سيرة ثائر (سليمان بن صرد الخزاعي)

فجّرت ثورة الإمام الحسين عليه السلام بركاناً ثورياً عارماً في الأُمة،  فبدأت الثورات تتوالى بعدها كما تتوالى الارتدادات بعد الهزّات الأرضية الشديدة، فكأنّ ثورته عليه السلام كانت صيحة أيقظت الأُمة من سبات طويل، ودفعتها لتتحرك باتجاه التمرّد على النظام الأُموي الجائر [1]

لقد كان للقيم التي حملها الحسين عليه السلام، ورفعها شعاراً، وجسّدها بمواقفه في الطفوف، أثر كبير في ذلك، يوازيها في تأثير المأساة التي حدثت في كربلاء، فهزّت الضمير الإسلامي هزّاً عنيفاً تفجّر عبره ثورات عديدة، كانت منها ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي.

لقد برز اسم سليمان بن صرد الخزاعي بروزاً واضحاً من خلال ثورة التوّابين، غير أنه لم يكن خافياً قبل ذلك، بل نلمحه في كثير من المواقف والمنعطفات التي مرّت بها الكوفة في تاريخها المثير.

هذه المقالة هي محاولة لتسليط الضوء على هذه الشخصية الثورية التي لا تخلو من الجدل في صفوف الدارسين للتاريخ.

 

الهوية الشخصية

قال ابن عبد البر في الاستيعاب: «سليمان بن صرد بن الجون بن أبي الجون بن منقذ ابن ربيعة بن أصرم الخزاعي.. يكنّى أبا مطرف. كان خيّراً فاضلاً له دين وعبادة، كان اسمه في الجاهلية يساراً، فسمّاه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سليمان، سكن الكوفة، وابتنى داراً في خزاعة، وكان نزوله بها في أول ما نزلها المسلمون، وكان له سن عالية وشرف وقدر وكلمة في قومه. شهد مع علي صفين، وهو الذي قتل حوشباً ذا ظليم الألهاني بصفين مبارزة.

وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي يسأله القدوم إلى الكوفة، فلمّا قدمها ترك القتال معه، فلمّا قُتل الحسين ندم هو والمسيب بن نجبة الفزاري وجميع مَن خذله؛ إذ لم يقاتلوا معه، ثم قالوا: ما لنا من توبة مما فعلنا إلّا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه. فخرجوا فعسكروا بالنخيلة، وذلك مستهلّ ربيع الآخر سنة خمس وستين، وولّوا أمرهم سليمان بن صرد، وسمّوه: أمير التوابين، ثم ساروا إلى عبيد الله بن زياد، فلقوا مقدمته في أربعة آلاف عليها شرحبيل بن ذي الكلاع، فاقتتلوا، فقُتل سليمان بن صرد والمسيب بن نجبة بموضع يقال له: عين الوردة.

وقيل: إنهم خرجوا إلى الشام في الطلب بدم الحسين، فسمّوا التوابين، وكانوا أربعة آلاف، فقُتل سليمان بن صرد، رماه يزيد بن الحصين بن نمير بسهم فقتله، وحمل رأسه ورأس المسيب بن نجبة إلى مروان بن الحكم أدهم بن محيريز الباهلي، وكان سليمان يوم قُتل ابن ثلاث وتسعين سنة»[2].

 

صحبته

المعروف بين المؤرخين وأصحاب التراجم أنه من الصحابة، وقد نصّ غير واحد على صحبته، غير أن السيد الخوئي رحمه الله ذهب إلى أنه من التابعين، قائلاً: «ثم إن ما ذكره الشيخ من كون سليمان بن صرد من أصحاب رسول الله سلام الله عليها، فلعله مأخوذ من كتب العامة، وإلّا فقد صرّح الفضل بن شاذان بأنه من التابعين»[3].

غير أنه لا يمكن الجزم باستفادة ذلك من كلام الفضل بن شاذان، فعبارته هي: «فمن التابعين الكبار ورؤسائهم وزهادهم جندب بن زهير قاتل الساحر، وعبد الله بن بديل، وحجر بن عدي، وسليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، وعلقمة، والأشتر، وسعد ابن قيس، وأشباههم، أفناهم الحرب ثم كثروا بعد، حتى قُتلوا مع الحسين عليه السلام وبعده»[4].

فيمكن أن لا يريد من التابعين المصطلح المعروف في ترتيب الطبقات، وإنما مَن تابع علياً عليه السلام وشايعه، كيف وعبد الله بن بديل المذكور في العبارة السابقة من الصحابة المتفق على صحبتهم، وقد أرسله النبي إلى اليمن، وهذا هو ما تبنّاه السيد الخوئي في موضع آخر في ترجمته لعبد الله بن بديل، فقال: «الظاهر أن الفضل أراد بقوله: ومن التابعين.. مَن تابع علياً وشايعه، والقرينة على ذلك قوله: أفناهم الحرب حتى قُتلوا مع الحسين عليه السلام وبعده، وإلّا فهو من الصحابة كما ذكره الشيخ قدس سره»[5].

لم يذكر المؤرخون سنة إسلامه، ولكن يظهر من بعض الأخبار أنه كان حاضراً في معركة الأحزاب، وقد روى أنّ رسول الله صلى الله عليه واله قال يوم الأحزاب: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا»[6]، وكانت غزوة الأحزاب في السنة الخامسة للهجرة، ممّا يدلّ على أنه كان قد أسلم قبلها.

