يتجلى العمق الديني والحضاري في كثير من آثار كربلاء, فعلى مسافة سبعين كيلو متراً من كربلاء يشخص أثر تاريخي يكمل سطور حضارة هذه المدينة, إنها كنيسة الأقيصر أو القصير التي اكتشفت أثناء أعمال التنقيب في كربلاء بين عامي (1976ــ 1977).
تشير الأبحاث والآثار والمصادر التاريخية إلى أن هذه الكنيسة بُنيت من قبل الثائرين المسيحيين من الطائفة النسطورية على الكنيسة البيزنطية الذين وجدوا مأمنهم وممارسة حرية طقوسهم وعباداتهم في ظل دولة المناذرة اللخميين (268م-633م) التي كانت خاضعة للدولة الساسانية وكانت تدين بالمسيحية.
وبالرجوع إلى تاريخ بنائها يلاحظ إن هذه الأرض لها تاريخ عريق في النضال ضد السلطات الدكتاتورية حتى توّج أرضها الإمام الحسين بدماء الشهادة ولكن شتان ما بين نهاية الثورتين فقد كانت النتيجة مختلفة تماماً فقد خرج الإمام الحسين ثائراً على الظلم والطغيان الأموي والمحرفين والمنحرفين عن الدين فاستشهد وقُطع رأسه وحُمل إلى الشام, أما الذين خرجوا على ظلم واضطهاد الكنيسة الرومانية فقد وجدوا مأمنهم وممارسة حرياتهم وطقوسهم الدينية في أرض كربلاء.
وقد ازدهرت النسطورية في ذلك العهد وساعد على ذلك ترحيب الأكاسرة الساسانيين بهذه الطائفة لأن الساسانيين كانوا يخوضون حروباً مع الرومان الذين يعتنقون الأرثوذوكسية، ولم تكن هذه الطائفة ــ النسطورية ــ وحدها قد وجدت مأمنا وحرية في ممارسة عقائدها فقد كانت في دولة المناذرة أسقفيتان عربيتان يعقوبيتان هما أسقفية عاقولا وأسقفية الحيرة.
تبعد الكنيسة عن حصن الأخيضر مسافة خمسة آلاف متر ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الثالث الميلادي, أي في عهد أول ملوك المناذرة اللخميين عمرو بن عدي (268ــ295م) وقد بنيت الكنيسة على شكل مستطيل ومدخلها من الجهة الغربية منها, أما الجهة الشرقية فقد احتوت على حجرة كانت تعلوها قبة, ومن الجنوب منها هناك مدخل صغير يؤدي إلى ثلاث حجرات تُجرى في إحداها مراسيم التعميد والأخرى تسمى بيت الشماسة وفيها يرتدي القسيسون والرهبان لباسهم الديني.
ولا تزال آثار الكتابات الآرامية على جدرانها, إضافة إلى وجود المذبح الذي يتجه نحو القدس وهو مرتفع عن باقي أرضية الكنيسة, وتعود تسمية هذا المكان بالأقيصر إلى تصغير كلمة قصر حيث اشتهرت هذه المنطقة وما يجاورها بكثرة الأبنية الشاخصة التي أطلق عليها اسم قصور مثل (قصر الاخيضر, قصر البردويل، وقصر شمعون...) فسميت بهذه التسمية من قبل السكان المحليين الذين ظنوا بأنها لا تختلف عن الأبنية الأخرى فسموها قصيرا أو أقيصر, فيما يرى بعض المؤرخين إن تسميتها جاءت من (القصر الصغير), وتبلغ مساحة هذا المكان الكلية حوالي أربعة آلاف متر مربع بما فيها المقابر والأبراج والأديرة والخزائن.
ولم تقتصر آثار المسيحيين في كربلاء على هذه الكنيسة فهناك كثير من الآثار التي تدل على الجذور العميقة لهم فيها لكن التشويه طال حتى أسماءها فضلاً عن شخوصها, فأطلق على جميعها اسم (قصر) على الرغم من أن كثيراً منها كان ديراً أو كنيسة مثل دير برذويل وشمعون..... وغيرها.
وتقع خارج سور كنيسة الأقيصر كنيسة أخرى تم اكتشافها وهذه الكنيسة خاصة بمراسيم وطقوس دفن الموتى المسيحيين وتم اكتشاف عشرات القبور التي تتجه مقدماتها إلى القدس, كما توجد قرب الكنيستين العديد من التلول مما يوحي إلى وجود مدينة كاملة كانت قربها, وبعد اكتشاف الكنيسة من قبل بعثة التنقيب كان المسيحون يأتون لزيارتها سنوياً خلال أعياد الميلاد لإقامة القداس فيها رغم فقدان سقوفها من أمد بعيد ولكن جدرانها وإطلالها لا تزال شاخصة تروي التاريخ العريق لكربلاء.
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق