شهد العالم تحوّلات كبيرة في منظمومته القيمية (Value System) مع الحداثة وما بعد الحداثة، فالحداثة همّشت الدين وما وراء المادة، وما بعد الحداثة ألغت الاعتبارات الدينية والغيبية، ولا وجود عندها لحقيقة واحدة، إنّما حقائق متعدّدة يصوغها الإنسان نفسه، وفق منظومة لا تخضع إلى معايير ثابتة من احترام الثقافات والديانات، مؤطّرة في حدود النفعية، جُلّ اهتماماتها مادّية مطلقة.[1]
وأحدث الانفتاح عبر وسائــط الإعلام الجديد (New Media) جملة من التحوّلات على مستوى المعايير الاجتماعية (Social Norms)، والأنماط الحياتية، إضافةً إلى تغييرات محسوسة في بنية العلاقات الفردية والاجتماعية؛ ممّا جعلها إحدى عوامل صياغة الوعي الفردي والجمعي للمجتمع المعاصر (Contemporary Society).
وتُطرح إشكالية منظومة القيم (Value System) كوسيلة لتعزيز القيم وترقيتها في الممارسة وعلى مستوى البُنية الاجتماعية (Social Structure)؛ للحفاظ وصون وحدة المجتمع من الصراعات والتفكّكات، وتظهر قوة القيمة (Value) في التفاعل مع الآخر وما تطرحه، والتغييرات على مستوى المجتمعات والشعوب، التي تعيش فراغاً نتج عنه ثقافات متعدّدة متباينة، هدّدت النسيج الاجتماعي، واتّجهت به نحو العدمية العابثة؛ فانتشر العنف، والإرهاب، والتطرّف، والفوضى الخلّاقة، والتعصّب.
وبات من الضروري اليوم التوافق على منظومة قيمية حضارية عالمية، بعد أن طُرحت القيم بإشكاليات ومباحث متعدّدة؛ لتشكّل مرجعية ثابتة ومرشدة للحراك الإنساني والتعايش السلمي.
فما هي المنظومة القيمية القادرة على معالجة إشكاليات المرحلة دون المسّ بالخصوصيات العقدية والثقافية؟
شكّلت المنظومة القيمية الحسينية بامتدادها الزماني والمكاني، منظومة متكاملة محكمة النسيج، مترابطة الحلقات، تقوم على أركان ثابتة من القرآن الكريم، وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام، تجسّدت تطبيقات عملية في سلوك الإنسان، ممّا جعلها تُمثّل النموذج الأمثل كمنتج معرفي، وعقدي حضاري متجذّر في الإرث الثقافي الإسلامي، فهي ليست مجرّد حادثة تاريخية، بل نهضة حيّة متجدّدة تعبِّئ نسقاً من القيّم للأجيال عبر العصور.
أركان المنظومة القيمية الحسينية
المنظومة القيمية الحسينية منظومة عقدية تشريعية مشبّعة بالإيمان المرتبط بالله تعالى، المتمثّل بطاعته وإقامة حدوده، من أجل الإنسان الذي استخلفه واستعمره في الأرض، وقد تجلّى البعد الديني في عدد من المؤشّرات:
المؤشر الأوّل: الارتباط بالله تعالى، المتمثّل بطاعة الله وإقامة حدوده
حدّد الإمام الحسين عليه السلام أسباب حراكه: «مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِراً مُسْتَحِلاً لِحرَمِ الله، نَاكِثًا لِعَهْدِ الله، مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ الله، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ الله بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ وَلا قَوْلٍ، كَانَ حَقّاً عَلَى الله أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلَهُ، أَلا وَإِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الْفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالْفَيْءِ، وَأَحَلُّوا حَرَامَ الله، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَأَنَا أَحَقُّ مَن غيّر»[2].
هذا النصّ خطابٌ عام وليس خاصاً بعهده، بل في كلّ زمان ومكان: «مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً»، وحدّد أفعال الحاكم الظالم وأعوانه:
يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان.
أظهروا الفساد.
وعطّلوا الحدود، أي: القوانين.
واستأثروا بالفيء، بما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس.