تشيّعه

نصّ غير واحد من المؤرخين وأصحاب التراجم على تشيّعه، قال الذهبي: «من شيعة علي، ومن كبار أصحابه»[7].

وقد وصفه رفاعة بن شدّاد بأنه «شيخ الشيعة، وصاحب رسول الله صلى الله عليه واله»[8].

وقد ورد في الكتاب الذي كتبه الشيعة إلى الإمام الحسين عليه السلام وكتب بأمر سليمان: «من سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، وحبيب بن مظاهر، ورفاعة بن شدّاد، وعبد الله بن وال، وجماعة شيعته من المؤمنين»[9].

وقال الشيخ المفيد رحمه الله: «ومَن يلحق منهم بالذكر من أوليائهم وعلية شيعتهم وأهل الفضل في الدين والإيمان والعلم والفقه والقرآن، المنقطعين إلى الله تعالى بالعبادة والجهاد والتمسّك بحقائق الإيمان: محمد بن أبي بكر ربيب أمير المؤمنين عليه السلام وحبيبه، ومحمد بن أبي حذيفة... وسليمان بن صرد الخزاعي»[10].

وقال السيد شرف الدين رحمه الله في المراجعات: «سليمان بن صرد الخزاعي الكوفي، كبير شيعة العراق في أيامه، وصاحب رأيهم ومشورتهم»[11].

وقال السيد الخوئي رحمه الله: «أقول: لا ينبغي الإشكال في جلالة سليمان بن صرد وعظمته؛  لشهادة الفضل بن شاذان بذلك»[12].

 

بيعته لأمير المؤمنين عليه السلام

ينقل الشيخ المفيد رحمه الله أن سليمان بن صرد الخزاعي كان في المدينة بعد مقتل عثمان ابن عفان وبيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وبايع أمير المؤمنين عليه السلام في جملة المبايعين، فذكر رحمه الله جملة من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، وذكر فيهم سليمان بن صرد، وقال بعد ذكر أسمائهم: «وأطبقوا على الرضا بأمير المؤمنين عليه السلام، فبايعوه على حرب مَن حارب، وسلم مَن سالم، وأن لا يولوا في نصرته الأدبار»[13].

 

موقفه في حرب الجمل

ذكر نصر بن مزاحم في كتابه (وقعة صفين) أن سليمان بن صرد الخزاعي كان من المتخلفين عن جبهة أمير المؤمنين عليه السلام في حرب الجمل، وأنه لما رجع عليه السلام من البصرة جاء إليه سليمان معتذراً، فأنّبه عليه السلام على تخلّفه، قال: «عن سيف، قال: حدثني إسماعيل ابن أبي عميرة، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود، أن سليمان بن صرد الخزاعي دخل على علي بن أبي طالب  بعد رجعته من البصرة،  فعاتبه وعذله،  وقال له: ارتبت وتربّصت وراوغت،  وقد كنت من أوثق الناس في نفسي،  وأسرعهم فيما أظن إلى نصرتي،  فما قعد بك عن أهل بيت نبيك؟ وما زهّدك في نصرتهم؟

فقال: يا أمير المؤمنين،  لا تردّنّ الأُمور على أعقابها،  ولا تؤنّبني بما مضى منها،  واستبق مودّتي تخلص لك نصيحتي،  فقد بقيت أُمور تعرف فيها عدوك من وليك، فسكت عنه.

وجلس سليمان قليلاً،  ثم نهض، فخرج إلى الحسن بن علي وهو قاعد في باب المسجد،  فقال: ألا أعجبك من أمير المؤمنين وما لقيت منه من التوبيخ والتبكيت؟ فقال له الحسن: إنما يعاتب من تُرجى مودّته ونصيحته. فقال: إنه قد بقيت أُمور سيستوسق فيها القنا،  وتُنتضى فيها السيوف،  ويُحتاج فيها إلى أشباهي،  فلا تستغشوا عتبي،  ولا تتهموا نصحي، فقال الحسن: رحمك الله،  ما أنت عندنا بضنين»[14].

غير أن السيد الخوئي رحمه الله يشكك في رواية نصر هذه التي تضمنت توبيخ أمير المؤمنين عليه السلام له، ويقول: «فإن ما روي عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم عن أبي عبد الله سيف بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرة عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود،  من عتاب أمير المؤمنين عليه السلام،  وعذله سليمان بن صرد في قعوده عن نصرته بعد رجوعه عليه السلام من حرب الجمل لا يمكن تصديقه؛ لأن عدة من رواته لم تثبت وثاقتهم،  على أنه لم يثبت كون هذا الكتاب عن نصر بن مزاحم بطريق معتبر،  فلعلّ القصة مكذوبة عليه، كما احتمله الشيخ قدس سره»[15].

بالإضافة إلى أنه يرويه عن سيف، وسيف بن عمر من الوضّاعين المعروفين، وموقفه سلبي وواضح تجاه شيعة أهل البيت عليهم السلام.

غير أنه رغم عدم تصديقه لرواية نصر وما ورد فيها من توبيخ لسليمان قد حكم رحمه الله بأنّ تخلفه عن حرب الجمل ثابت، معتذراً له ببعض الأعذار، يقول: «وأمّا تخلّفه عن أمير المؤمنين عليه السلام في وقعة الجمل فهو ثابت،  ولعل ذلك كان لعذر أو بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام»[16].

ولعل مستنده في ذلك هو قول الشيخ الطوسي رحمه الله، إذ قال: « سليمان بن صرد الخزاعي المتخلّف عنه يوم الجمل، المروي عن الحسن أو المروي على لسانه كذباً في عذره في التخلف»[17].

