لوحة ( هديرُ الدَّمْع , عند جُثمان الحُسَين )
وهي من أعمال الفنان حَسنْ حَمْزة شَاهِرْ , رُسِمَتْ سَنَة 2009 م , قياس 150×100 سم , لاشك ان كل ما حوته واقعة الطف من مشاهد , وما ضمته من مآسي ؛ فكلها صفحاتُ فاجعةٌ ان وُقِفَ مع كل صفحةٍ منها ؛ لشدى منها صَوتَ الحُزْن , وعبيرَهُ الجريْح , وصَوتُ الآلامْ التي ستبقى تدوي في أرجاء التاريخ وأجيال البشرية حتى قيام الساعة .
ومن تلك المشاهد المؤلمة التي عكست على اصحابها الماً لا يُوازيه اَلَم , وحال يندى له الفؤادَ دماً , لحْظة وقوف العقيلة زينب عليها السلام على جُثمانِ أخيها الحُسَين عليه السلام , وهو مُسَجَّى ومُخضَّبٌ بالدِّمَاءِ على لهيبِ الرَّمْضَاءِ , مُغَبَّرٌ بترابها , ومُزِّقَ جسده الشريف بطعون السهام والرماح , فلا يمكن ان يُتَصَوَّرُ في الخيال , ولا يُدرك العقل والفكر مَدَى الحُزْن والألم الذي عصف بقلب ووجدان العقيلة زينب سلام الله عليها ؛ وهي تنظر بعينها المُغْرقة بالدُّمُوع , لتكون شلَّالَ حَسْرة وأسَى لعله يغسِلُ دِمَاء اخيها الذي إلْتَحَفَهُ الصَّمْت , ولا يُجِيْبَ نِدَاهَا , ولا يَعُود ليُطْفِئَ حُرْقة فُؤادِهَا . فأخذت تُحَاوِرُهُ وتشْكِيْ اِليهِ حالُهَا بهديرِ دمْعِها الزّاكي , وعبيرُهُ الظامي .
لَـــــمْ اَنْسَ زيْنَب بَعْدَ الْخِدْر حَاسِرة تُبْدِيْ النِّيــَاحَة اَلْحـَـــــاناً فَاَلْحَـــــانا
مَسْجُـــورَة القَـــلْب إلَّا أنَّ أعْيُنهَــــا كالْمُعْصِرَاتِ تَصُبُّ الدَّمْـــعَ عُقْيَانا
تَدْعُـــوْ اَبـَـاهَــــا أميْرَ المُؤمِنيْـنَ ألَا يَاوَالِــــدِيْ حَكمْــــت فِيْنَـــا رَعَايَانا
وَغَـــابَ عَنَّا المُحَامِي وَالكَفِيلُ فَمَـنْ يَحْــمِيْ حِمَـــانَا وَمَنْ يُؤْوِي يَتَامَانَا
أِنْ عَسْعَسَ اللَّيلُ وأرَى بَذْل أوَجهنــا وإنْ تَنَفسَ وَجْـــــه الصُّبْح اَبْــــدَانا
نَدْعُـوْ فَلَا أحَدٌ يَصْبُـــو لِـــــدَعْوَتِنَــا وَإنْ شَكَوْنَا فَـــلَا يُصْغَى لِشَكْــوَانا
قُـــــمْ يَاعَلِيُّ فَمَــــا هذا القُعُوْدُ وَمَــا عَهْدِي تَغُضُّ عَــلى الْأقذَاءِ اَجْفَانا
وتَـنْـثَـنِـــي تَارَةً تَدْعُــــوْ مَشَـــائِخُها مِنْ شَيْبَةِ الْحَمْـــدِ أشْيَاخـــاً وَشبَّانا
قُوْمُواغِضَاباً مِنَ الأجْدَاثِ وَانْتَدِبُوا وَاسْتَنْفِذُوا مِنْ يَدِ البَــلْوَى بَقَـــايَانا
وَيْــلُ الفُرَات أبَـــــادَ اللهُ غَـــــــامِرَه وَرَدَّ وَارِدَهُ بِالْــــرَّغْـــــمِ لهْفـــانا
لَمْ يُشْــــفِ حَـــرَّ غَلِيل السِّبْط بَارِدَهُ حَتَّى قَضَى فيْ سَبِيْلِ اللهِ عَطْشَانا
لَمْ يُذْبَح الْكَبْشُ حَتَّى يُرَوَّى مِنْ ظَمأ وَيُذْبَحُ إبْــنَ رَسُوْلُ اللهِ ظَمْـــــآنا!
