ربما تكون للراية خصوصية تتفرد بها من حيث تصميمها باختزالية عالية ومكان وزمان استخدامها، من حيث اقتصارها في الغالب على الشكل المستطيل واعتماد خامات القماش المتميزة بالانسيابية التي تساعد على الرفرفة، مع وضعها في أماكن مرتفعة عن طريق السارية او فوق القباب والمآذن الاسلامية .
ولو نظرنا الى الراية كعمل فني تصميمي نجدها تحمل جماليتها بذاتها، فهي تتفرد ببعد عقائدي فكري وأسلوبي، وهناك نماذج لرايات واعلام اختزلت بالوان واشكال متعددة ، ومنها ما اختزلت بلونٍ واحد مثل راية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( العُقاب ) ، ذات اللون الأسود ورايات الائمة الاطهار ذات اللون الاحمر المرفوعة فوق قباب اضرحتهم الشريفة .
كما أن الراية كمنظومة اتصالية تتعلق بالمُرسل ( مصمم الراية والجهة التي تبنتها ) والرسالة ( الراية ) والمُرسل إليه ( المتلقي )، والرسالة والمرسل إليه عادة ما تكون أشد ضرورة من المرسل بالقدر الذي يترتب عليه التعبير عن الوعي الجمعي ، فالحصيلة الجمالية للراية في النهاية يجب أن تحظى برضا وقبول المجتمع لأنها تمثل الهوية السياسية والفكرية والعقائدية لهم ، فللتصميم وجماليته أثر في هذا القبول او رفضه.
منذ أن تمكّن الإنسان في الأرض .. وزخر فكره بتصورات عن ظواهر الأشياء وما ورائها، نمت رؤياه ولم تعد وسائل التعبير لديه مقتصرة على معطيات الحسّ والعالم الموضوعي ، بل استنفر مجمل طاقاته من عقل وخيال وإلهام لاحتواء موضوعات الفكر بكل شموليته وحيثياته، وهذا يتجلى في مجمل النشاطات الفكرية في العصور الماضية ، فقد لجأ الانسان إلى تجريد الاشياء والأشكال وطبعها بطابع رمزي يحمل دلالات فكرية عدة، وإن محاولة تفسيرها يستدعي وعياً كاملاً لا يقف في حدود المرئيات .
وضمن هذه الرؤى الشمولية تميز الخطاب الفكري الإسلامي عن خطابات الحضارات الاخرى بعمقه وثرائه، بوصفه ممثلاً لرسالة سماوية الهية تستوعب مجمل الحياة المادية والروحية، ويلقي على الفنان والمفكر المسلم ثقافة موصولة بالمطلق، تمثلت أسسها بالقرآن الكريم الذي يكشف عن أسرار الكون ، وما يحيط به ، ويثبت أسس الحياة البشرية ، مما كان له الأثر الكبير في تطور الفكر العربي الإسلامي ، الذي انعكس بدوره على الفكر الجمالي الإسلامي ومنها جمالية الرايات الاسلامية التي تُعد تمثيلاً رمزياً صادقاً لروحية الاسلام .
ولا شك ان للراية في الاسلام حضور في تأكيد العقيدة لما تحمله من جانب روحي مرتبط بالمعتقد فهي تمثل هوية المسلم خصوصاً أثناء الحروب، فالراية لها دور كبير في ثبات الجيش وانتصاره ما دامت مرفوعة خفاقة في ساحة الوغى، وبالتالي فهي ضرورة لازمة في المعركة ولها تأثيرها النفسي على المقاتلين وزيادة حماسهم وبسالتهم، ففي تشكيل الراية لن نكون بصدد شكل جمالي ذي غائية امتاعية فردية، بل نكون إزاء منظومة معقدة تحمل تعبيرات سيميائية، لمجموعة المحمولات الثقافية والإيديولوجية التي تتبناها فئة معينة او جيل معين أو حتى أجيال متعاقبة .
ومما ورد عند المؤرخين أن عقد الألوية والرايات في الأماكن العامة كان للدلالة على إشهار الأمر وإعلان الحرب لذا تحمل الألوية والرايات ألواناً تميزها ، ومن هنا اختلفت ألوانها .. فقد ورد ان لون اللواء في معركة مؤتة كان ابيضاً وقد سلمه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى جعفر بن ابي طالب، وكان الإمام علي عليه السلام يحمل راية سوداء ولواءً ابيضاً في بعض معاركه ضد الخوارج، وفي معركة صفين كانت رايته عليه السلام حمراء، وكانت أعلام العلويين وراياتهم خضراء، وغيرها من الرايات والوانها التي استخدمها المسلمون في حروبهم وسلمهم والتي كان لها دلالات ومعاني كثيرة ومختلفة، فمنها ما يثير الهمم ومنها ما يسترجع مآثر الأبطال من الأجداد من شجاعة وقوة وإقدام .
كانت القبائل فيما مضى تتقاتل فيما بينها وتطحنها الحروب طحن الرحى وأذا بدأت الحرب فلا شئ يوقفها ولربما تتوارثها الاجيال المتعاقبة، لكن هناك عادات وتقاليد التزمتها العرب وهي وقف القتال في الاشهر الحرم لا لغرض المهادنة بل لحرمة القتال فيها .. وكل من الطرفين يترقب انقضاء هذه الاشهر كي يستأنفوا القتال ، وقد استخدموا الراية الحمراء للدلالة على عدم انقضاء الحرب فتوضع على خيمة زعمائهم كي يعلم الاعداء والاصدقاء ان الحرب لم تضع اوزارها بعد، فهم لايزالون يطالبون بالثأر لدماء ضحاياهم ...
وها نحن اليوم نرى راية الثأر الحمراء تهتز خفاقة فوق قبة ضريح سيد الشهداء ابي عبد الله الحسين (عليه السلام) .. وها هي اليوم تستبدل باخرى سوداء إيذانا بحلول شهر الحزن والاسى محرم الحرام .. وها نحن منتظرون ..
متى تنقضي هذه السنين ..ونسمع نداء (يالثارات الحسين) متى اليوم الموعود يا حجة الله .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق