مذكرات منسي

من قصص الانتفاضة الشعبانية المباركة

هنا بين الأسقف المتقاربة يغطي مسائي لوناً قانياً كحناء الألم، أعبث بذاكرتي ولا أرغم جسداً منهكاً على البقاء حياً لأيام متجذرة في وحل المستنقع الذي سقطت به.

فجأة.. ودون وعي أو دون حساب، فكرت كثيراً قبل بدئي بتخطيط ذاكرتي المنسية في أزمنة البؤس والموت رغم كل حرف يورق في جسدي بجلد مبرح ومن هذا الجو المشحون بالرعب والمضغوط كصداع والمملوء بالانتظار والرغبة في الموت والمترشح من بقايا الندى لهواء متعفن من رائحة جسد السجان وقلق الموت، سأرسل لكم ذاكرتي بسطور مشطوبة من ساعات بقائي، ربما سأل أحدكم كيف لبائسٍ منسيٍ مثلي لم ينعم برطوبة الحديث مع جنس بشري لأن السجان من فصيلة أخرى لا ترتبط بالبشر، وإن كان هناك حديث فهو عبارة عن شتائم وقحة قبيحة كهيأته التي يطل بها عليّ كقضاء يومياً، وعلى مدى السنين المنصرمة والتي فشلت في تعداد أيامها الموحلة والمشبعة بالعمر المفقود بين الجدران الرطبة والأحلام المستفيضة لكني وبحكمة المتشبث بضوء نهار أرسلت لكم تلك المذكرات مع هلوستي المقذوفة كحمم مطمورة ومع أحلامي المكبوتة والتي لا أحلم بها أبداً، في جزئي الذي يئن مني يتصدر ذاكرتي عطب الأمل وفي الجزء الذي ينام مني يملأ ذاكرتي رائحة للكون المغلوق والمندلق  من سقف الزمن كهراء.

ذاكرتي هذه أرسلها لكم لتشاركوني ألمي وغيابي لا ترضوا عني أو تمجدوني بعدما أبقى ذكرى تمر على ضمائركم وقلوبكم والتي ستعيش الكارثة بعدي أو لتواسوني في ظلمتي المكانية لأن هناك مثلي كثيرون عانوا مشكلاتهم لوحدهم، وحدنا كنا نضطجع يومياً في شقوق الحظ السيئ فأدوّن لكم احتجاجي واحتجاج المشانق المنصوبة في أجسادهم لتحرق أعوادها وتنير ظلمة الأمكنة لمشاريع موت مستمر.

أبني جدار الذاكرة من موقف قرب مراكز تجمعنا يوم تركنا مدينتنا مصلوبة فوق أعمدةٍ من نار وحطام.

ـ وهاب أتذكر حلمنا الذي طالما تحدثنا به وطالما ركبنا موج عواطفه وتمشينا في دروب منفانا أو حلمنا, اتركهم هذه المرة ولنذهب قدماً وأشرت بأصابعي نحو الحدود فيما الشمس بهدوء تودع النهار راسمة لوحة حمراء بلون غرفتي هذه فوضعت يدي الصلبتين على كتفه وهمسته بأني لا أجد فرصة أخرى للحصول على المدينة.

ـ والأرواح والشهداء والوطن هكذا نتخلى عنه. ردد بصورة أفقية وهو يحدق مثلي نحو الغروب فيما قطع عنا التواصل أحد شباب المدينة المعروفين وهو يسألنا عن أحوال المدينة لأنه هرب من أول إطلاقة جدية من قبل الحكومة مع علمه التام بأننا آخر من هرب منها.

ـ المدينة تموت وتحترق وتتلظى والشهداء والأرواح التي علت إلى السماء والنساء المختبئات خلف عباءتهن السوداء يلومون أمثالك لأن الحرية لا تأتي بدماء بسيطة هي كالنار تلتهم كل شيء فبهروبك وهروب أمثالك جعلنا مثل الذي يحفر حفرة عميقة ويسقط روحه فيها على أمل أن يشرب ماءً لكن لا يرى في القاع إلا الظلمة والدماء. هكذا جاوبه وهاب مركزاً عينيه الغاضبتين في عيني محدثنا.

أراد الدفاع عن نفسه لكن وهاب لم يعطه الفرصة بأن أعطاه علكة كانت في يده وأشار إليه نحو تجمع للأطفال.

ـ وهاب لا تكن بهذه الحدية ولتحمل الآخرين ما لا طاقة لهم. ليس كل الناس مثلنا مجانين أو لا تعطي الناس حقهم بأن يبقوا أحياء.

ـ وهل الحياة في ظل ذلك الخنوع تعتبرها حياة أنا أفضِّل أن أموت آلاف المرات ولا أعطي بيدي إعطاء الذليل هذه تعاليم ثائرنا الأبدي.