وقول الشيخ الطوسي رحمه الله :«المروي عن الحسن، أو المروي على لسانه كذباً» ربما إشارة إلى ما رواه نصر بن مزاحم في النص المتقدّم، وربما إشارة إلى ما رواه الزمخشري في غريب الحديث عن سليمان بن صرد: «أتيت علياً حين فرغ من مرحى الجمل، فلمّا رآني قال: تزحزحت وتربّصت وتنأنأت، فكيف رأيت الله صنع؟! فقلت: يا أمير المؤمنين إن الشأو بطين، وقد بقي من الأُمور ما تعرف به صديقك من عدوك. فلمّا قام قلت للحسن: ما أغنيت عني شيئاً؟ قال: هو يقول لك الآن هذا، وقد قال لي يوم التقى الناس ومشى بعضهم إلى بعض: ما ظنك بامرئ جمع بين هذين الغارين ما أرى بعد هذا خيراً»[18]، أي: إنّه يعاتبك على عدم حضور الحرب، وهو كان نادماً على مواجهة أصحاب الجمل، ويرى أنه لن يرى خيراً بسبب جمعه بين الغارين ( الجيشين) في هذه الحرب.. وهذا لا يصحّ أبداً، وهو مكذوب على لسان الحسن عليه السلام.

غير أن مؤرخين آخرين نصّوا على حضوره حرب الجمل مع أمير المؤمنين عليه السلام، يقول ابن سعد في الطبقات: «وكانت له سن عالية وشرف في قومه، فلمّا قُبض النبي (صلّى الله عليه وسلّم) تحوّل فنزل الكوفة حين نزلها المسلمون، وشهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام الجمل وصفين»[19]، وقال عنه ابن الأثير: «وشهد مع علي بن أبي طالب مشاهده كلّها وهو الذي قتل حوشباً ذا ظليم الألهاني بصفّين مبارزة»[20]، وقال الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الجمل بعد ذكر جملة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين بايعوه، وفي جملتهم سليمان بن صرد الخزاعي: «وحضروا مشاهده كلّها لا يتأخر عنه منهم أحد، حتى مضى الشهيد منهم على نصرته، وبقي المتأخر منهم على حجّته»[21].

في حرب صفين

نصّ أكثر الذين ترجموا له على حضوره معركة صفّين، ويظهر من بعض النصوص أنّه كان أحد قادتها، وكان على ميمنة الرجّالة في جيش أمير المؤمنين عليه السلام، قال نصر: «عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن محمد بن علي وزيد بن حسن ومحمد بن عبد المطلب: أن علياً عليه السلام ومعاوية عقدا الألوية وأمّرا الأُمراء وكتّبا الكتائب، واستعمل علي على الخيل عمار بن ياسر،  وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي،  ودفع اللواء إلى هاشم ابن عتبة بن أبي وقاص الزهري،  وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس،  وعلى الميسرة عبد الله بن العباس،  وجعل على رجّالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي،  وعلى رجالة الميسرة الحارث بن مرّة العبدي»[22].

ويبدو أنه أبلى بلاءً حسناً فيها، وقتل أحد أبرز قادة جيش معاوية، قال نصر: «ثم إنّ حوشباً ذا ظليم،  وهو يومئذٍ سيد أهل اليمن،  أقبل في جمعه وصاحب لوائه يقول:

نحن اليمانون ومنا حوشب                  ذا ظليم أين منّا المهرب

فينا الصفيح والقنا المعلب                  والخيل أمثال الوشيج شزب

إن العراق حبلها مذبذب                    إن علياً فيكم محبب

في قتل عثمان وكل مذنب

 

فحمل عليه سليمان بن صرد الخزاعي وهو يقول:

يا لك يوماً كاسفاً عصبصبا                 يا لك يوماً لا يوارى كوكبا

يا أيها الحي الذي تذبذبا           لسنا نخاف ذا ظليم حوشبا

لأنّ فينا بطلاً مجربا               ابن بديل كالهزبر مغضبا

أمسى علي عندنا محببا           نفديه بالأُم ولا نبقي أبا

فطعنه وقتله»[23].

 

وروى نصر أنه بعد أن كتبت صحيفة التحكيم في صفّين جاء سليمان بن صرد الخزاعي إلى أمير المؤمنين عليه السلام ووجهه مضروب بالسيف، فلمّا نظر إليه علي قال: «فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدّلوا تبديلاً، فأنت ممن ينتظر وممن لم يبدل. فقال: يا أمير المؤمنين، أما لو وجدت أعواناً ما كتبت هذه الصحيفة أبداً، أما والله لقد مشيت في الناس ليعودوا إلى أمرهم الأول، فما وجدت أحداً عنده خير إلّا قليلاً»[24].

ويظهر من بعض المؤرخين أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ولّاه على الجبل[25].

 

موقفه من الإمام الحسن عليه السلام

روى الخصيبي في الهداية في حديث طويل أنّ الإمام الحسن عليه السلام بعد أن استُشهد أمير المؤمنين عليه السلام وبايعه الناس خليفة من بعد أبيه صعد المنبر وخطب بالناس، ثم طلب منهم أن يجيبوه، فلم يجبه منهم إلا عشرون رجلاً، عدّ منهم سليمان بن صرد الخزاعي، قاموا فقالوا: «يا بن رسول الله، ما نملك غير سيوفنا وأنفسنا،  فها نحن بين يديك، لأمرك طائعون،  مرنا بما شئت»[26].

كما روى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة أنّ سليمان بن صرد كان من المعترضين على الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام وبين معاوية، وأنه دعاه لأن يبعثه إلى الكوفة ليخرج عامل معاوية منها، وأن يعيد الكرة عليهم، قال: «وذكروا أنه لما تمّت البيعة لمعاوية بالعراق، وانصرف راجعاً إلى الشام،  أتاه سليمان بن صرد،  وكان غائباً عن الكوفة،  وكان سيّد أهل العراق ورأسهم، فدخل على الحسن،  فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين.  فقال الحسن : وعليك السلام،  اجلس لله أبوك.  قال: فجلس سليمان،  فقال : أما بعد،  فإن تعجّبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق،  وكلّهم يأخذ العطاء مع مثلهم من أبنائهم ومواليهم،  سوى شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز،  ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العهد،  ولا حظّاً من القضية،  فلو كنت إذ فعلت ما فعلت،  وأعطاك ما أعطاك بينك وبينه من العهد والميثاق،  كنت كتبت عليك بذلك كتاباً،  وأشهدت عليه شهوداً من أهل المشرق والمغرب أن هذا الأمر لك من بعده،  كان الأمر علينا أيسر،  ولكنه أعطاك هذا فرضيت به من قوله.

ثم قال : وزعم على رؤوس الناس ما قد سمعت،  إني كنت شرطت لقوم شروطاً،  ووعدتهم عدات،  ومنيتهم أماني،  إرادة إطفاء نار الحرب،  ومداراة لهذه الفتنة،  إذ جمع الله لنا كلمتنا وأُلفتنا،  فإن كل ما هنالك تحت قدمي هاتين،  ووالله ما عنى بذلك إلّا نقض ما بينك وبينه،  فأعدّ للحرب خدعة،  وأذن لي أشخص إلى الكوفة،  فأخرج عامله منها،  وأظهر فيها خلعه،  وأنبذ إليه على سواء، إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين...»[27].

ويظهر من متابعة الأخبار أنّ ابن قتيبة تفرد برواية هذا الخبر، وهو قد عبّر عنه بلفظ (ذكروا)، على أنّ هناك اختلافاً فيمن سلّم على الإمام الحسن عليه السلام بهذه الصيغة، ففي الأخبار الطوال للدينوري أن الذي قال له: ( يا مذل المؤمنين) هو سفيان بن ليلى[28]، وفي الفتوح لابن أعثم أنّه سفيان بن الليل البهمي[29]، وفي البداية والنهاية أنه أبو عامر سعيد بن النتل[30]، وفي دلائل الإمامة للطبري أن الذي قال له ذلك هو حجر بن عدي[31]، غير أنّ المروي عن أهل البيت عليهم السلام هو سفيان بن ليلى[32].

نعم، ذكر السيد المرتضى رحمه الله في التنزيه أنّ سليمان بن صرد الخزاعي وفد على الإمام الحسن عليه السلام مع جملة من الشيعة بعد سنتين من الصلح ودعاه إلى نقضه، قال: «وروى عباس بن هشام، عن أبيه، عن أبي مخنف، عن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيدة، قال: لما بايع الحسن عليه السلام معاوية أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا إليه بعد سنتين من يوم بايع معاوية، فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك لمعاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز...»[33]. وليس فيه أنه القائل: يا مذل المؤمنين.

 

موقفه من ثورة الحسين عليه السلام

كان أهل الكوفة على تواصل دائم مع الإمام الحسين عليه السلام منذ أيام معاوية، وكانوا يفدون عليه، ويكتبون له الكتب يدعونه فيها للثورة، غير أنه كان يأمرهم بالتريّث والانتظار إلى ما بعد معاوية.

ولما بلغهم موت معاوية عقدوا مؤتمراً مهمّاً في دار سليمان بن صرد الخزاعي، ليقرّروا فيه الإجراءات اللازم اتخاذها في تلك اللحظة التاريخية الفاصلة، قال الطبري: «قال أبو مخنف: فحدّثني الحجاج بن علي عن محمد بن بشر الهمداني قال: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، فذكرنا هلاك معاوية، فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صرد: إنّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل، فلا تغرّوا الرجل من نفسه. قالوا: بل نقاتل عدوه، ونقتل أنفسنا دونه. قال: فاكتبوا إليه»[34].

ويظهر من اجتماعهم في بيته لتدارس هذا الأمر الخطير أنّه كان له ثقل كبير في شيعة الكوفة آنذاك، كما يظهر أنه كان بصيراً وواقعياً في طرحه حين قال لهم: إذا لم يكن لكم استعداد لنصرته فلا تغرّوه؛ لأنه خبر الناس وعرف أن العواطف الانفعالية والشعارات الحماسية لا تقدم ولا تؤخر، ما لم يكن هناك التزام واقعي.

وبعد أن تبانوا على نصرته قرّر الشيعة أن يكتبوا للإمام الحسين عليه السلام كتاباً يدعونه فيه إلى القدوم إلى الكوفة، ويبدون فيه استعدادهم لنصرته ومؤازرته على عدوه، وكان اسم سليمان في أول ذلك الكتاب، فجاء فيه: «من سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب ابن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأُمة، فابتزها أمرها، واغتصبها فيأها، وتآمر عليها بغير رضاً منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام، إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته»[35].

