الخطبة الدينية بإمامة السيد أحمد الصافي بتاريخ 1 شعبان 1438هـ الموافق 28 /04 /2017 م

النص الكامل للخطبة الاولى

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيّبين الطاهرين. الحمد لله الكائن حيث لا كون ولا مكان، الحيّ حيث لا حدود ولا زمان، الملك حيث لا ملك ولا أعوان، الغنيّ حيث لا ثروة ولا سلطان، أحمده حمداً أبلغ به مقامات الحامدين، وأرتفع به الى منازل العابدين.. إخوتي أهل المعروف أبنائي يا من تتسلّقون مراتب العلم والشرف آبائي يا من قضيتم أعماركم بالعبادة والالتزام ولا نستغني عن آرائكم في مستقبل الأيّام، أخواتي قرينات العفّة والشرف بناتي ربيبات المجد والسؤدد أمّهاتي يا من الجنّة تحت أقدامكنّ ولادةً وتربيةً وتوجيهاً وتزكيةً لفلذّات أكبادكنّ، السلام عليكم جميعاً ورحمةُ الله وبركاته.. أوصيكم إخوتي ونفسي الجانية بتقوى الله تبارك وتعالى والحرص على أن لا يرانا عند معصية، ولا يفتقدنا عند طاعة، أعاننا الله تعالى وإيّاكم على أنفسنا كما أعان الصالحين على أنفسهم، شهرٌ مباركٌ حلّ علينا في هذا اليوم وهو شهرُ شعبان المعظّم، سائلين الله تبارك وتعالى بحُرمة هذا الشهر وبحرمة الأئمّة الهداة الذين كان هذا الشهر الشريف ظرفاً لولاداتهم، أن يمتّعنا وإيّاكم بحياةٍ لا معصية فيها، وأن يسدّدنا وإيّاكم لما فيه خير الدنيا وخير الآخرة، وقد حلّ علينا ضيوفٌ كرام من العتبات المقدّسة في إيران وسوريا فأهلاً وسهلاً بهم سائلين الله تعالى أن يحفظ الجميع لما فيه خير الدنيا وخير الآخرة..

من كلمةٍ لأمير المؤمنين(صلوات الله وسلامه عليه) أنّه أوجز بعض مطالب الخير، بل قال(صلوات الله وسلامه عليه): (جُمِعَ الخيرُ كلّه في ثلاث...) ما هي هذه الثلاث التي جمعها أمير المؤمنين(عليه السلام) في هذه الكلمة الرائعة وجعلها مجمعاً لهذه الخيرات؟ قال: (...النظر والسكوت والكلام، فكلّ نظرٍ ليس فيه اعتبار فهو سهو، وكلّ سكوتٍ ليس فيه فكرة فهو غفلة، وكلّ كلامٍ ليس فيه ذكر فهو لغو، فطوبى لمن فعل ذلك وبكى على خطيئته وأمن الناسُ شرَّه)، لا يخفى على حضراتكم ما للبلاغة من أثرٍ نافذٍ الى عقل وقلب الإنسان، وكان سيّد البلغاء بعد نبيّنا(صلّى الله عليه وآله) هو أمير المؤمنين(عليه السلام)، وقد أودع أسراراً جمّة في ثنايا كلماته الشريفة، فهو الإمام وهو الحاكم وهو الشجاع وهو الحكيم وهو الموجّه وهو الأب وهو الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى اليه الطير -كما ذكر هو (صلوات الله وسلامه عليه) ذلك-.

كثيرةٌ هي كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) في مقام التوجيه والإرشاد، في مقام النصيحة وفي مقام تخفيف العبء عن الإنسان لو أراد أن يسلك مسالك الهداية والتقى، جمع(صلوات الله وسلامه عليه) كلمات قصار في مداليل أيضاً قصيرة لكنّها تحتوي على مضامين عميقة جدّاً، أوّلاً قال: (جُمِع الخيرُ كلّه في ثلاث...) وأمير المؤمنين هو الناصح لنا الشفيق علينا، نحن عندما نقول: "اللهم إنّي أسألك الخير كلّه أو اللهم إنّي أسألك من كلّ خيرٍ أحاط به علمُك" هذا كلامٌ واسع، وأيّ مفردة دخلت تحت الخير كانت مشمولة بالدعاء، أمير المؤمنين(عليه السلام) يجعل مفاتيح هذا الخير في ثلاثة أشياء، وهذه الأشياء كلّنا نمرّ بها، ما هي؟ قال: النظر. أنّ الإنسان ينظر ويرى ويشاهد ما حوله، ثمّ قال: السكوت والكلام، وهذه أشياء أيضاً نحن نتكلّم وننظر ونسكت، فهل يعني ذلك أنّ كلّ أحدٍ منّا قد جُمِعَت عنده مفاتيح الخير؟!! أو لابُدّ أن تكون هذه الأمور مشروطة بشرائط حتّى يتحقّق هذا الذي ذكره علي(عليه السلام)؟!! نعم.. لابُدّ من شرائط وهذه الشرائط بعد ذلك يهنّئ أمير المؤمنين من يلتزم بها قال: فطوبى وهنيئاً وله المقام العالي لمن عمل بهذه المفردات الثلاث.

فلنذهب مع علي(عليه السلام) الى مجاميع الخير التي ذكرها(صلوات الله وسلامه عليه) ماذا قال؟ لاحظوا قال: (فكلّ نظرٍ ليس فيه اعتبار فهو سهو) هناك مقابلة -حتى نفهرس المطلب- هناك مقابلة بين صفتين عقدهما أميرُ المؤمنين، في كلّ مفردةٍ من هذه الثلاث -النظر والسكوت والكلام- في كلّ واحدة منها تكون صفتان، واحدةٌ في مقام الخير وواحدةٌ في مقامٍ آخر غير الخير، ما هو المقام الأوّل؟ قال: النظر، قال: (فكلّ نظرٍ ليس فيه اعتبار) إذن أمير المؤمنين حريصٌ على أن يكون نظرنا نظر معتبر، لأنّه إذا لم يكن نظرَ معتبر فهو سهوٌ والسهوُ لا قيمة له أصلاً، ما هو الاعتبار الحاصل من النظر؟ -وهذا مطلبٌ مهمّ- الإنسان يقول: إنّي أرى وأشاهد لكن ما هو الاعتبار الذي جعله أمير المؤمنين هو السرّ في نجاح الناظر؟ وإلّا إذا لم يعتبرْ فإنّ نظره لا قيمة له فهو سهو.

الآن نحن في هذا العالم -عالم الدنيا- حقيقةً نعرَّض الى كثير من الابتلاءات، بل دار الدنيا هي دار بلاء، وهذه الابتلاءات تارةً تكون ابتلاءات في المال أو ابتلاءات في الصحة أو في ضنك العيش، أو ابتلاءات في العلم وابتلاءات في أصدقاء السوء ومجمل الابتلاءات حسنة أو غير حسنة، جزء من تربية الإنسان لنفسه أن يفكّر أن يستعمل بعض حواسّه حتى تنتج بمردود إيجابيّ عليه، ومن جملة هذه الأشياء هو أن يلتفت الى ما يُحيط به والأشياء الماضية شبيهة بالأشياء القادمة، والأشياء القادمة نعم.. في علم الغيب لكنّها تجري وفق ما مضى والإنسان عليه أن يعتبر، وسنضرب أمثلة وجدانيّة من حياتنا اليوميّة كثيرة، أنّ الإنسان في بعض الحالات عندما يرى بيتاً -مثلاً- شامخاً ويعلم أنّ صاحب البيت لم يكن إنساناً ممدوحاً، فخلّف هذا البيت وما فيه تركةً الى وَرَثةٍ مثلاً لا يقومون بواجبه وحقّه، الإنسان عندما يتأمّل في هذه القضايا يعتبر، كيف يعتبر؟ يبدأ يتأمّل ويقول: هذه الطريقة من الاكتناز والبهرجة وتَرَك فيها صديقاً وخالف فيها قريباً وكسب حلالاً وحراماً واختلط هذا بهذا كان من أجل ماذا؟! كان من أجل أن يعيش -كما يعتقد- عيشةً مرفّهة؟! ثمّ ماذا؟!! العداء الذي كان مع القريب وقطيعة الرحم من أجل هذا الصرح؟!! وهذا الصرح بقى وهو ولّى وتبعات ما فعل ستلاحقه الى قبره، فأنا عندما أعتبر وأنظر لابُدّ أن ألتزم بما أوصلني اليه عقلي وديني وأخلاقي، أقول هذه الطريقة كانت طريقة غير صحيحة.

في بعض الحالات الآن هناك مشاهدات وأنتم تسمعون، يأتي رجل مثلاً يريد أن يوصي بوصايا، نعم.. الوصيّة من المستحبّات المؤكّدة لكن عندما تقرأ بعض الوصايا وهو رجلٌ حيّ لا يزال أو امرأة حيّة تجد أنّ أشياء كثيرة في الوصيّة هو يستطيع أن يؤدّيها، مثلاً يدفع الورثة عنّي كذا مبلغ لردّ المظالم، على الورثة أن يعقّوا عنّي، لماذا لا تدفعها في حياتك؟!! هذه الأمور ليست لها علاقة بالورثة، تارةً أنت ذَهَبَ عمرُك في وضعٍ لم تستطع أن تكمل صيامك –مثلاً- فلا بأس أن توصي، أو العمل ببعض أعمال البرّ بعد موتك، أمّا أنت في حياتك وهذا الأمر أنت كنت تشهد أنّ بعض الوصايا لم يعمل بها الأبناء فمردودها عليك، لماذا لا تعمل بها أنت ما دمت حيّاً؟ ما هي قيمة العقيقة أو الأضحية حتّى تتكلّف وتوصي بها!! افعلها أنت!! ما هو الضير في عمل بعض المبرّات!! افعلها أنت!! لماذا تؤخّر ذلك الى ما بعد الموت؟! وأنت عندما نسألك، تقول: إنّ فلاناً قد أوصى لكنّ الورثة لم يكونوا بارّين –مثلاً- بأبيهم!!

نحن الآن عندما نمرّ في حياتنا اليوميّة نجد أنّ هذا الإنسان لم يكن عفيفاً، وإنّما كان يسرق وكان يتجاوز وكان يكذب ثمّ انتهت عاقبته الى ما لا يعلمه إلّا الله تعالى، لماذا لا نعتبر ونفكّر؟! ونرى أنّ المصير هو المصير؟! قطعاً أنّ مصيرنا الى موت شئنا أم أبينا اليوم أو غداً، ولعلّ الإنسان إذا لم يذكر الموت يقسو قلبُه، وهناك بعض الأسر بمجرّد أن يُذكر الموت تنقلب حياة الأسرة باعتبار أنّهم قد تشاءموا من ذكر الموت وهذا من الأمر العجيب الغريب، إنّ ذكر الموت أمرٌ يقينيّ بل الموت أمرٌ يقينيّ، والإنسان إذا ذكر الموت لغرض أن يعظ نفسه حتّى ينتبه أنّ مصيره بالنتيجة مصيرُ مَنْ كان مِنْ قبله، ذكر الموت ليس فيه تشاؤم ذكرُ الموت فيه تواضع وفيه تهذيب الى النفس، (إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد...) ما هو جلاؤها؟ (...وجلاؤها قراءة القرآن وذكر الموت)، هذه العظة والاعتبار لابُدّ أن ينعكس علينا سلباً، نذهب لقراءة الفاتحة -أطال الله أعمار الجميع- تجده شابّاً توفّي بالأمراض التي نسأل الله تعالى أن يكفينا وإيّاكم شرّها، وإذا تلتفت الكلّ يقول: شابّ وجاءه الموت!! ونحن نعتقد وأنت تعتقد ومتيقّن أنّ الموت لا يعرف عمراً من الأعمار، وعلى الإنسان أن يتهيّأ دائماً الى أنّه سيموت بعد لحظة لأنّه لا يعلم، هذا الاستعداد النفسيّ يجعل الإنسان دائماً في حالةٍ من السكينة والارتياح، أميرُ المؤمنين(عليه السلام) يقول: هذا خيرٌ جُمِع الخيرُ في ثلاث وهو يؤكّد ويقول: جُمِع الخيرُ كلّه، فهذه لحظة النظر الإنسان عليه أن يعتبر، إذا لم يعتبر يكون نظره هذا من باب السهو، رجلاً كان أو امرأة لا يفكّر بطريقة صحيحة، عقلُهُ أعطاه إجازةً مفتوحة هو كالساهي الذي لا يلتفت لما يجري من حوله.

ثمّ قال: (وكلّ سكوتٍ ليس فيه فكرة فهو غفلة)، وما أكثر سكوتنا!! نحن نسكت لكن هذا الصمت والسكوت ما هي انعكاساته الإيجابيّة علينا؟ تارةً الإنسان يتأمّل بمصير لابُدّ ملاقيه، يفكّر أنا ماذا جرحت -يعني ماذا عملت- ماذا جرحت؟ ما هي الأعمال التي قضيتها في سالف الزمان؟ ما هي اللّحظات التي كنت فيها بيني وبين ربّي ولم يطّلع عليّ أحد؟ ماذا فعلت؟ ماذا أسررت؟ ماذا أضمرت؟ يفكّر ثمّ يبدأ بعد ذلك أن يصحّح ما مضى ويشدّ عزمه على ما بقى إن كان خيراً، أمير المؤمنين يقول: هذا السكوت إذا لم تكن فيه فكرة وإذا لم تكن فيه حالة من حالة التطوّر لنفسه أيضاً فهو غفلة، والغفلة حقيقةً (لات حين مندم)، الإنسان إذا كان غافلاً فالموت لا يغفل عنه، مَنْ نام لم يُنَمْ عنه ومن غفل لم يُغفَلْ عنه.

أميرُ المؤمنين يقول هذا السكوت يعني إذا سكت الإنسان لابُدّ أن يفكّر، تكون فيه فكرة وهذه الفكرة تُعينه إمّا تصحيحاً لما مضى أو تقويةً لحالةٍ هو يريد أن يتداركها، وكم من فكرةٍ غيّرت حياة إنسانٍ الى الأبد نحو الأفضل، وأميرُ المؤمنين(عليه السلام) -كما قلنا- هو الناصح الشفيق علينا الذي يريد بنا خيراً ويسلك بنا مسالك الخير.

نأتي الى الثالث وهو الكلام وطبعاً لعلّ الكلام عندنا أكثر من الاعتبار وأكثر من السكوت، ومشكلتنا لعلّها تكون في الكلام و-كما قلنا سابقاً- أنّ اللّسان هو جارحة خطيرة عند الإنسان، وهذه الجارحة الخطيرة كأنّ بقيّة الأعضاء والجوارح تُخاطبه: رفقاً بنا، لأنّ الأعمال حصاد الألسن وهذا الكلام خطر، أن يُخرِجَ الإنسانُ من فيه كلاماً يكون خطيراً عليه فإمّا أن يرفعه الى مقام عالٍ أو يهبط به -والعياذ بالله- الى الحضيض، ماذا يقول أمير المؤمنين في ذلك؟ قال: (وكلّ كلامٍ ليس فيه ذكرٌ فهو لغو) وماذا أُمرنا عن اللّغو؟ (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) نحنُ أُمرنا أن نُعرض عن اللّغو، ما هو الذكر الذي أراده أميرُ المؤمنين(عليه السلام)؟! لاحظوا إخواني بعض الحالات نحن قد نفهمها بطريقةٍ ناقصة، مثلاً الإنسان يذكر الله تعالى، ما معنى أنّ الإنسان يذكر الله تعالى؟! صحيح عندما أقول: الله أكبر أو أقول سبحان الله أو أقول الحمد لله أو أقول لا إله إلّا الله فهذا كلّه من مصاديق الذكر، لكن ليس الذكر كلّه في هذه الطريقة فقط، الذكر -ذكرُ الله تبارك وتعالى- هو أن أعتقد دائماً أنّ الله تبارك وتعالى أمامي وأنّ الله تعالى يراقبني وأنّ الله تعالى يسدّدني والله تعالى معي، دائماً أجعل هذا الاعتقاد أمامي، فعندما أقول: "الله أكبر" أو أقول "الحمد لله" أنا أتكلّم بهذا الذكر عن إدراك كأنّ قلبي أُشرب حبّاً لله تعالى، فعندما أقول: "الحمد لله" لا أقولها فقط عبارة تكون على لساني، هذا الذكر والكلام أمير المؤمنين يجعله كلّه كلاماً وذكراً، مع أنّنا نتكلّم كثيراً لكن ليس في هذا "الحمد لله"، لكن نعم.. كلّ هذا الكلام يكون ذكراً لله إذا كان كلاماً وفق المباني والضوابط الشرعيّة، أنّ الإنسان ينصح أحداً نَعَمْ هذا ذكرٌ لله تعالى، أنّ الإنسان يمنع منكراً هذا فيه ذكرٌ لله تبارك وتعالى، أنّ الإنسان يشجّع على المعروف أيضاً هذا فيه ذكرٌ لله تعالى، فضلاً عن التزاماته الشرعيّة اليوميّة.