ـ نعم لكن لا مناص من الوقوع في فخهم إنهم أكثر منا وأقسى قلباً وأنا أعني لو تسمع كلامي مرة واحدة، هذه المرة ولا تذهب معهم، وأنا أستدل من حسابي المنطقي للأشياء وللحوادث وللقوة المعادية فإني جربت مراراً خلال تلك الأيام المنصرمة من عمر رجولتنا أن أذهب مع المجاهدين فمنهم مجاهد بصدق ومجاهد برياء ومجاهد بغباء، ومجاهد بعمالة فما إن نصل لننطلق بمهمتنا حتى يأتي أمر بانسحابنا من حيث أتينا وكأننا كنا في عمل استعراضي أو كشفي، هذا إن لم نتعرض لمطاردة ليموت أحدنا وهذا ما يحصل تكراراً.

ـ يا حيدر نحن لنا الحق أن نعيش ولكن بكرامة فإن لم يكن من أجلنا فمن أجل الآخرين فما أسعدني إذا استطعت أن أجعل البسمة تغزو وجوه الأطفال فمن أجلهم أو من أجل هذا الوطن المطعون بسيف مسموم سأذهب حتى لا أترك في نفسي الحجة ذات يوم بأني تقاعست أو لم ألبي نداءً دُعيت له إن كنت في حينها لا أزال أحمل في جسدي بقايا روح.

كان صديقي هذا شجاعاً وأنا على يقين بأنه سيموت لأن مثله لا يستطيع أن يعيش في مستنقع الحياة الموبوء.

وفيما نحن جالسون ننتظر الرحيل على ضفة النهر القاسم للمدينة تذكرنا جلساتنا سوية على ضفة نهرنا الصغير الممتد حتى إهانتنا المستمرة يوم كنا نجمع أحلامنا المشتتة في قلوبنا الصغيرة ونطلقها بهيئة طيور هاربة أو محلقة في فضاءات مترامية تخدش حركة النخيل..

فيما نحن نضطجع تحت شجرة رمان لبستان مهجور كان مأوانا، كنت أتلو عليه بعض مغامراتي ويقصني بعض حكايته وكيف كنا نتنشق طعم الرمان من البساتين المحيطة وكنا كل ما أوجعنا التعب وهزمتنا شمس الظهيرة نحلق من فوق الجسر الخشبي لنحتوي وحل النهر الذي ينام في أجسادنا، وما بين ذكرى ماضٍ جميل بحزنه ومستقبل مجهول متميز على صدره, بكى وكأنه كان يعلم بأننا من الممكن أن لا نلتقي مجدداً فبكينا وفيما أنا أحدق في خديه المعشوقتين من الشجن العميق والحياة المرهقة وثب كعمود منصوب وبعزم، قال سأرحل!!.

رجوته أن أبقى وسنرحل مع حلول الضياء إلى أرض نعيش بها سوية بعيداً عن هذه الأرض الغارقة في العتمة.

ولكنه جاوبني بإيماءات وكلام مبعثر وساهماً في وجهي كمبهور ليس الآن لا أستطيع القرار وترك التربة بلا دماء، فالزرع يموت، الزرع يموت، الزرع يموت وما زال صدى الكلمات يفر من ذاكرتي وخصوصاً وأنا أدندنه كل مساء كموال ريفي حزين ـ وقبلني بين عينيّ ورحل دون أن يستدير إلى الوراء.

وسارت القافلة الجنائزية مستهدية بضوء القمر والنفوس اللاهبة لشباب ميّت لا محالة ليقطعوا دروباً موحشة ليصلوا بأيمانهم المفرط حدود المدينة فيما أنا أبكي قليلاً قليلاً ولو أني كنت غير ذاهب معهم لكان لي مصير غير الذي أنا فيه.

في الصباح التالي قدمت الأخبار وكانت حسب توقعاتي لم يهاجموا والقائد الذي انتزع الولاء بالحلف المقدس كان أول من تراجع، أما صديقي وقلة معهم قرروا البقاء في البساتين القريبة عسى أن يجدوا لهم حلاً وأنا بدوري عزمت أن أخرج خارج هذا البلد فبدأت مسيرتي وأنا أجرُّ خطايَ كعجوزٍ مهزوم.

الدروب تقطعني وأقطعها وأسير صوب الحدود لمدة يومين من التعب المضني والجوع والعطش فمدّت أمامي شبابك الذكرى فوقعت في حبالها وأنا أرى صورة والدتي وهي تنادي حيدر ـ حيدر أترحل ويعتقلني الآخرين. أتهرب لتعيش حياة المنفى وتبكي الوطن وأمك معتقلة فكان هذا الطنين المؤلم يثقل حركتي بل أوقفها فأدرت بلا شعور بوصلة حياتي نحو الهلاك  حين قررت أن أعود.