هذه هي المرة الأخيرة التي يظهر فيها اسم سليمان بن صرد في التاريخ في تلك الفترة قبل أن يظهر مجدّداً في ثورة التوّابين، وما بين ذلك ظلّ موقف الرجل غامضاً، فلم يسجّل له التاريخ حضوراً في كل الأحداث التي مرّت بها الكوفة في تلك الفترة الحرجة، فلم ينزل مسلم بن عقيل (سلام الله عليه) في بيته مع ما له من مركزية في الكوفة، ولم يسجل له التاريخ أنه التقى بمسلم طوال تلك الفترة، أو تشاور معه، كما غاب اسمه تماماً عن الأحداث التي رافقت ثورة مسلم بن عقيل، وكذلك لم يلتحق بالإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.. فأين كان الرجل؟

تذهب بعض المصادر التاريخية إلى أنّه كان من المتخاذلين عن نصـرة الإمام الحسين عليه السلام، وأنه ندم على ذلك، وقام بثورة التوابين بوصفها نوعاً من تكفير الذنب تجاهه، قال ابن عبد البر: «وكان فيمن كتب إلى الحسين بن علي يسأله القدوم إلى الكوفة، فلما قدمها ترك القتال معه، فلمّا قُتل الحسين ندم هو والمسيّب بن نجبة الفزاري وجميع مَن خذله؛ إذ لم يقاتلوا معه، ثم قالوا: ما لنا من توبة مما فعلنا إلا أن نقتل أنفسنا في الطلب بدمه»[36].

 والعبارة نفسها نجدها مكررة عند ابن الأثير[37]، فيما يضيف ابن سعد في الطبقات أنه كان كثير الشك والتردد والتوقف في المواقف، فقال: «كان فيمن كتب إلى الحسين بن علي أن يقدم الكوفة، فلما قدمها أمسك عنه، ولم يقاتل معه، كان كثير الشك والوقوف، فلمّا قُتل الحسين ندم هو والمسيّب بن نجية الفزاري وجميع مَن خذل الحسين، ولم يقاتل معه»[38].

ولكن الشيخ المامقاني في كتابه تنقيح المقال يردّ على ذلك ويقول: إنه كان محبوساً في سجن عبيد الله بن زياد مع أربعة آلاف من الشيعة «ما قاله ابن الأثير من تخلّفه عن نصرة الحسين عليه السلام من سهوه، ضرورة أن مما اتفقت عليه كتب السير والأخبار أنّ ابن زياد لما اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين عليه السلام حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التوّابين من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان هذا»[39].

غير أنّ قوله: إنّ مما اتفقت عليه كتب السير والأخبار أن ابن زياد حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من شيعة الكوفة، من بينهم سليمان بن صرد، هي مجرد دعوى، فلم نجد مثل هذا الاتفاق بينهم، بل لم نجد ذكراً لذلك في أيّ من المصادر التاريخية المعتبرة سوى ما ذُكر في كتاب (حكاية المختار في الأخذ بالثار) المطبوع في نهاية كتاب (اللهوف) للسيد ابن طاووس رحمه الله، حيث جاء فيه: «فلمّا شاع هلاك يزيد (لع)، وثبوا على دار ابن زياد ونهبوا أمواله وخيله، وقتلوا غلمانه، وكسروا حبسه، وأخرجوا منه أربعة آلاف وخمسمائة رجل من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، منهم سليمان بن صرد الخزاعي، وإبراهيم بن مالك الأشتر، وابن صفوان، ويحيى بن عوف، وصعصعة العبدي»[40]، وهذا مقطع من حكاية طويلة ذات طابع قصصي لا تخلو من الملاحظات.

وذكر الشيخ القرشي نقلاً عن (الدر المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء) ـ وهو كتاب قال عنه: أنه مخطوط، ويظهر من مصادر أُخرى أنه للشيخ أحمد بن الحسن الحر العاملي، وهو أخو صاحب الوسائل ـ أن ابن زياد اعتقل أربعمائة من الأعيان، فيهم سليمان بن صرد، والمختار الثقفي[41]، وقد تفرّد بذلك أيضاً.

أما المحقق التستري فيبدو جازماً في تخلّف سليمان عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام بلا عذر قائلاً: «اتفقت كلمة الخاصة والعامة من تخلّف هذا عن نصرة الحسين عليه السلام بدون عذر»[42]. واستدل ـ بالإضافة إلى بعض النصوص التاريخية ـ بخطبة سليمان التي ذكرها ابن نما، إذ جاء فيها: «أما بعد فقد ابتُلينا بطول العمر والتعرّض للفتن.. وكنّا مغرمين بتزكية أنفسنا ومدح شيعتنا، حتى بلى الله خيارنا فوجدنا كذّابين في نصرة ابن بنت رسول الله سلام الله عليها ولا عذر دون أن نقتل قاتليه،  فعسى ربّنا أن يعفو عنّا»[43].

وكذلك استدل بما قاله سليمان بن صرد وأصحابه عندما زاروا قبر الحسين عليه السلام، إذ روى الطبري عن أبي مخنف عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق، قال: «لما انتهى سليمان ابن صرد وأصحابه إلى قبر الحسين نادوا صيحة واحدة: يا رب، إنّا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا، فاغفر لنا ما مضـى منّا، وتب علينا، إنك أنت التوّاب الرحيم»[44].

وكذلك استدل بخطبة سليمان عند لقاء العدو: «ونادى عباد الله، مَن أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده فإلي، ثم كسر جفن سيفه...»[45].

غير أنّ قوله: إنّ تخلّفه بدون عذر مما اتفقت عليه الخاصة والعامة هو أيضاً مجرد دعوى، وإذا تم هذا بالنسبة إلى العامة فيما ذكروه في كتبهم فلا يتم في الخاصة، فلم نرَ تصـريحاً معتبراً في ذلك من متقدمي الخاصة أو متأخريهم.

وأما ما استُشهد به من كلمات سليمان وخطبه، فيمكن الجواب عنه: إنّ الرجل يمكن أن يكون قد تكلّم بلسان القوم، وحكى حالهم، ووضع نفسه معهم تواضعاً، أو من باب عدم التوفيق لنصرة الحسين عليه السلام، وفوات الشهادة معه ولو لعذر، مع أن بعض هذه الكلمات نُقلت عن غيره، كالكلمة الأُولى حيث رواها الطبري للمسيّب ابن نجبة[46].

ولكن توجد له كلمة أُخرى ذكرها الطبري، وهي: «إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبيّنا، ونمنّيهم النصر، ونحثّهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا وادهنا وتربصنا، وانتظرنا ما يكون، حتى قُتل فينا»[47].

وعلى أيّ حال تبقى هذه الفترة التي عاشها الرجل أيام ثورة الحسين عليه السلام فترة غامضة في تاريخه، ولا يمكن الجزم بعدم عذره في التخلف، خصوصاً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما روي من قول أمير المؤمنين عليه السلام المتقدم له «فأنت ممن ينتظر، وممن لم يبدل»، والله العالم بحقيقة الحال.

 

ثورة التوابين

لا يخفى أنّ ثورة الحسين عليه السلام هزّت الضمير الإسلامي هزة عنيفة، وولّدت ارتدادات عاصفة في صفوف الأُمة، خصوصاً في صفوف أُولئك الذين لم يلتحقوا بالحسين عليه السلام، أو تخاذلوا عن نصرته.

ويرى بعض الباحثين أنّ ثورة التوّابين هي ثورة (تأنيب ضمير)، و( تكفير ذنب)، نتيجة الإحساس بالمسؤولية عن خذلان الإمام الحسين عليه السلام: «والواقع أنّ حركة التوابين التي قامت بزعامة سليمان ورفاقه من قادة الحزب الشيعي،  هي طراز فريد بين الحركات السياسية العديدة التي شهدتها تلك الفترة المهمة من التاريخ العربي؛  ذلك أنها لم تتضمّن شيئاً من برنامج الحركة الشيعية السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي على غرار ما ظهر قبل ذلك في ثورة الحسين، أو ما ظهر من ملامح فيما بعد في حركة المختارالثقفي،  وإنّما انحصرت في ظلّ إطار التكفير عن الذنب، واتخذت من الثأر للحسين شعاراً رئيسياً لها،  وانعكس عليها سلوك زعمائها المثالي، وشخصياتهم المرتفعة التي زهدت بالمناصب، ورفضت المساومات،  ونبذت كل موقف لا يتلاءم مع المبدأ العام للحركة،  الذي لخصّه سليمان بالعبارة الآتية : إنه لا يغسل عنهم ذلك الجرم إلّا قتل مَن قتله أو القتل فيه»[48].

هل هذه النظرة إلى ثورة التوابين نظرة صائبة، وهل يمكن وصف حركتهم بأنها حركة انتحارية، كما عن بعض الباحثين، أم أن لها أهدافاً سياسية، هذا ما لا نخوض فيه فعلاً في هذا المقال، ونتركه لمناسبة أُخرى، إلّا أنّ مما لا شك فيه أن الشعور بالندم والتكفير عن الذنب كان من الدوافع الأساسية للثوار.

اجتمع الثوّار هذه المرة ـ كما في المرة الأُولى عندما بلغهم نبأ موت معاوية، وخروج الحسين عليه السلام إلى مكة ـ في دار سليمان بن صرد الخزاعي، وكان الاجتماع يضم قادة آخرين، منهم المسيب بن نجبة، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن وال التميمي، ورفاعة بن شدّاد البجلي، وألقوا بعض الخطب، ثم اتفقوا على تولية سليمان ابن صرد قيادة الثورة[49].

عمل قادة الثورة على استقطاب المتطوعين، وتشجيع المترددين، ومكاتبة الشيعة خارج الكوفة في المدائن والبصرة وغيرها، وقاموا بحملة إعلامية كبيرة في ذلك، حتى بلغ عدد المؤيدين ـ بحسب ابن كثير ـ عشرين ألفاً[50]، وبلغ عدد المبايعين له ستة عشر ألفاً [51]، ولكن ليس المهم كثرة المؤيدين والمبايعين، بل مَن سيصمد منهم حتى النفس الأخير، ومَن يبقى على موقفه في ساعة الصفر.

قبل التحرّك الفعلي كان ثمة اجتماع لقادة الثورة، تدارسوا فيه الخطوات التي ينبغي أن يقوموا بها، والأولويات التي لا بدّ من التركيز عليها، وقد برز اتجاهان متغايران: أحدهما يمثله عبد الله بن سعد، ويرى أنهم لا بدّ أن يبدأوا بعمليات انتقامية داخل الكوفة، تستهدف بعض الأشراف المتواطئين مع النظام الأُموي، والآخر يمثله سليمان بن صرد نفسه، ويرى ضرورة البدء بعبيد الله بن زياد الذي بات المسؤول الأول بعد موت يزيد بن معاوية، ثم يتمّ التفرغ بعد القضاء عليه للداخل الكوفي؛ لأنّ التعرض لقتلة الإمام الحسين عليه السلام في البداية سوف يثير عليهم الناس الموالين لهم، مما سيضعف جبهتهم أمام عبيد الله بن زياد، قال: «إنّ الذي قتل صاحبكم وعبّأ الجنود إليه، وقال: لا أمان له عندي دون أن يستسلم فأُمضي فيه حكمي، هذا الفاسق ابن الفاسق ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، فسيروا إلى عدوّكم على اسم الله، فإن يظهركم الله عليه رجونا أن يكون من بعده أهون شوكة منه، ورأينا أن يدين لكم مَن وراءكم من أهل مصركم في عافية، فتنظرون إلى كل مَن شرك في دم الحسين فتقاتلونه... إني لأحب أن تجعلوا حدّكم وشوكتكم بأوّل المحلين القاسطين، والله، لو قاتلتم غداً أهل مصركم ما عدم رجل أن يرى رجلاً قد قتل أخاه وأباه وحميمه، أو رجلاً لم يكن يريد قتله...»[52].

 

انطلاقة الثورة

تحرّك الثوّار ليلة الجمعة في الخامس من ربيع الثاني سنة (65هـ) باتجاه النخيلة، المعسكر الذي سيتوافد عليه الثوار والمتطوعون، أقاموا في النخيلة ثلاثة أيام في معسكرهم، ولكن الاستجابة لم تكن بالمستوى المطلوب؛ إذ لم يتجاوز عدد المقاتلين الأربعة آلاف مقاتل[53].

لقد تخلّف شيعة المدائن، وشيعة البصرة، وكثير من شيعة الكوفة عن سليمان بن صرد، وهذا الأمر له أسبابه الموضوعية التي لا مجال لسردها هنا، ولكن على رغم ذلك لم تتأثر معنويات الثوار بذلك، وإنما اندفعوا بكل إصرار وعزيمة.

ساروا قاصدين كربلاء حيث قبر سيد الشهداء عليه السلام، فلمّا وافوها ضجّوا بالبكاء والنحيب حول القبر المبارك، وقالوا بصوت واحد: «يا رب، إنا قد خذلنا ابن بنت نبيّنا، فاغفر لنا ما مضى منا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصدّيقين، وإنّا نُشهدك يارب أنا على مثل ما قُتلوا عليه، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين»[54].

بعد يوم وليلة أقاموا فيها عند قبر الحسين عليه السلام انطلقوا عبر الفرات إلى الأنبار، ومنها إلى القيّارة وهيت، ثم إلى قرقيسيا التي تزودوا منها بما يلزمهم.

وفي قرقيسيا تناهت إلى أميرها أخبار عن نزول عبيد الله بن زياد في (الرقة) على رأس جيش كبير، يضم خمسة من قادة الأُمويين، ومن أشد أعداء الشيعة، وهم: الحصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وأدهم بن محرز الباهلي، وربيعة بن مخارق الغنوي، وجبلة بن عبد الله الخثعمي.

أطلع (زفر الكلابي) أمير قرقيسيا سليمان وجماعته بالأمر، وحاول أن يثنيهم عن المضـي في طريقهم، ولكنهم رفضوا وأصروا على الاستمرار، ودّعهم زفر ودعا لهم، وأعطاهم نصائح واستشارات قيّمة حول طبيعة المنطقة، وبعض الخطط الحربية، فودّعوه وانطلقوا في مسيرهم[55].

 

معركة عين الوردة

سار سليمان مع أصحابه في عمق الجزيرة قاصداً (عين الوردة)، بناء على نصيحة قدمها له أمير قرقيسيا، حتى إذا ما وصلوها استراحوا قليلاً، ثم أخذ سليمان ينظم المقاتلين، ويضع خطط القتال، وقد عمد إلى تقسيم المقاتلين، فقسّمهم على  مجموعات صغيرة تتولّى القيام بعمليات خاطفة على طلائع وأطراف الجيش الأُموي؛ لإرباكهم والتأثير في معنوياتهم.

بعدها قام خطيباً فيهم، وأوكل قيادة الجيش ـ إن هو أُصيب ـ إلى نائبه المسيب ابن نجبة، ثم إلى عبد الله بن سعد، وبعده إلى عبد الله بن وال، وأخيراً إلى رفاعة بن شداد[56].

لم تكن المعركة متكافئة، فأربعة آلاف مقاتل، بل تناقص عددهم إلى ما دون الأربعة آلاف بحسب بعض المصادر، يقفون أمام عشرين ألفاً بحسب ابن أعثم[57]،  وستين ألفاً بحسب خليفة بن خياط[58]، وتقديرات أُخرى بين هذين الرقمين، إنها معركة غير متكافئة أبداً.

ولكن على رغم ذلك قدّم التوابون ملاحم أُسطورية في مواجهة الجيش الأُموي، واستمرت المعركة ثلاثة أيام كبّد فيها الثوار جيش الأُمويين خسائر فادحة، غير أنّ الكثرة العددية تفوّقت في النهاية، «ورأى سليمان بن صرد ما لقي أصحابه، فنزل فنادى: عباد الله، مَن أراد البكور إلى ربه، والتوبة من ذنبه، والوفاء بعهده، فإليّ.. ثم كسر جفن سيفه، ونزل معه ناس كثير، وكسروا جفون سيوفهم، ومشوا معه.. وقتلوا من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح، فلما رأى الحصين بن نمير صبر القوم وبأسهم، بعث الرجال ترميهم بالنبل، واكتنفتهم الخيل والرجال، فقُتل سليمان ابن صرد رحمه الله، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع، ثم وثب، ثم وقع»[59]، وكان يوم قُتل له ثلاث وتسعون سنة[60].

إنّ ثورة التوابين من الثورات الفريدة في التاريخ، وهي تستحق دراسة أوسع من هذه، فغرض المقالة كان التركيز على سيرة سليمان بن صرد رحمه الله، وليس دراسة ثورة التوابين، التي هي بحق تحتاج إلى دراسة تحليلية واسعة، عسى أن نوفق لها في القادم من الأيام.

 

الكاتب: السيّد محمد الشوكي

مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثامن عشر

مؤسسة وارث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية

________________________________________

[1]* خطيب وباحث إسلامي، من العراق.

[2]  ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 2، ص649ـ650.

[3] الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج9، ص284.

[4] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال النجاشي): ج1، ص286.

[5] الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج11، ص126.

[6] البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري: ج5، ص48. الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن: ج8، ص136.

[7] الذهبي، أبو عبد الله، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، تاريخ الإسلام: ج5، ص46.

[8] الطبـري، محمد بن جرير، تـاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص427.

[9] الكوفي، ابن أعثم، أحمد، كتاب الفتوح: ج 5، ص28.

[10] المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، الجمل: ص52.

[11] شرف الدين، عبد الحسين، المراجعات: ص130.

[12] الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج9، ص284.

[13] المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، الجمل: ص52.

[14] المنقري، نصر بن مزاحم، وقعة صفين: ص7.

[15] الخوئي، أبو القاسم، معجم رجال الحديث: ج9، ص284.

[16] المصدر السابق.

[17] الطوسي، محمد بن الحسن، رجال الشيخ الطوسي: ص66.

[18] الزمخشري، جار الله محمود بن عمر، الفايق في غريب الحديث: ج2، ص29.

[19] ابن سعد، أبو عبد الله محمد، الطبقات الكبرى: ج4، ص292.

[20] الجزري، ابن الأثير، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد، أُسد الغابة في معرفة الصحابة: ج2، ص351.

[21] المفيد، محمد بن محمد بن النعمان، الجمل: ص52.

[22] المنقري، نصر بن مزاحم، وقعة صفين: ص205. الدينوري، أبو حنيفة، أحمد بن داوود، الأخبار الطوال: ص171.

[23] المنقري، نصر بن مزاحم، وقعة صفين: ص400ـ401. الكوفي، ابن الأثير، أحمد، كتاب الفتوح: ج3، ص123.

[24] المنقري، نصر بن مزاحم، وقعة صفين: ص519.

[25] البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، أنساب الأشراف: ج2، ص393.

[26] اُنظر: الخصيبي، الحسين بن حمدان،  الهداية الكبرى: ص415.

[27] ابن قتيبة الدينوري، عبد الله بن مسلم، الإمامة والسياسة: ج1، ص141.

[28] الدينوري، أبو حنيفة، أحمد بن داوود، الأخبار الطوال : ص220.

[29] الكوفي، ابن أعثم، أحمد، كتاب الفتوح: ج4، ص166. اختُلف في اسمه بين سفيان بن ليلى ، وسفيان ابن أبي ليلى، وسفيان بن الليل.

[30] ابن كثير، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص20.

[31] الطبري (الشيعي)، محمد بن جرير، دلائل الإمامة:  ص166.

[32] الطوسي، محمد بن الحسن، اختيار معرفة الرجال (رجال النجاشي): ج1، ص328.

[33] الشريف المرتضى، علي بن الحسين، تنزيه الأنبياء:  ص223.

[34] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص261.

[35] المصدر السابق.

[36] ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج2 ، ص649 ـ650.

[37] ابن الأثير الجزري، عز الدين أبو الحسن علي بن محمد، أُسد الغابة في معرفة الصحابة: ج2، ص351.

[38] ابن سعد، أبو عبد الله محمد، الطبقات الكبرى: ج4، ص292.

[39] التستري، محمد تقي، قاموس الرجال في شرح تنقيح المقال: ج5، ص279.

[40] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف في قتلى الطفوف: ص152.

[41] القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين: ج2، ص416.

[42] التستري، محمد تقي، قاموس الرجال في شرح تنقيح المقال: ج5، ص280.

[43] ابن نما الحلي، جعفر بن محمد بن جعفر، ذوب النضار في شرح الثار: ص75.

[44] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص457.

[45] المصدر السابق: ص 456

[46]  اُنظر: المصدر السابق: ص426.

[47] المصدر السابق: ص428.

[48] بيضون، د. إبراهيم، التوّابون: ص 7 ـ 8.

[49] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك:ج4، ص436ـ 438.

[50] اُنظر: ابن كثير، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر، البداية والنهاية: ج8، ص251.

[51] اُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج 4، ص452.

[52] المصدر السابق: ص454.

[53] اُنظر: المصدر السابق: ص452.

[54] المصدر السابق: ص456.

[55] اُنظر: المصدر السابق: ص461.

[56] اُنظر: المصدر السابق: ص462.

[57] اُنظر: الكوفي، ابن أعثم، أحمد، كتاب الفتوح: ج 6، ص230.

[58] اُنظر: العصفري، ابن خياط، خليفة، تاريخ خليفة بن خياط: ص201.

[59] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص465.

[60] اُنظر: ابن سعد، أبو عبد الله محمد، الطبقات الكبرى: ج4، ص293.

 

المرفقات