المؤشّر الثاني: العبادة
أعطَت المظاهر العبادية والروحية دلالات واضحة لدرجة الإيمان والارتباط المطلق بالله، وصلت إلى حدّ العرفان والعشق، وتجلّت بوضوح من خلال:
1 ـ الصلاة: إنّ إقامة الصلاة في كربلاء، تُعطي دلالة واضحة على الإيمان والصلاح والحرص على حقن الدماء على أكمل وجه، حيث تجسّد الإصلاح فيها؛ لتنهى عن الفحشاء والمنكر بكلّ أشكالها، فقد عمل الإمام الحسين عليه السلام ليلة العاشر من المحرم على تأجيل القتال عندما بدأ جيش العدو يزحف باتّجاه معسكره، فأرسل أخاه العباس بن علي عليهما السلام، ليتفاوض مع القوم حتى يُرجئوا القتال إلى الغد، فقد قال لأخيه العباس عليه السلام: «ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى الغُدوة وتدفعهم عنّا العشيّة؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة»[3]. كما صلّى صلاة الخوف قصراً يوم العاشر، وسهام الأعداء تهوي عليه بالرغم من استمهاله إيّاهم[4].
2 ـ القرآن الناطق: كان الإمام الحسين عليه السلام ومنذ بداية تحرّكه يكثر قراءة القرآن، ويجادل ويحاجج به، وعمل على تشخيص مصاديق بشرية تنطبق عليها آياته.
3 ـ المناجاة: بقي الإمام الحسين عليه السلام يلهج لسانه بذكر الله والدعاء والاستغفار حتى لفَظَ آخر أنفاسه الكريمة، ومناجاته المستمرّة لم تنقطع في الرّخاء والشدّة إلى أن استُشهد، ولم يشغله ألم الجراح عنها حيث يقول: «اللّهم، أنت ثقتي في كلّ كربٍ، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقةٌ وعدّة، كم من همٍّ يضعُفُ فيه الفؤاد، وتقلُّ فيه الحيلةُ، ويخذُلُ فيه الصديقُ، ويشمتُ فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك؛ رغبةً منِّي إليك عمَّن سواك، ففرّجتَه وكشفتَه، وأنت وليُّ كلّ نعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومنتهى كلّ رغبةٍ»[5].
المؤشر الثالث: العدل ـ القسط
ركزّ الإمام الحسين عليه السلام على دعم سيادة القانون لتحقيق العدالة [6]، وذكر معايير جعلها مقياساً لقيمة الحاكم، ففي جوابه عليه السلام لأهل الكوفة: «فلعمري، ما الإمامُ إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله»[7].
«العامل بالكتاب»: فهو يعمل وفق ما جاء في كتاب الله عز وجل، أوامره ونواهيه.
«الآخذ بالقسط»: القسط: هو إقامة العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
«الحابس نفسه على ذات الله»: القادر على ضبط نوازعه الذاتية، وربطها بمشيئة الله.
المؤشّر الرابع: الإصلاح
حدّد الإمام عليه السلام الهدف من خروجه، إصلاح المجتمع في أُمّة جدّه، بقوله: «وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمَّة جَدِّي صلى الله عليه وآله، أُريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر، وأسيرَ بِسيرَةِ جَدِّي وأبي علي بن أبي طَالِب، فمَن قبلني بقبول الحق فالله أوْلى بالحق، ومَن ردّ عليّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق»[8].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل الجوانب:
الاجتماعية: لمحاربة الفساد والظلم وتحقيق الأمن الاجتماعي.
الاقتصادية: الفيء الذي يُعبّر عن ميزانية الدولة الإسلامية.
الحقوقية: إقامة القضاء ومعرفة الحقوق.
الإرشادية الإصلاحية للعودة إلى الدين: فهم أحلُّوا حرام الله، وحرَّمُوا حلاله.
أمّا الوسيلة التي سيعتمدها:
السلم.
الصبر إلى أن يقضي الله بينه وبينهم.
والمعيار الأساسي: الحق، «فمَن قبلني بقبول الحق فالله أوْلى بالحق».
جاءت النهضة الحسينية كضرورة حتمية، في وقت انحرف الحكم الأُموي بالرسالة، فعمل الإمام الحسين عليه السلام على إعادة التوجيه إلى الخط المحمدي بافتعال صدمة قوية تقوم على تنبيهه من الغفلة، وجعل الشهادة وسيلةً لتركيز مفهوم الامتداد والبقاء الفعلي للرسالة المحمدية، وكانت تطبيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وآله: «حسين منّي وأنا من حسين»[9].
شهدت حادثة كربلاء اهتماماً من قبل كبار المفكّرين والعلماء والأُدباء والشعراء والمؤرِّخين، فلا تكاد تجد مؤرِّخاً يهتمّ بالتاريخ الإسلامي أهمل فاجعة كربلاء، كما تناولها العديد من الباحثين الغربيين؛ لتأثيرها المباشر على (الثورات الشعبية)، بعد أن رسّخت مبادئ أساسية تُعنى بالإنسانية في كلّ زمان ومكان، من التوابين وصولاً إلى الثورة الإسلامية المعاصرة وحركات التحرّر التي تزايد نشاطها في العقود الأخيرة، وجاء كلّ ما عندها من كربلاء، مشحذة الهمم وموقظة الضمائر التي خنقها الإرهاب، بمناقبية عالية، وروحٍ نضالية، من أجل الحرية والكرامة، تحت شعار: (كلّ أرضٍ كربلاء، وكلّ يومٍ عاشوراء)؛ لتتلاقى صيحات الحشد الشعبي: (هيهات منّا الذلة)، ويتحطّم جبروت الاستكبار الصهيوني، و ينهزم المشروع التكفيري الحاقد.
القيم الإنسانية الحضارية
حملت المنظومة الحسينية معطيات فكرية وأخلاقية، استهوت القلوب والضمائر الحرّة، في أمكنة وأزمنة مختلفة، بعيداً عن أي صبغة مذهبية أو دينية، «إنّ ثورة الحسين ليست صرخة اعتراضية على حالة تاريخية محدّدة، مكتفية بأهدافها ومكانها وزمانها... وليست ثورة حسينية شيعية حصرية وكفى... وليست ثورة إسلامية جامعة عامة وكفى... إنّها ثورة إنسانية شاملة مطلقة، تعني كلّية الإنسان، جوهراً وروحاً وقيماً، كياناً وكينونةً في كلّ آنٍ ومكانٍ، إنّها ثورة ترسم هداية الطريق البشري في منطلقاته وأبعاده مثالاً عالمياً للأزمنة والأجيال، هكذا الدعوات والرسالات، بالتضحية تنتصر وبالشهادة تنتشر»[10].
استمدّ الحراك الحسيني بُعده الزمني بعنصري الاستمرار والتجدّد؛ لما حواه من قيم عالية منذ لحظة وقوعه، فهو نهضة مستمرّة في كلّ مكان تُنتهك فيه الحقوق وتُهدر القيم، فهو مبعث المعرفة في إطار حركة المجتمع، ومحرّك الأفراد والجماعات، من خلال الوعي بمفهوم الحرية والظلم والعدوان والمقاومة، والمدخل الصحيح لفهم كيفية مواجهة الاستبداد والإرهاب، ومسعى الفرد الواعي بذاته وبالآخر، وهذا ما أعطاه صبغته العالمية لحركات ثورية متعدّدة، كتجربة غاندي الذي يقول: «تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر»[11]. ويخاطب شعب الهند قائلاً: «على الهند إذا أرادت أن تنتصر، أن تقتدي بالإمام الحسين»[12].
و(ماوتسي تونغ) زعيم الثورة الصينية خاطب الرئيس ياسر عرفات بقوله: «عندكم تجربة ثورية قائدها الحسين وهي تجربة إنسانية فذّة، وتأتون إلينا لتأخذوا التجارب»[13].
والقائد الفيتنامي (هو شي منه ồ Chí Minh )، وهو يخاطب جنوده: «وأنتم في خنادقكم انظروا إلى ذلك الرجل الشرقي، الحسين العظيم، الذي زلزل الأرض تحت أقدام الطغاة»[14].
كذلك الحال لسليمان كتاني وهو يقول: «أفتخر بالإشارة إليه، أحرز الجائزة الأُولى في مضمار التأليف عن الإمام الحسين عليه السلام، ليس لأنّه انخط بحرف من حروفي الأدبية؛ بل لأنّه ازدان بلون الصدق المطرّز بالإمام الحسين عليه السلام، عنوان الكتاب (الإمام الحسين في حلة البرفير)، والبرفير أو الأرجوان، هو الأحمر الزاهي الذي تضرّجت به جبّة الحسين عليه السلام، وهو يخوض غُمار المعمعة الوسيعة التي نقلته من خشبةٍ حزينة رُسمت لمسرح كربلائي، إلى امتداد ملحميٍّ يحيى فيه أبطال الملاحم، من دون أن تمسّهم لا هفوات المكان ولا لهوات الزمان، بل تنشرهم إلى علاء أُبّهة الفضاء وصفوة الضياء»[15]. امتلكت النهضة الحسينية قدرةً على الاستقطاب الجماهيريّ وقوّة الجذب في الخطاب العاشورائيّ لما تحمله من قيم.
المؤشر الأوّل: النزعة الإنسانية
إنّها ثورة الإيمان من أجل الإنسان، حركة بعيدة عن القومية والعنصرية، فهو الذي صبغ معسكر الإمام الحسين عليه السلام؛ إذ شارك في كربلاء مجموعة متنوّعة في مذاهبها وأعراقها، من تنوّع ديني ومذهبي وقومي، وتحطّمت فوارق الطبقات الاجتماعية معه، الحر والعبد. وقف (جون بن حويّ النّوبي) ـ المعروف بـ(جون مولى أبي ذر) ـ وهو عبد أسود اللون، أمام الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه في القتال، فلمّا استُشهد نظر إليه الإمام الحسين عليه السلام، وقال: «اللّهم، بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله»[16].
وكان هناك تكاملٌ في الأدوار والمهمّات: الطفل، الشيخ، الشاب، والمرأة، شركاء في النهضة الحسينية ومسيرة الحركة الإصلاحية، وتُمثّل السيّدة زينب سلام الله عليها نموذجاً للمرأة المسلمة ودورها في الحراك السياسي الاجتماعي، خاصّةً وأنّه من خلالها استمرّت حركة الإمام الحسين عليه السلام إلى ما بعد العاشر من محرم، تردّد صدى كلماتها على مدى الزمن.
المؤشّر الثاني: نبذ العنف ومنع سفك الدماء
أكّد الإسلام على مسألة السلم والسلام، والقيم الناظمة للعلاقات الاجتماعية في مجال تحقيق الأمن النفسي، ودعا للتعافي والتصالح والعلاقة القائمة على الاحترام المتبادل والمحبّة والوئام والثقة؛ لذلك حرص الإمام الحسين عليه السلام على حقن الدماء، وظهر ذلك من خلال:
1 ـ خروجه من المدينة ومكة كي لا تُستباح حرمتهما، وكان يقول لمن طلب منه الالتجاء إلى مكة: «إنّ أبي حدّثني أنّ لها كبشاً به تُستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش»[17].
2 ـ وقال لعبد الله بن الزبير: «يا بن الزبير، لأن أُدفن بشاطئ الفرات أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة»[18].
ورفض الإمام الحسين عليه السلام البدء بالقتال في أكثر من مكان:
في طريقه إلى كربلاء، كان قوله عليه السلام: «ما كنت لأبدأهم بالقتال»[19].
عندما التقى بأحد الألوية وكانوا عطاشى مع خيولهم، أمر أتباعه بسقي الجيش والخيول، وقال لهم: «اسقوا القوم وارووهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»[20]، سقى الإمام الحسين عليه السلام بنفسه ابن طعان المحاربي[21].
وقف شمر أمام معسكر الحسين عليه السلام في عاشوراء وبدأ يكيل السباب والشتم للإمام عليه السلام، فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فقال له الإمام عليه السلام: «لا ترمِه؛ فإنّي أكره أن أبدأهم»[22].
3 ـ إقامة الصلاة في عاشوراء.
المؤشّر الثالث: الحرّية
الحرية ذات تأصيل فقهي وعقدي في الإسلام، تظهر جلياً في العلاقة التكاملية التي تربط مسألتي التوحيد والحرية، فالحرية وعدم إهدار الكرامة من القيمّ العليا اللتين تستحقّان السعي إليهما، وإن كانت التضحية من أجلهما بالنفس.
رفض الإمام الحسين عليه السلام حياة الذلّ قائلاً: «ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذّلة»[23]. وقال عليه السلام: «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد»[24].
كما طلب من أعدائه أن يعيشوا أحراراً بقوله: «إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم»[25].
فتح الحراك الحسيني آفاقاً جديدة في فهم حقوق وواجبات الفرد داخل الدولة؛ إذ برز فيها عدم فرض قيود على الآخرين، ممّا يُتيح تحوّل الأفراد والمجموعات لمزيد من التمدّن ويؤصّل من قيمة الحرية.
أرادها نهضة برضى الناس وقناعتهم، دون فرض أو إكراه، ثمّ فهي من أجل الناس، وتحقيق مصالحهم الدينية والدنيوية، فبالرغم من سلطته الزمنية والروحية، كان يحثّ الناس على المشاركة السياسية والانتقاد، ويشجعهم على الاعتراض الذي ينطلق من أساس الحق بشرطيه؛ ليكون له الأثر البالغ:
الأوّل: الإصلاح.
الثاني: حسن التشخيص.
فقد تجسّد ذلك على أرض الواقع بمواقف أبرزها:
1 ـ رفض التوريث السياسي، وعدم الاعتراف بشرعية يزيد بن معاوية في الخلافة.
2 ـ المشاركة في القرار السياسي، فقد طلب أهل العراق من خلال رسائلهم له، وقد قصدهم بناءً عليها.
3 ـ ترك حرية الاختيار لأصحابه أكثر من مرّة، مثلاً عندما سمع باستشهاد مسلم قال عليه السلام: «مَن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج»[26]. وفي ليلة عاشوراء، قال عليه السلام: «وإنّي قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم مني ذِمام... فإنّ القوم يطلبونني»[27].
المؤشّر الرابع: الحوار
اعتمد الإمام الحسين عليه السلام الحوار والمنطق والحجّة والنصيحة، كأداة سلمية لعلاقته مع الآخر، في مواقف عدّة، منها:
موقفه مع رجال السلطة الأُموية، كخطاب الإمام الحسين عليه السلام إلى والي المدينة: «إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وبنا فتح الله، وبنا ختم الله، ويزيد رجلٌ فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة»[28].
التذكير بالكتب المرسلة والعهود التي قُطعت له بالنصرة، منها: رسائل أهل الكوفة ورسلهم، حتى أنّ الإمام احتجّ بها عندما واجه الحر بن يزيد الرياحي وعمر بن سعد عندما سألاه عن سرّ مجيئه إلى العراق، فقال: «كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم»[29].
طلب من أصحابه التزام الحوار، كحال العباس عليه السلام وإخوته عندما ناداهم الشمر قبل المعركة، فقال لهم عليه السلام: «أجيبوه وإن كان فاسقاً»[30].
وَعَظهم قبل بدء المعركة: «أيّها الناس، اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعِظكم بما يجب لكم عليّ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدَّقتم قولي وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر . . . فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ[31]، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّـهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ[32]»[33].
تعريف الآخرين بنفسه: «أمّا بعد، فانسبوني فانظروا مَن أنا؟! ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيّكم صلى الله عليه وآله، وابن وصيّه، وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء به من عند ربِّه؟! أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيّار ذو الجناحين عمّي؟ أو لم يبلغُكم قولٌ مستفيضٌ فيكم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟! فإنْ صدّقتموني بما أقول ـ وهو الحقّ ـ فو الله، ما تعمّدت كذباً مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به مَن اختلقه، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إن سألتموه عن ذلك أخبركم... أفما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟!»[34].
سعى الإمام عليه السلام على تأكيد القيم الإنسانية من خلال الحوار واحترام الآخر، وتعزيز قيم التسامح والوسطية والاعتدال، وتعميق التفاهم ومعالجة الاختلافات بأُسلوبٍ سلمي ينشر المحبة، ويؤمن بالحقّ، ويعترف بالآخر ولا يلغيه، وتوضيح المواقف وكشف الشبهات لتأليف القلوب.
المؤشّر الخامس: الرحمة
عمل الإمام عليه السلام على ترسيخ مبدأ الرحمة حتى وإن اتّضحت جلياً نوايا الآخر في الاعتداء، وتجلّت هذه الصفة في طريقه إلى كربلاء، عندما التقى بأحد ألوية جيش ابن زياد، وكانوا ألف مقاتل مع خيولهم، وكانوا عطاشى، فأمر أتباعه بسقي الجيش والخيل، كما ذكرناه سابقاً.
كان الإمام الحسين عليه السلام يُشفق على أعدائه، ولَهِدايةُ واحدٍ منهم أحبّ إليه من أن يموت على يديه، وكان يخاف عليهم من جرأتهم عليه وإقدامهم على قتله، فقد وقف أحدهم على الحسين عليه السلام، فقال عليه السلام: «معنا أنت أم علينا؟ فقلت: يا بن رسول الله، لا معك ولا عليك، تركت أهلي ووِلدي، أخاف عليهم من ابن زياد. فقال الحسين عليه السلام: فولِّ هرباً حتى لا ترى لنا مقتولاً، فوالذي نفس محمّدٍ بيده، لا يرى مقتلَنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلّا أدخله الله النار»[35].
وكذلك قوله لعبيد الله بن الحر الذي فرّ من الكوفة حتى لا يلتقي بالحسين عليه السلام، إلّا أنّه التقى به في الطريق، طلب منه الإمام عليه السلام نصرته والانضمام إليه، لكنّه اعتذر، فقال له الحسين عليه السلام: «فإن لم تنصرنا فاتّقِ الله أن تكون ممَّن يقاتلنا، والله، لا يسمع واعيتنا أحدٌ ثمّ لا ينصرنا إلّا هلك»[36].
وحرص الإمام الحسين عليه السلام على صيانة المرأة في كربلاء، منها حين أرجع أُمّ وهب حينما أرادت أن تقاتل، وأُم عمر بن جنادة بعد أن أصابت رجلين[37].
كما عمل الإمام على مراعاة مشاعر الأُمومة، فقد رفض السماح لعمر بن جنادة بالقتال بعد أن استُشهد أبوه، إلى أن علم أنّ أُمّه هي التي أذنت له ودفعته للقتال.
إنّ لجم القوّة والتسلّط لدى الفرد، والتفكير بطريقة متعايشة محبّة متفتّحة على الآخرين، يدعو لمزيد من تشذيب سلوكياتنا نحو الحقوق والواجبات التي تؤطّر حياتنا، وينطوي على صناعة وتأصيل وعي متزايد، يشكّل خلفية ثقافية ناهضة تقبل على قراءة ما يتبنّاه الآخر.
إنّ تعزيز التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرّية الفكر والضمير والمعتقد، يدفع إلى الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنّما هو واجب سياسي وقانوني أيضاً، وهو الفضيلة التي تُسهّل قيام السلام، ويُسهم في إحلال ثقافة السلام عن ثقافة الحرب[38].
بيد أنّه لا يجوز أن يُفهم هذا التسامح الإنساني ـ الذي جعله الإسلام أساساً راسخاً لعلاقة المسلم مع غير المسلم ـ على أنّه انفلات أو استعداد للذوبان في أيّ كيان من الكيانات التي لا تتّفق مع جوهر هذا الدين، فهذا التسامح لا يلغي الفارق والاختلاف.
الوفـاء بالعهـود والمواثيق
السلم والتعايش والمحبّة قيمة، كذلك الحال بالنسبة لاحترام العهود والمواثيق المبرمة مع العدو أيضاً، فالإمام الحسين عليه السلام في عهد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام ولم يقم بـأي تحرّك إلّا بعد أن نقض معاوية الصلح.
وفّى الإمام الحسين عليه السلام بعهده مع الحر بن يزيد الرياحي، على أن لا يعود إلى المدينة ولا يدخل الكوفة، وطلب منه الطرماح بن عدي أن ينزل قبيلة طي ليلتحق به عشرون ألف طائي، فقال له الإمام عليه السلام: «إنّه كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الانصراف»[39]. مع أنّ هذا الأمر قد أفقده عشرين ألف ناصر له وهو بحاجة إلى ناصر.
وكذلك الحال حصل مع الأشخاص الأربعة الذين حضروا مع الطرماح لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، فأقبل إليهم الحر بن يزيد قائلاً: «إنّ هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة لي سواء ممّن أقبل معك وأنا حابسهم أو رادّهم. قال له الإمام الحسين عليه السلام: لأمنعنّهم ممّا أمنع منه نفسي، إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني ألّا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد. فقال: أجل، لكن لم يأتوا معك. قال عليه السلام: هُم أصحابي وهم بمنزلة مَن جاء معي، فإن تممْت عليّ ما كان بيني وبينك وإلّا ناجزتك. قال [الراوي]: فكفَّ عنهم الحر»[40]. وطلب من أعدائه قبل المعركة الوفاء بالعهود والمواثيق والرسائل التي أُرسلت إليه.
عمل الإمام الحسين عليه السلام على ﺑﻨـﺎﺀ ﺍﻟﻘـﻴﻢ ﻓـﻲ ﻛـﻞّ ﻣﺠﺎﻻﺗﻬـﺎ ﺍﻟﻨﻔـﺴﻴﺔ ﻭﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴـﺔ ﻭﺍﻟﺨﻠﻘﻴـﺔ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮﻳـﺔ ﻭﺍﻟﺴﻠﻮﻛﻴﺔ؛ لأنّ لجم القوة والتسلّط لدى الفرد، والتفكير بطريقة متعايشة محبةً للآخرين يدعو لمزيد من تشذيب السلوكيات وتقنينها ـ أخلاقياً ـ نحو الحقوق والواجبات التي تؤطّر حياتنا.
إنّ التبادل الأخلاقي مع الآخرين وفكرهم، ينطوي على صناعة وتأصيل الوعي المتزايد، ويشكّل خلفية ثقافية ناهضة تُقبِل على قراءة وتفحّص ما يتبنّاه الآخر المختلف، كما يتفحصّ الآخرون فكرنا، ممّا يُثري الساحة، ويُحدث موجة من التلاقح الفكري والحيوي الثقافي.
الكاتبة: أ. م. د. راغدة محمد المصري
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الرابع عشر
مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية للنهضة الحسينية
________________________________________
[1]* الجامعة اللبنانية/كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
[2] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج3، ص307.
[3] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص90ـ91.
[4] اُنظر: ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص66.
[5] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص96.
[6] الحديد: آية25.
[7] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص39.
[8] المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج44، ص329.
[9] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص127.
[10] الهاشم، جوزيف، أبعاد الاستشهاد في ثورة الحسين، محاضرة أُلقيت في محرم (1415هـ) في مركز الإمام الخميني الثقافي، لبنان.
[11] قصة تجاربي مع الحقيقة، واُنظر أيضاً: كتاب: هاشمي نژاد، شهيد عبد الکریم، درسي كه حسين عليه السلام به إنسانها آموخت (الدرس الذي علمّه الحسين للإنسانية): ص441.
[12] المنتفكي، عبد الله عدنان، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة الثقافة الإسلامية، المستشارية الثقافية الإيرانية، دمشق، عدد تموز/آب 1993م: ص44.
[13] جريدة النهار الكويتية، 7/يناير/2009م.
[14] شبكة النبأ المعلوماتية، 17/كانون الثاني/2009م.
[15] كتاني، سليمان، الحسين عليه السلام مدرسة الأحرار، محاضرة أُلقيت في محرم (1415هـ)، في مركز الإمام الخميني الثقافي، لبنان.
[16] المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار: ج45، ص23.
[17] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص38.
[18] المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار: ج44، ص364.
[19] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص84.
[20] المصدر السابق: ص78.
[21] اُنظر: المصدر السابق.
[22] المصدر السابق: ص96.
[23] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص156.
[24] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص98. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ص61ـ63.
[25] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص171.
[26] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص75.
[27] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص57ـ58. أبو الفرج الإصفهاني، علي بن الحسين، مقاتل الطالبيين: ص112.
[28] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص17.
[29] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج3، ص311.
[30] ابن طاووس، علي بن موسى، اللهوف على قتلى الطفوف: ص54.
[31] يونس: آية71.
[32] الأعراف: آية196.
[33] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص97. ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ: ج4، ص60ـ61.
[34] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ج2، ص98. واُنظر: الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأُمم والملوك: ج4، ص322.
[35] ابن مزاحم، نصر، وقعة صفين: ج1، ص141.
[36] المفيد، محمد بن محمد، الإرشاد: ص81.
[37] اُنظر: المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار: ج45، ص17.
[38] اُنظر: مايور، فيدركو، مدير عام اليونسكو، صحيفة الاتحاد الإماراتية، 4/11/1997م.
[39] أبو مخنف، لوط بن يحيى، مقتل الحسين عليه السلام: ص88 ـ 89.
[40] المصدر السابق: ص87ـ88.
اترك تعليق