فكانت العاصمة وكانت مدينة حياة الذي يراها لا يلاحظ أي شيء يدل على أنها للتو أفاقت من حرب مدمرة, وعندما قارنت ما بين جميع المدن التي مررت بها ومن ضمنها مدينتي والتي كانت كأن زلزال قد ضربها أو نزل بها غضب من الله والعاصمة بكل حياتها وضجيجها عرفت بأننا وقعنا تحت سلسلة من الأخطاء بدءاً بالشهادة وانتهاء بالوطن فتبادرت صورة وهاب المؤمنة بهيئته الشجاعة وأنا أقوده بين المارة, فالشرهون بالأسواق يجمعون الأموال بشبق والنساء المتبرّجات والمعطرات يمشين في الأسواق كالأيام الخوالي للحصول على نظرة من هذا أو ذاك والمزاح والحياة بكل فورانها, فتبادر إلى ذهني صديقي الذي لفظ أنفاسه في أحد المعارك في مدينتي فحين بكيته مسح دموعي بكفيه الدافئتين وقال لي: لا تبكي يا صديقي إنما من أجل الشعب المظلوم ولا تنحب ولا تسأل لماذا إنه الوطن..؟

فلو كان هنا لدقيقة واحدة لمات من الحنق والغضب وفي هذه الأثناء بادرت قريبي بسؤال وأنا في سورة الغضب لماذا تركتمونا نُذبح لوحدنا فقال لي: كانت العاصمة تنتظر قدومكم إليها ليهب الشباب لنصرتكم لكنكم لم تأتوا وكان نقاش طويل بضرورة الوثوب لوحدكم.

قال إن العاصمة مدججة بالجنود والعتاد.

ضجيج فارغ، ضجيج فارغ، صرخت بوجهه حين تذكرت الدماء فاندثرت قضية الأبطال بغبار الإعلام وغشاوة الخوف وحمولة الاتكال وفي غمرة الحديث قال لي: كيف أنه الآن منبوذ من قبل أصدقائه وأقربائه لأنه في ذروة الانتظار كان يوزّع أدوار الجهاد عليهم وما إن انتصرت الحكومة قدموا إليه بنصائح أقلها الرحيل من هنا لأنه تكلم كثيراً عن الحكومة والقائد في حينها, صرخت بلا إرادة أسمعتَ يا وهاب وأنت تقول الوطن!! في أي تربة موحلة يتمدد جسدك الآن؟

وفي ذلك الحين عشنا أيام صعبة لا نستطيع التنقل لأن العاصمة مزروعة بالشياطين أو ما يطلق عليهم المشخّصين وهم من أبناء جلدتنا تكفي إشارة من عيونهم الملثمة بأن تسقط ورقة موتك قبل قطافها.

فانتظرت بالدار أنتظر من يلفظ جسدي الخائف والمنهك خارج هذه الأرض المحرقة..

كنت دائماً أنتظر منتصف الليل ليأتي من يسعفني وينقلني لأشم هواء نقياً بدل عفونة هذا الهواء وإذا بالباب يدق ها أنا أحس برجفة الدقة لأنها لا تبرح الذاكرة ففتحته ملهوفاً من أول طرقة فانهالت علي اللكمات والشتائم بقوة الكبت الصحراوي ولم أقف إلا وأنا بين حشر من الناس من كل الفئات العمرية تجمعنا زنزانة سمراء يحضنني عجوز بعمر أبي.. فتفرّست بالوجوه لأكتشفها لكن هي التي اكتشفتني وكأنني نزلت للتو من عند الله أو كأنني ملاك هارب أو منقذ وتقاذفت إليّ الأسئلة من كان من الناس عن كيفية اعتقالي وأنا أتمتم وأتوجع من الألم وأجاوب وأحايد وكنت خائفاً ضعيفاً هزيلاً كقصبة فارغة كنا هناك كيوم الحشر كل صباح يجمعوننا ليمارسوا فوقنا شهوانيتهم المريضة ليزاولوا رجولتهم المبتورة ليحتقروا أنفسهم في دواخلنا وكان المشخصين الملثمين يجولون بأبصارهم فوق قلوبنا الخافقة فتتساقط الأرواح كثمار ناضجة ويضج الألم بين الصالات الكثيفة وكل مساء يأتي القائد المخمور ليقضي ليلة فرح حين يعبئ النفوس المقيدة بالبنزين ويطلق مع قهقهاته طلقة بكبر  الخنوع ليتطاير الجسد كريش منثور فيما هو يكمل كأسه الأخير بالدم.

كنت في إحدى الزوايا أتفرّس بأحدهم كان مثالاً لكل قادم جديد لم يعترف، لم يشخص، لم يهادن لكن رغم جسده الطويل والقوي كما كنت أعرفه سابقاً، رأيته كخرقة بالية ممزقة.. جرّبوا عليه كل الأوضاع أحرقوه ببرميل.. علقوه كمروحة.. ضربوه بكل قواهم.. زرعوا في أسته زجاج خمرتهم.. قطفوا منه الرجولة.. لكن رغم ذلك لم يضعف, يبتسم لك بكبرياء الرجال حين تسأله أو حين يسبّهم عندما ينادوه، وعلى ما أوصاني ونصحني به الجميع بضرورة الاعتراف بأني خرجت مع الذين خرجوا ضد الحكومة حتى أتجنّب التعذيب ومن الممكن أن أخرج بالعفو الذي سمعت به ولا أزال أعيش على أمله، رغم أني كنت أرى الشاحنات تملأ بمن يرغمونهم بالهتاف بحياة القائد المنتصر وترحل الشاحنات.

وذات يوم فيما نزعت مني الاعترافات عنوة خرجت بقميصي الممزق وبين الصالات وأنا أقاد رأيت والدي بعكازه الأزلي ضمني إلى صدره وبكينا فطرحتني اللكمات فيما هو يمسح دماءه التي علت جبينه من تلقي ضربة بقوة من أحدهم.

رحل أبي ولا أعرف عنه شيئاً في أية حياة أو مقبرة أو قضبان أو أين يقبع الآن؟ لأني هتفت في الوقت الذي سمعت إطلاقات اخترقت أجساد كثيرين من الذين حملتهم نفس الحافلة التي هتفنا بها في الوقت الذي أنا مرمى في هذه الزنزانة الضيقة أحسب أحلامي بعد يوم الهتاف.

يا ليتني لم أهتف لكنت لا أزال أزاول رجولتي المستمرة من يوم الانتفاضة. لماذا ضعفت أي روح ملعونة أغوتني، وأي حياة لئيمة كنت أطمح أن أعيشها وأنا أسقط في وحل الكلمات، رغم ذلك أعدمت الأنفس الميتة بلا تميّز.. حتى المشخصين صعدوا إلى المشانق لم يتشفع لهم ذلهم وخنوعهم ونفاقهم وقتلهم للآخرين.

أنا لا أعرف لماذا أنتظر ولا أي زمن ولا أي مساومة سأدفع بها أنا منسيٌ في الليالي الصديقة والبعيدة.. منسيٌ في النهارات المضيئة والباردة والممطرة.. مرمى كوحشٍ ضارٍ في قفص بارد أمارس عادة المشي لخطوات بسيطة بعدما لم تحتويني مساحات المدن وأنا أذرعها كل يوم أو أغني بألحان مللتها.. بكيتها مراراً ومراراً، أضفت إليها, لكن لا أستطيع حتى تدوينها لأني لم أملك قلماً ولا حتى ورقة المنع.. يبدأ من النظر إلى السجان.. إلى النوم فوق الأرضية الرطبة للسجن.. صديقي الوحيد الذي يسمعني أو يناغيني ويبكيني حين يضيء المساء لأن النهارا كان مساءً؟ الزوار الذين يقذفون إليّ هنا كمجرات ساقطة متفجرة تكوّن حينها صداقات متقاطعة تلفظ أنفاسها الأخيرة حينما يُجرّ صديق ذات ساعة نحو المجهول لا أستطيع أن أجمع الخطوط والفواصل حين أسأل عن الآخرين مع كل قادم جديد إلى خطوتي المفروضة لأنه وببساطة لا أحد يعرف أحد الذي نلتقي به اليوم لا نراه أبداً ولا يمكن أن تلتقي بأحد ممكن أن يكون قد رآك في يوم ما. اللعبة محكمة بتكتيك مستورد لأنني استكبره على مثل هؤلاء الرعاع هل سيأتي اليوم الذي أولد به مجدداً أو يولد الوطن من جديد، وطن مملوء بالحب، لا تجد سجون إلا سجن القلوب للعشاق والمحبين..

هل يأتي الوطن والحرية كسحابة أو كغيمة خصبة لا تعرى في وجودها وأبتهل تحت نثار المطر ولأغني مطر ومطر حرية ووطن.. ولأحضن وهاب بسمرته المعطوبة ونغني أغنيتنا القديمة عراق يا عراق..

ها هي رنة المفاتيح القبيحة تكسر ضوء ذاكرتي لا لكم ولا ضرب ولا شتم من جديد..

أحمد طابور

المرفقات

: أحمد طابور