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي يجيب المضطر اذا دعاه، ويكشف السوء عمن تضرَّع اليه فناداه، فيحقق الامل لمن انقطع اليه فرجاه، راحم العبرة ومقيل العثرة وله العزة والقدرة، واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، واشهد ان محمدا عبده ورسوله الذي اوجب له الطاعة وارتضاه للشفاعة، وحباه بالكرامة، وآله سادات المتقين الذين اصطفاهم على العالمين.
اوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك اوصي نفسي بتقوى الله تعالى والاستماع الى مواعظه، فإنها اوضحت الطريق لكل ذي بصر وافهمت كل ذي قلب واقامت الحجة على كل ذي شك وهي مناهج تلقى للاتباع وليست احاديث تتلى للاستماع، فالفائز من اصغى إليها بسمعه وعَقَلها بلبه ثم اتخذها منهاجا لعمله يسير على رشدها ويتبع ما امرت به، ويقف عما حذرت منه، جعلنا الله واياكم من الفائزين بها المتبعين لمنهاجها وطوبى لمن حضر فاستمع وعقل فانتفع واعتبر فاتبع.
ايها الاخوة والاخوات ما زلنا في المواعظ التي فصَّلها الامام امير المؤمنين (عليه السلام) والتي بيَّن من خلالها اصول الرذائل الاخلاقية التي هي منشأ لأمراض القلوب، فنبَّه عليها وبيَّن انواعها؛ رشداً للجاهل بها، وتنبيهاً للغافل عنها، وتنشيطا للمتكاسل عنها، وقد ذكرنا بعضا من اصول هذه الرذائل ونذكر بعضا اخر.
يبين الامام (عليه السلام) حالة يعيشها الكثير من الناس وهي ازدواجية الشخصية والتناقض بين الاقوال والافعال والاعمال والتناقض بين المشاعر والعواطف والتصرفات التي تصدر عن الانسان احيانا، وسنذكر مصاديق هذه الحالة في الشخصية والتناقض للانتباه عليها، وقد نجهل بعض منها، فيعلمنا الامام ويعرفنا بهذه الحالة التي تؤدي الى الكثير من امراض القلوب وتؤدي الى الحساب والعقاب.
يشير امير المؤمنين (عليه السلام) بذكر بعض منها بقوله (يَنْهَى، وَلَا يَنْتَهِي، وَيَأْمُرُ بِما لَا يأْتِي، يُحِبُّ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ، وَ يُبْغِضُ الْمُذْنِبِينَ وَهُو أَحَدُهُمْ،
يَكْرَهُ الْمَوْتَ؛ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، وَ يُقِيمُ عَلَى مَا يَكْرَهُ الْمَوْتَ مِنْ أَجْلِهِ، إِنْ سَقِمَ، ظَلَّ نَادِماً، وَإِنْ صَحَّ أَمِنَ لَاهِياً، يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ، إِذَا عُوفِيَ، وَ يَقْنَطُ إِذَا ابْتُلِيَ، إِنْ أَصَابَهُ بَلَاءٌ، دَعَا مُضْطَرّاً، وَإِنْ نَالَهُ رَخَاءٌ أَعْرَضَ مُغْتَرّاً، تَغْلِبُهُ نَفْسُهُ عَلَى مَا يَظُنُّ، وَلَا يَغْلِبُهَا عَلَى مَا يَسْتَيْقِنُ، يَخَافُ عَلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مِنْ ذَنْبِهِ، وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ).
من مصاديق حالة الازدواجية في الشخصية ان الانسان ينهى الاخرين عن الذنوب والمعاصي وقبائح الاعمال ويأمرهم بالأعمال الصالحة والطاعات، ولكنه في نفس الوقت لا ينتهي عن هذه المعاصي وقبائح الاعمال، وفي نفس الوقت ما ينهى عنه لا يأتي به، فحينما يأمر الانسان الاخرين بمثل هذه الاعمال والافعال باعتبار ما فيها من مصالح ومنافع وبركات للآخرين، لكنه في نفس الوقت ينسى نفسه، فاذا كان يأمر الآخرين بهذه الاعمال بما فيها من مصالح ومنافع تعود لشخص المأمور ولمجتمعه فلماذا ينسى نفسه ويتركها لا تحصل على المنافع والمصالح والبركات.