فتناول الفنان هذا الموقف المؤثر , بتعبير صاغه الخيال والإلهام الفني , على شكل حوار بين دمع السيدة زينب وأخيها الشهيد عليهما السلام , فصور في وسط اللوحة السيدة زينب وهي جاثية عند جثمان أخيها , واُظهِرَت بمَظْهَرِ الوقار والسكينة مع وضع يدها على وجهها , مايشيرُ انها تذرف الدمع الذي يندب سيد الشهداء , ويدها الاخرى على جسده الشريف حناناً وإنكساراً وكذلك خِطَاباً , وصُوِّرَ في أعلى اللوحة صُورة الامام الحسين – التي أعتادها وألِفَهَا الناس – وحَوْلهَا ملائكةٌ للكناية (( لِرُوحه الطاهرة)) التي ترتقي بها الى السماء لجوار الرفيق الأعلى سبحانه وتعالى , وهي تنظر حال اُخته زينب عند جثمانه بعينينِ مِلؤُها الحُزنُ والدَّمْعُ, لكونه لايستطيعُ مُخاطبتها ومُواسَاتها , كما يظهر أن الملائكة التي اِلْتفَّت حولَ روحه الطاهرة هي الأخْرى تَجْهَشُ بالبُكَاءِ لِهَوْل الفاجعة ، وحال العقيلة زينب عليها السلام في تلك اللحظات المُؤلِمَة والعَصِيْبة . وكذلك الغضب الإلهي الذي جسده الرسام والفنان في اَلْوانِ السُّحُب الدموي , والألْوَانُ الأخْرَى للكناية على أنَّ هذا الحدث الجلل له وقعتهُ ووطأتهُ الكبيرة عند الله سبحانه وتعالى . ثم ما يلبث الناظر مع هذا المضمُون المُرَاد مِنْ ذلك العمل الفني حتى ويسترسل مع بريق تلاحم التفاصيل والتقنية الفنية التي جسدها الفنان في أرضيَّةِ اللوحة من القتلى المُتناثرة جثثهم في كلِّ مكان , وتَنمُّ هذه الجُثَث لِقَتْلى كِلَا الطرَفَين لشهداء اصْحَابِ الحُسين عليه السلآم , ولقتلى الأعداء ؛ لِيُوضَّحُ من خلالِ هذا المشهد المُؤثر؛ على أنَّ أصحاب ألأِمام الحُسين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين , على قِلَّةِ عددهم وبساطة أمكانياتهم إلَّا أنَّهُم أحدثوا هذا النكال والتأثير في صفوف جيش ألأعداء المجرمين , وذلك للأشارة أيضاً الى دور البطولة والبسالة والفداء , والإقدَامْ الذي جَسَّدهِ هؤلاء ألأصحاب ألأبرار في واقعةِ الطّف ألأليمة .
كما يُلاحظ خلوِّ الارض المُحيطة بِجَسَدِ الإمام منْ جُثث القتلى , والتركيز على أطرافها بقتلى ألأعداء , وذلك للأشارة الى رُعْب ألأعداء وفِرَارَهُم من صَولة ألأمام الحسين عليه السلام عندما نزل بميدان القتال , وكل من أقترب منه فمصيرُهُ بطشِ سيفهِ البتَّار , وضَرْبَتهِ التي لا تُرَدُّ ولا تُصَدُّ , ومنهم من أقدَمَ على نِزَالِهِ ثم مايلبث أن يتملكه الرُّعْب لِيُعاودَ الفِرَارَ منهُ قبل أن يَصِلَهُ , كما أُشِيرَ لذلك المعنى من خلال جُثة الجُندي – من جيش المجرمين – في أسفلِ يسارِ اللّوحة , وأِظهار ضربة سيفُ الأِمام الحُسين عليه السلام التي أِخْتَرقَتْ دِرْعَهُ لقوتها من جهةِ ظهْرهِ , كما يُفصِحُ الموقف عن المهارة الكبرى لفنون القِتال التي كان يمتلكُها الأِمامُ الحُسين عليه السلام , ولم يتمكَّن منهُ الجُبناء إلَّا بِرَمْيِّهِ بِوابِلٍ من السِّهامِ التي لا تقتضي مُواجَهَتهِ بِالنِّزالِ والأِقتِرابَ مِنْهُ, وهذا ما يتجلى من خِلالِ السِّهام التي مَلَأتْ جَسَدهُ الشريف .
وعند التأمُّل في أُفُقِ اللوحة البعيد , تظهَرُ صُوَرُ الخِيَام وهي تحْتَرِقُ وأخذ السبايا من النساء والأطفال , للأشارة إلى أن الجريمة التي أرتكبها أعداء الله لم تقتصر على سَفكِ دم سيِّد الشهداء ومن معهُ من أهل بيته وصحبه فحسب ؛ بل تعدَّى الى ترويع الأطفال والنساء بحرقِ الخيامِ عليهم ومِنْ ثُمَّ سَوقهُم اُسَارَى , لِبدايَةٍ اُخْرَى في طريقِ ألآلام والأحزان التي سارَ فيها مَنْ بقيَ من أهل البيت عليهم السلام بعد هذه الواقعه الأليمة .
فكانت هذه اللوحة فناً إبداعياً بالتصوير والتعبير , واُفُق الخيال الذي صَاغَ هذه الأِيْحَاءَات الرُّوحيَّة بِأِظهَارِ أجواء الْحُزْن التي يتَخَلَّلهَا هديْر الدَّمْع المَسْكُوْب , وَنحِيْب الفُؤاد المَنْكُوْب.
بقلم الفنان / حسن حمزة
اترك تعليق