هذا الكلام إخواني نحن للأسف ابتُلينا بأنّ كلامنا قلّما يكون وفق المعطيات التي أرادها الله تعالى، دونك السوق واسمعْ كلام الناس، دونك المدارس واسمعْ كلام الطلبة، دونك المعمل واسمعْ كلام العامل، دونك الأُسر واسمعْ كلام بعض الآباء والأبناء، وهذا الكلام بالنتيجة هناك مقاطع ستُعاد علينا، لكن متى تُعاد؟ هذه ليست مقاطع الدنيا، تُعاد علينا وهي شاهدةٌ على ما بدر منّا، ولعلّ أصعب شيء –إخواني- أن نغفل عن الآخرة، وكلّما انغمسنا في الدنيا ابتعدنا عن الآخرة، هذا أمرٌ ليس من باب فاكهة القول، مشاغل الدنيا تُبعدنا عن الآخرة، وأقصد تلك المشاغل التي فيها حالة من التضادّ بين هذه الدنيا وبين ضرّتها الأخرى الآخرة، أمّا الدنيا التي هي جزءٌ من الآخرة بالعكس هذه عين الآخرة -كما ذكرنا سابقاً-، لكن هذا الكلام الذي نتكلّم به ينقسم واقعاً في داخلنا الى ثلاث، تارةً كلام خير وتارةً كلام سوء -والعياذ بالله- وتارةً كلام لا خير ولا سوء، ثلث من الكلام هو كلام خير عندما نقسمه، لكن الإنسان يستطيع أن يجعل كلامه كلّه خيراً ويستطيع أن يجعل كلامه كلّه شرّاً ويستطيع أن يجعل كلامه كلّه لغواً، في حالة كلام الشرّ هو من الخاسرين وفي حالة كلام اللّغو هو أيضاً من الخاسرين لكن في حالة كلام الخير هو من الرابحين، ولا أعتقد أنّ أحداً منّا لا يستطيع أن يميّز بين كلام الخير الذي ذكره أمير المؤمنين(عليه السلام) والذي منه الذكر وكلام الشرّ الذي هو غفلة أو لم يكن ذكراً وهو أيضاً غفلة.

أميرُ المؤمنين(عليه السلام) جعل الكلام بلا ذكر هو عبارة عن لغو، لاحظوا الكلمات المقابلة بدأناها بالسهو والغفلة واللغو في الكلام، والسهو والغفلة واللّغو كلّ هذه الأشياء هي من الرذائل، وكلّ ما قابلها من التفكّر وكلام الخير هي من الفضائل، أمير المؤمنين(عليه السلام) جمع مواطن الخير في هذه الأمور الثلاثة: الاعتبار والسكوت والذكر، ثمّ بماذا ذيّل أمير المؤمنين(عليه السلام) كلامه الشريف؟! قال: (فطوبى لمن فعل ذلك..) طوبى هي حالةٌ من المدح كقولنا: طوبى للمتّقين طوبى للورعين طوبى للذاكرين طوبى له من مقامٍ كريم، أميرُ المؤمنين(عليه السلام) في مقام أن يمدح من يفعل ذلك، ثمّ قال -التفتوا لهذا المقطع وهو نهاية الكلمة الموجزة- قال: (..وبكى على خطيئته وأمن الناسُ شرّه)، وهذا من العجائب أنّ هناك نوعاً من البشر لا يصدر منه إلّا الشرّ، وفعلاً إذا دخل المدينة كأنّه دخلها شرٌّ عظيم!! أميرُ المؤمنين(عليه السلام) يمدح من بكى على خطيئته، يقول: هذا ليس له شغل بالآخرين إلّا الخير أما مع نفسه فهو يبكي على خطيئته، ويلٌ لي لما فرّطت في جنب الله!! ويلٌ لي لما أسلفتُ في سابق الأيّام!! ويلٌ لي لما فعلت كذا وكذا وكذا..، حقيقةً الإنسانُ الذي يبكي على خطيئته الناسُ تأمن شرّه، لأنّه سيندم سيُطأطئ رأسه ولا يكون من الظالمين، أنت تعرف أنّ أغلب الناس ظَلَمَة، وأغلب الناس تنقد الظالم لكنّها تتقمّص شخصيّة الظالم، بمجرّد أن تسنح له فرصة ينقلب هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم الى ذئب، لماذا؟!! لأنّه لم يربِّ نفسه ولم يجعل نظره اعتباراً ولم يجعل هذا السكوت تفكّراً ولم يوطّن كلامه على خير وعلى ذكر، إنّما كلامه دائماً محضر سوء، وأعتقد أنتم تعاشرون الناس وتميّزون هناك شخص لا يحضر عنده إلّا السوء ولا يحضر عنده إلّا الشرّ، وكأنّه معجونٌ مع إبليس -والعياذ بالله-، وهناك آخر بالعكس لا يصدر منه إلّا الخير إن حضر سيكون محضره محضر خير، والناس تقصده لبرّه لعفوه لحنانه لأبوّته، وشتّان بين هذا وذاك، الإنسان الذي لا تأمن الناسُ شرّه ويلٌ له من عذاب الله تعالى، هذا الطغيان لاحظوا التاريخ يحدّثنا وأنا في غنىً عن أن أعرض قصصاً من هذه القصص لكنّ التاريخ يحدّثنا، والآن في مجتمعاتنا الكثير من هؤلاء، بمجرّد أن تسنح له فرصة يحاول أن يظلم وأن يضطهد وأن يفعل ما يُسخط الله سبحانه وتعالى...

إخواني هذا الكلام من أمير المؤمنين(عليه السلام) أشبه بكلام إقامة الصلاة، تارةً الانسان يصلّي وتارةً يُقيم الصلاة وهناك فرقٌ بين الأمرين، ما أكثر المصلّين!! لكن الإنسان عندما يُقيم الصلاة (الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) و (الصّلاة قربانُ كلّ تقيّ)، التقيّ يتقرّب الى الله ويقول: إنّي أصلّي، لاحظ المدلول (قربان كلّ تقيّ) يعني أنّ المتّقي يتقرّب بصلاته، الإنسان يُصلّي لكن هناك فرق أن يُقيم الصلاة، وهذه الصّلاة لو أقامها فهو قطعاً سيكون من مصاديق هذه النكات التي ذكرها أميرُ المؤمنين(عليه السلام)، إنسانٌ يصلّي ثمّ يكذب هذا إنسان لم يُقم الصّلاة، إنسانٌ يصلّي ويظلم هذا إنسان لم يُقم الصلاة، نَعَمْ.. هي حركاتٌ يؤدّيها لكن إقامة الصّلاة عندما يقول (إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين) أنّه يعي ما يقول، يلتفت الى أنّ الأمور كلّها بيد الله تبارك وتعالى، هذا فعلاً هو الآن يستعين بالله؟!! لا تجد إنساناً يستعين بالله على ظُلْم الآخرين قطعاً هذا الكلام متناقض، الذي يُقيم الصّلاة يفهم ما يقول، ولذلك إذا أردنا أن نربّي أبناءنا على كلّ فضيلةٍ لابدّ أن يلتزموا بإقامة الصّلاة، إذا أقاموا الصّلاة على منهجها الصحيح استقاموا، نعم.. أنت اجعلْ الفرد يُقيم الصلاة يُعطِك مجتمعاً آمناً من كلّ شرّ وسيتقوّم، فالصّلاة مقوّمة لنا كما نقوّم أجسادنا بالصّلاة حين نقف فالصّلاة تقوّم سلوكنا، وهذا الكلام هو عين الصواب، قد يقرأ الإنسان ما يقوله أمير المؤمنين لكنّه لا يلتزم، وهذا الكلام على كلّ حال يحتاج الى أذنٍ واعية (وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ).

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل آذاننا آذاناً واعية، ويجعلنا من البكّائين على خطايانا ومن الذين يُؤمَنُ شرُّنا، ونسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لما يحبّ ويرضى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

المرفقات