وكما هو الحال عندما ينهى الاخرين عن القبائح انما نهيه لما فيها من مفاسد ومضار واثار سيئة على شخص المنهي، وعلى المجتمع لماذا ينسى نفسه، فهو هنا يعيش هذه الحالة من التناقض والازدواجية التي يعيشها الانسان، وقد ورد توبيخ في آية قرآنية كريمة لمثل هؤلاء الاشخاص بقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)، الانسان الذي يأمر بالبر والخير لماذا يأمر به؟ لان فيه مصلحة ومنفعة للفرد والمجتمع، لكن هو في نفس الوقت لا يأتي بالبر وعمل الخير مع انه فيه مصلحة ومنفعة فينسى نفسه ولا يعرضها الى هذه المصلحة، فهو لا يأتي بما يأمر به وفي نفس الوقت لا ينتهي عما ينهى عنه (يحب الصالحين ولا يعمل عملهم ويبغض المذنبين وهو احدهم) الانسان الصالح يحبه الاخرون وكذلك الانسان الذي يعيش حالة تناقض يحب الصالحين والرجال الصالحين ليس لأشخاصهم، بل لأن العمل الصالح الذي يأتي به هذا الرجل الصالح فيه منفعة ومصلحة للفرد والمجتمع.
وفي نفس الوقت المذنب انما يبغضه هذا الانسان لأن عمله مبغوض لا يبغضه لنفسه، وانما يبغضه لان العمل الذي يأتي به قبيح مستنكر وفيه مضار ومفاسد للفرد والمجتمع، لكن كما نرى الكثير ينهى الاخرين عن الغيبة والنميمة والكذب ولكن في نفس الوقت يأتي بهذه الاعمال القبيحة، وكذلك الصالحون يحبهم لأعمالهم الصالحة فحينئذ يكون هو اولى بان يأتي بهذه الاعمال الصالحة واولى بان ينتهي عن هذه الاعمال المنكرة.
يبين الامام عليه السلام حالة الازدواجية والتناقض في الشخصية، تكون بين الدعوة والاقوال والافعال، فأحيانا التناقض بين المشاعر والتصرفات والافعال، فهو لديه حب للصالحين وهذا الشعور يجب ان يترجمه الى الاتيان بالأعمال الصالحة، لديه بغض للمذنبين، لكن لا يحول هذا البغض الى فعل ينتهي من خلاله عن هذه الذنوب، وكذلك (يكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على ما يكره الموت من أجله) فالانسان الذي لديه ذنوب ومعاصي لا يتمنى حلول الموت والاجل به؛ لأنه بالموت سيواجه هذه الذنوب وتبعاتها وآثارها وسيواجه الحساب والعقاب بسبب كثرة ذنوبه ومعاصيه، لذلك هو لا يتمنى الموت.
يفترض به اذا كان خوفه من حلول الموت به لكثرة ذنوبه ان يترك المعاصي والذنوب ولا يداوم عليها ويبادر الى التوبة واصلاح الامور واصلاح ما حل به من تقصير وذنوب، فإن الانسان الذي يرتكب المعصية ينبغي له ان يعلم انه قد يترتب على المعصية حق للآخر وقد يترتب حق إلهي من قضاء عبادات وطاعات، فيفترض اذا كان يخشى من كثرة الذنوب ومن كثرة المعاصي ان يبادر الى التوبة واصلاح الحال، لكنه على العكس يكون مواظبا ومقيما على المعاصي، لذلك يقول الامام (عليه السلام) (يَكْرَهُ الْمَوْتَ؛ لِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ).
وقد بين القرآن الكريم هذه الحالة لبعض اليهود كما في الآية القرآنية الكريمة (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) بما اكتسبوا من الذنوب والآثام لا يتمنون حلول الموت بهم، فالحالة الإيجابية ان الانسان يخشى من دنو الاجل وهو لم يتدارك المعاصي والذنوب بالتوبة، ولكن يفترض بالمؤمن غير الغافل الصادق في اعتقاده ان يبادر الى التوبة ويعجِّل بتدارك الحقوق.
ومن حالات التناقض في هذه الشخصية (إِنْ سَقِمَ، ظَلَّ نَادِماً ، وَ إِنْ صَحَّ أَمِنَ لَاهِياً) إن الله تعالى حينما يرى الانسان احيانا يرتكب الذنوب والمعاصي او هو غافل عن الاخرة، ينبهه الله تعالى ببعض الاساليب، لكي يلتفت ويتوجه الى اخرته ويتوجه الى الاعمال الصالحة ويترك المعاصي والذنوب والآثام، فأحيانا يغتر الانسان بالدنيا أو بصحته أو بشبابه أو بعافيته أو بسلطته، فينغمس في الدنيا ويشتغل بها وفي نفس الوقت يرتكب ذنوبا ومعاصي، ان لم تنفع معه هذه الاساليب فالله تعالى يبتليه اما بضائقة مالية أو بمرض أو بمشكلة من اجل ان ينتبه ويلتفت الى ان هذه الذنوب والمعاصي والغفلة عن الاخرة والاشتغال في الدنيا ادت به الى هذه النتيجة.
الغرض هو التنبيه والندم على صدور الذنوب والمعاصي، فإننا إذا تعرضنا الى مرض أو ضائقة مالية أو كرب أو هم نتوجه الى الله تعالى ونندم على ما صدر منا ونقول في انفسنا هذه ذنوبنا ومعاصينا ادت بنا الى هذا الابتلاء وإذا فرج الله تعالى عنا عدنا الى اللهو والاشتغال في الدنيا.
من المفترض بالإنسان ان كان عاقلا مؤمنا أن لا يأمن من عودة المرض والشدة والابتلاء اليه مرة اخرى، ومن المفترض به حينما يتعرض الى حالة المرض والابتلاء، ويندم على ما صدر منه ان يستمر ندمه ويعالج هذه الذنوب والمعاصي بالتوبة، ولا يعود إلى إتيانها اذا عافاه الله تعالى من الحالة التي كان يعاني منها، لذلك يقول (عليه السلام) (إِنْ سَقِمَ، ظَلَّ نَادِماً، وَ إِنْ صَحَّ أَمِنَ لَاهِياً يُعْجَبُ بِنَفْسِهِ، إِذَا عُوفِيَ، وَ يَقْنَطُ إِذَا ابْتُلِيَ) هذه ايضا حالة من حالات التناقض.
فعندما يكون الانسان في حال العافية - وحال العافية مقابل الابتلاء- يصيبه الاعتداد بالنفس والعجب والغرور، بينما واقع الحال للإنسان المؤمن ان يعيش حالة الشكر لله تعالى والتواضع، وان يقول: ان هذه الامور هي من عند الله تعالى وليست مني ومن قدراتي ومن ذاتي، ومن الممكن ان الله تعالى - والذي بيده مقاليد الامور وهو الذي يؤثر بها- يمنحها او يسلبها.
وفي نفس الوقت قد يبتلى هذا الانسان المؤمن فيتوجه الى الله بالدعاء ولديه ثقة بان الله سيرفع عنه حالة الابتلاء فلا يعيش حالة اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، إن الانسان المؤمن هو الذي يعيش حالة من التطابق بين الاعتقاد والعمل والتوجه، ولا يعجب بنفسه في حال العافية بل يكون متواضعاً لله تعالى وللناس معتقدا بان هذه العافية من الله تعالى، واذا ابتلاه الله تعالى يتوجه اليه ولديه ثقة بأن الله تعالى سيرفع عنه هذا البلاء.
ثم يقول الامام (عليه السلام): (إِنْ أَصَابَهُ بَلَاءٌ، دَعَا مُضْطَرّاً، وَإِنْ نَالَهُ رَخَاءٌ أَعْرَضَ مُغْتَرّاً) فالبعض من الناس أحيانا اذا اصيب ببلاء من الذي ذكرناه يتوجه الى الله تعالى ويقرأ هذا الدعاء (أم من يجيب المضطر اذا دعاه ...)، في الصباح والمساء وفي كل ساعاته يتوجه الى الله تعالى بخضوع وخشوع واستكانة وتذلل، ولكن اذا عوفي من البلاء نسي الله تعالى وعاد الى غروره وتجده غير متوجه الى الله تعالى، اما الانسان المؤمن الحقيقي في حال البلاء يتوجه الى الله تعالى وفي حال الرخاء ايضا يتوجه الى الله تعالى، ولا يصيبه الغرور بنفسه.
ومن جملة الامور التي اشار اليها الامام (عليه السلام) قوله: (يَخَافُ عَلَى غَيْرِهِ بِأَدْنَى مِنْ ذَنْبِهِ، وَ يَرْجُو لِنَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِهِ)، وهذه حالة شائعة؛ فاننا دائما ننظر الى ذنوب الاخرين فنستعظمها ونضخمها ولكن ذنوبنا نستصغرها، ونعتبر ما يصدر عن الاخرين من المعاصي كبيرة، مع أنها قد تكون صغيرة، وما يصدر منا من ذنوب ومعاصي نعتبرها صغيرة مع انها قد تكون كبيرة، فينبغي للانسان دائما أن ينظر الى ذنوبه فيستعظمها.
و(يرجو لنفسه بأكثر من عمله) أي ينظر الى اعمال الاخرين وطاعاتهم فيعتبرها صغيرة وينظر الى أعماله فيعتبرها كبيرة، كنظر الانسان الى صلاة الاخرين على أنها بسيطة، وان صلاته كبيرة، بينما عند الله تعالى اعمال الاخر قد تكون اعظم من اعماله هذه ايضا حالة من الازدواجية التي يعيشها الانسان.
هذه بعض المصاديق التي أشار إليها الإمام (عليه السلام) والتي تخص ازدواجية الشخصية والتناقض في شخصية الانسان، فتارة بين اقواله وافعاله وتارة بين مشاعره وعواطفه وتصرفاته وافعاله، فسببها اما غفلة او ضعف في الايمان او ربما حالة ومرتبة من النفاق والتناقض، الانسان المؤمن العاقل لا يصح له ان يعيش هذه الحالة من الازدواجية.
نسأل الله تعالى ان نكون ممن سمع هذه المواعظ فعقلها بلبه واتخذها منهاجا لعمله نسأل الله تعالى ان يتقبل منا.
بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4)).
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق