الإنسان المؤمن دائم المراقبة لنفسه
المتّقي دائم الخشوع والتذلّل في الصلاة والذكر والدعاء وفي كلّ الأحوال
المؤمن يشتغل بعيوب نفسه ولا يشتغل بعيوب الآخرين
النص الكامل للخطبة الاولى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللّعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي لا يَخيبُ من توكّل عليه، ولا يُضام من التجأ اليه، راحم الشيخ الكبير، وجابر العظم الكسير، وغنى كلّ بائسٍ فقير، وعصمة كلّ خائفٍ مستجير، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له في ألوهيّته، ولا ندّ له في ربوبيّته، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده الذي أوضح به الدين، ورسوله الذي ختم به النبيّين، ودليله الذي نصبه لهدى العالمين، صلّى الله عليه وعلى آله الأئمّة المهديّين والقادة المرضيّين.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله تعالى، وخذوا بالعظة والعبرة وأحسنوا الفكرة والتزموا عهد الله تعالى واثبتوا على الحقّ، فإنّ الله تعالى ناصر من اتّقى ومجير من آمن ومعزّ من التجأ وكافي من توكّل.. أيّها الإخوة والأخوات سلامٌ عليكم جميعاً من ربٍّ رحيم غفور ورحمة منه وبركات.
ما زلنا في الأوصاف التي بيّنها أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) للمتّقين، وها نحن ذا نذكر في هذه الخطبة أوصافاً أخرى، فقال(عليه السلام): (تَرَاهُ –أي ترى المتّقي- قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ...) ثمّ هناك أوصافٌ أخرى أيضاً سنتعرّض اليها في خطبٍ قادمة إن شاء الله، نذكر هذه الأوصاف التي ذكرناها، يبتدئ الإمام(عليه السلام) بقوله: (تراه قريباً أمله) يعني أنّ المتّقي يعتقد أنّ أجله قريب ليس له أملٌ طويلٌ في الحياة، يعتقد أنّه ربّما بعد ساعات يلقى الموت أو بعد أيّام، ليس له أمل أن يعمّر ويعيش طويلاً في الحياة الدنيا، لأنّه يعتقد أنّ الأعمار بيد الله تعالى فلا يغترّ بشبابه وصحّته وماله وسطوته وسلطته وما لديه من هذه العناصر التي تغرّ الإنسان، بل يعتقد أنّ كلّ شيء بيد الله تعالى لذلك هو يعيش حالة الاستعداد للموت فيحرص على العمل الصالح والطاعات، يستعدّ للموت من خلال تدارك ما فاته من الطاعات، يسرع الى قضاء ما عليه من العبادات وما عليه من الحقوق لله، يسرع الى تدارك ما عليه من حقوق للناس، حريصٌ على تجنّب المعاصي والذنوب، بعكس أهل الدنيا الذين لهم أملٌ طويل في الحياة، هو في حال الشباب أو ليس في حال الشباب بل في حال سنٍّ أخرى ولكن لديه من المال ولديه من القوّة ولديه من السلطة ولديه من الأمور الأخرى ما يعتقد معها أنّه سيعيش دهراً طويلاً، لذلك يتوجّه بكلّ فكره وطاقاته وبكل ما لديه من أمور في هذه الحياة نحو الحياة الدنيا، ينسى الموت وأنّه يُمكن بعد لحظة أو دقائق يُدركه الموت، ينسى الآخرة وينسى الحساب ولا يتوجّه الى طاعة الله تعالى والحرص على العمل الصالح وأداء وقضاء ما عليه من الحقوق لله تعالى أو للناس، بل كلّ همّه أن يشبع من حظوظ الدنيا، بينما المتّقي ليس كذلك، من هنا النبيّ(صلّى الله عليه وآله) حذّر بصورةٍ شديدة من طول الأمل واتّباع الهوى لاحظوا التعبير الوارد لهذه التداعيات الخطيرة بالنسبة الى الإنسان، النبيّ(صلّى الله عليه وآله) قال: إنّي أخاف عليكم اتّباع الهوى وطول الأمل، لاحظوا التعبير من النبيّ(صلّى الله عليه وآله): ((إنّ أشدّ ما أخاف عليكم خصلتان: اتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ وأمّا طول الأمل فهو الحبّ للدنيا)) وفي روايةٍ أخرى ((..فإنّه يُنسي الآخرة))، الإنسان الذي يعتقد أنّه يعيش طويلاً من الاعتياديّ يريد أن يبني حياته الدنيويّة سيتوجّه بفكره بطاقاته وبكلّ ما لديه من نشاطٍ نحو البناء الدنيويّ وينسى الآخرة ومستلزمات الآخرة، وينسى الموت وما فيه من حساب في الآخرة وما فيه من ثواب أو عقاب، فيتوجّه بكلّ نفسه الى الدنيا وينسى ما هو مطلوبٌ منه للآخرة، لذلك النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يقول: (إنّ أشدّ ما أخاف عليكم خصلتان: اتّباع الهوى وطول الأمل) وقد يقول قائل: نحن إذا دائماً نفكّر أو كلّ واحدٍ منّا يفكّر أنّ الموت سيُدركه بعد لحظات ما هي النتيجة؟ سيُشلّ الإنسان عن العمل وعن التطوّر والازدهار وبناء المستقبل!! كلّ واحدٍ منّا يقول: أنا بعد لحظات سأموت فإذن عليّ أن أتوجّه بكلّ نشاطي وفكري وكلّ ما لديّ نحو العبادة والطاعة وأعمال الخير وأنقطع عن الدنيا، وبالتالي طاقاتنا، قدراتنا ستُشلّ، فإذا كنا لا نتوجّه الى بناء مستقبلنا؟! لا نطوّر حاضرنا؟! لا نسعى الى التطوّر والتقدّم والازدهار والرقيّ باعتبار أنّ أعمارنا قصيرة؟! سيُشلّ الفرد والمجتمع.
إضافةً الى هذا ورد في بعض الأحاديث ((الأمل رحمةٌ لأمّتي..)) الأمل رحمة علينا أن نسعى اليه، ((..ولولا الأمل ما رضعت والدةٌ ولدَها ولا غرس غارسٌ شجرة)) يعني لا نبني مصانع ولا مزارع ولا نبني للمستقبل ولا نعمل على التطوّر والازدهار، فكيف تقولون بهذا الأمر أنّ المتّقي صفتُهُ هذه؟!! للجواب عن ذلك إخواني الإنسان المتّقي المؤمن هو الذي يجمع بين الأمرَيْن، يتذكّر الآخرة وما هو مطلوبٌ من الاستعداد والتهيّؤ والزاد للآخرة، ويتذكّر ما هو مطلوبٌ منه من عمل صالح فيُسرع الى التوبة، لعلّه أذنب يُسرع الى التوبة قبل أن يدركه الموت ويُسرع الى تدارك الحقوق لله تعالى وتدارك الحقوق للناس قبل أن يدركه الموت، يقول ربّما بعد لحظات بعد ساعة ساعتين أو يوم يأتيني الموت فعليّ أن أستعدّ وأتهيّأ لسفر الآخرة، وفي نفس الوقت يقول ربّما أنا أعيش بعد ستين أو سبعين سنة وأنا فرد وأنا مجتمع وأنا أمّة، فلابُدّ أن أبني هذه الأمّة وأطوّرها وتزدهر وتتقدّم وأبني حاضري ومستقبلي، فيعمل لدنياه كأنّه يعيش فترةً طويلة فهذا هو الأمر الحسن أن يجمع بين الأمرَيْن، حتّى نجمع بين هذه الأحاديث وبين ما هو مطلوب لبناء حاضرنا ومستقبلنا وبناء مجتمعنا وفي نفس الوقت نستعدّ الى الآخرة كلّ واحدٍ منّا يقول ربّما بعد لحظات أو ساعات أو يوم أو شهر أموت فعليّ أن أستعدّ للآخرة، في نفس الوقت ربّما الله تعالى يقدّر لي عمراً طويلاً فعليّ أيضاً أن أعمل لهذه الفترة الطويلة لنفسي ولمجتمعي، فيقول(عليه السلام): (تراه قريباً أمله قليلاً زلـلُهُ) طبعاً الإنسان حتّى المتّقي هو ليس بمعصوم لديه ذنوب ولديه أخطاء وزلّات وعثرات، لكن المتّقي فرقُه عن الإنسان غير المتّقي أنّه قليلُ الذنوب.
أيّها الإخوة والأخوات كيف نصل الى هذه المرتبة وهذه الصفة؟ من منّا لا يتمنّى أن تكون ذنوبه ومعاصيه قليلة حتى يكون حسابه ليس بالحساب الشديد، نأتي من خلال هذه الخطوات، الإنسان المؤمن والمتّقي دائم المراقبة لنفسه لا يغفل عن كلامه وعن أفعاله وعن تصرّفاته وعن سلوكه هذا أوّلاً، ثانياً لديه بصيرة ونظر ثاقب الى أفعاله وتصرّفاته ولديه موازين شرعيّة ومعرفة بما هو حرام وما هو واجب، فحينئذٍ يكون دقيقاً في تشخيص ما يصدر منه من الزلّات والعثرات، ثالثاً يشتغل بعيوب نفسه ولا يشتغل بعيوب الآخرين، أيّها الإخوة والأخوات من مشاكلنا التي تحول بيننا وبين تطهير أنفسنا من المحرّمات وقلّة الذنوب هو أنّ الغالب منّا يشتغل بتشخيص عيوب غيره، يرى كثيراً من العيوب والزلّات والعثرات والذنوب لدى الآخرين ولكن هو في تقييمه لنفسه لا يرى الكثير من الزلّات والعثرات التي تصدر منه، بل هو في تقييمه لنفسه أنّه قليل الزلّات والآخرون هم الذين تكثر منهم الذنوب، هذا من الأمور التي تحول بين المرء وبين أن يتدارك ما يصدر منه من الزلّات والعثرات، لذلك اشتغاله وهمّه بما يصدر منه من الذنوب والزلّات والعثرات، إذا كان كذلك استطاع أن يشخّص وكانت عنده دقّة في التشخيص والمراقبة المستمرّة والمحاسبة، حينئذٍ يتدارك ما عليه من الذنوب وفي نفس الوقت لا يقع في الزلّات والعثرات لأنّه دائم المراقبة لنفسه ودائم المحاسبة، لذلك يكون في هذه الصفة قليلاً زلـلُه، ثمّ يقول(عليه السلام): (خاشعاً قلبُه) المتّقي دائم الخشوع والخضوع والتذلّل ليس في حال الصلاة والذكر والدعاء بل في كلّ الأحوال، تراه إنساناً متذلّلاً متواضعاً خاشعاً لماذا؟ لأنّه دائماً يستشعر عظمة الله تعالى وينظر الى نفسه فيرى عظمة الخالق وحقارة نفسه، ينظر الى الكون فيرى عظمة الخالق وصغر هذا الكون تجاه عظمة الله تعالى وسلطانه وجبروته، يعيش حالة التفكّر دائماً في الله تعالى وفي مخلوقاته، لذلك يعيش دائماً حالة الخشوع والتذلّل والخضوع، بعكس الإنسان غير المؤمن الذي يرى في نفسه العُجْب والغرور والاعتداد فيعيش حالةً من التكبّر والقسوة، عكس الحالة التي تكون للمتّقي (خاشعاً قلبه) في الصلاة في الذكر في الدعاء وفي بقيّة أحواله.
ثمّ يقول(عليه السلام): (قانعةً نفسُه) إخواني هذه من الصفّات المهمّة التي تمثّل أغنى الغنى، إذا أردتم الغنى فتحلّوا بهذه الصفة، وفي الغالب حينما ندقّق في صفاتنا وواقعنا الاجتماعيّ نرى أنّ هذه الصفة غائبة عنّا وغائبة عن ساحتنا وتسبّب لنا الكثير من المشاكل والكثير من الهموم والأحزان بسبب عدم القناعة، أنّ الشخص يعيش حالة البحث عن الدنيا والطمع والحرص على هذه الدنيا يفقد هذه الصفة التي هي كنزٌ كبيرٌ يفقده الإنسان غير القانع، كيف؟ إذا كانت القناعة بهذه الصفة بهذه المنزلة كيف نحصل على هذه الصفة؟ إخواني إذا أراد الواحد منكم أن يكون مؤمناً حقّاً لابُدّ أن يعتقد أنّ الله تعالى لا يقدّر له إلّا ما فيه مصلحتُه وخيرُه، ضيّق عليّ بالرزق لمصلحتي وخيري، ضيّق عليّ بالصحّة ابتلاني بمرض لمصلحتي، ابتلاني بأمرٍ آخر بهمٍّ بحزنٍ بكربٍ بسلطانٍ جائرٍ بسجنٍ بتشريدٍ بأمورٍ أخرى كلّ ذلك إذا كنت مؤمناً فلا يصدر من الله تعالى لي إلّا ما فيه الخير وما فيه المصلحة، قد يُغنيني يُعطيني الكثير من المال ولكن أطغى وأبطر وأقع في الكثير من المحرّمات بسبب هذا المال، أو يعطيني الجاه والمنصب والسلطة وكثرة الأموال والكثير من حطام الدنيا ولكن هذا يسبّب لي الوقوع في الكثير من المعاصي فأهلك وأخسر، لذلك الإنسان المؤمن اعتقادُهُ هكذا أنّ ما يقدّره الله تعالى لي هو ما فيه مصلحةٌ وخيرٌ هذا أوّلاً، الشيء الثاني الممارسة العمليّة إخواني التي نفتقدها للوصول الى صفة القناعة، أنّني دائماً أنظر الى من هو دوني في حظوظ الدنيا وما هو مقدّر للإنسان، ما معنى ذلك؟ معناه أنّي إذا كنت صحيحاً معافى أنظر الى المريض فأقول: "الحمد لله" فأقنع، وإذا كنت مريضاً أنظر الى من هو أشدّ مرضاً وسُقْماً منّي قد يكون مرضي هذا أهون، إذا ما كان عندي مثلاً في مسألة الدنيا وغيرها من الابتلاءات والضيق والهموم والأحزان التي يمرّ بها الإنسان أنظر الى من هو دوني حتّى أقنع وأقول: "الحمد لله"، لكن إذا نظرت الى الإنسان الذي يملك أعلى منّي في حظوظ الدنيا حينئذٍ لا أكون قنوعاً، بل دائماً أكون في حرصٍ على أن أنال مثل ما لدى هذا، فإذا نلته نظرتُ الى الأعلى فإذا نلت مثل ما لديه نظرتُ الى الأعلى وهكذا أبقى طوال حياتي في حالةٍ من عدم القناعة، ثالثاً -لاحظوا- في حظوظ الدنيا لا أنظر الى من هو أعلى منّي لكن في حظوظ الآخرة أنظر الى من هو أعلى منّي فأحاول أن أقتدي به، يعني أرى هذا الإنسان المتديّن تديّنه أكثر منّي أحاول أن أقتدي به، أقول لماذا لا أكون مثل فلان، فلان عنده أعمالٌ صالحة وبرّ وخير أكثر منّي، فأحاول أن أصل الى مرتبته، فلان لديه علم وسعي في العلم أكثر منّي فأحاول أن أسعى وأصل الى مرتبته، لاحظوا إخواني القناعة هنا، في حظوظ الدنيا لا أنظر الى من هو أعلى منّي، في حظوظ الآخرة أنظر الى من هو أعلى منّي حتّى أصل الى مرتبته، حينئذٍ تحصل لديّ القناعة وأترقّى في هذه المراتب التي توصلني الى السعادة، إضافةً الى ذلك القناعة تولّد العزّ وعدم القناعة ذلٌّ، الإنسان يعيش هذه الحالة طالما ليست لديه قناعة يعيش حالة من الذلّ والهوان وانحطاط المنزلة الاجتماعيّة، لذلك ورد في كثيرٍ من الأحاديث -لاحظ منزلة وفضل القناعة لدى الإنسان- كما في هذا الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام) قال: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم ارضَ بما آتيتُك تكنْ من أغنى الناس)) القناعةُ والرّضا بما قدّر الله تعالى هي مصدر وسبب الغنى، أيضاً الغنى الماليّ والغنى الدنيويّ له ضريبة قد لا نتحمّلها، التفتوا الى هذا الحديث فالقليل من حظوظ الدنيا ضريبتها بسيطة يتحمّلها كلّ إنسان، في هذا الحديث عن الإمام الرضا(عليه السلام): ((من لم يقنعه من الرزق إلّا الكثير لم يكفِهِ من العمل إلّا الكثير...)) يعني الذي لا يقتنع بالقليل من الرزق إذن الله تعالى لا يقنع منه بالقليل من العمل، مطلوب منك عمل واسع عمل كبير لأنّ الله تعالى رزقك الكثير، هذا له ضريبة هل تستطيع أن تؤدّي هذه الضريبة؟!! قد لا تتحمّلها وتفشل ويكون عليك الحساب ((من لم يقنعه من الرزق إلّا الكثير لم يكفِهِ من العمل إلّا الكثير، ومن كفاه من الرزق القليل كفاه من العمل القليل)) لاحظوا من اكتفى بالقليل من الرزق يُقال له ضريبتك بسيطة اكتُفِيَ منه بالعمل القليل لا يُحمّل ضريبة عالية فيستطيع أن يدفع استحقاق هذا العمل، (ومن كفاه من الرزق القليل كفاه من العمل القليل)، ثمّ أيضاً في حديثٍ آخر: ((أغنى الغنى القناعة))، وقال أيضاً الإمام الصادق(عليه السلام) يعظ رجلاً: ((اقنع بما قسم الله لك ولا تنظر لما عند غيرك، ولا تتمنّ ما لست نائله، فإنّه من قنع شبع، ومن لم يقنع لم يشبع)) يبقى دائماً في حالة جوع ولا يشبع الى آخر عمره.
ثم يقول(عليه السلام): (منزوراً أكله) ما معنى منزوراً أكله؟ معناه قليلٌ أكله، هذا الإنسان الذي من أهل التقوى والإيمان يكون أكلُه قليلاً، -التفتوا إخواني- من الآفات الخطيرة على الإنسان المؤمن وقد نبّه عليها النبيّ(صلّى الله عليه وآله) وهذا الحديث أذكره حتّى أمهّد لعقولكم وقلوبكم وأنفسكم تلقّي هذه الصفة بالقبول والاتّعاظ والعمل بها، يقول النبيّ(صلّى الله عليه وآله): ((أكثر ما يلج به أمّتي النار...)) يعني أكثر الأشياء التي بسببها تدخل الأمّة النار، ما هي؟؟ ((أكثر ما يلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج)) لذلك علينا أن ننتبه، متى ما كان الواحد منّا أسيراً لشهوة بطنه وفرجه فُتحت له أبوابُ النيران ومتى ما تحلّل الإنسان من قيود شهوة بطنه وفرجه فُتِحت له أبواب الجنان، لاحظوا إخواني لذلك لا يكن الواحدُ منكم أسيراً لشهوة بطنه، كثرة الأكل من أين تأتي؟ عندما يكون الإنسان أسيراً لهذه الشهوة هي تقوده هي تأخذه يمنةً ويسرهً لا يبالي في الطعام يأكُلُه من مصدرٍ حلال أو حرام، المال الذي يأتي به هذا الطعام لا يبالي سواءً كان مصدر المال الذي يشتري به الطعام من حلال أم من حرام فتقوده الى الهلاك، لذلك النبيّ(صلّى الله عليه وآله) يقول: (أكثر ما يلج به أمّتي النار الأجوفان: البطن والفرج)، بعد هذا لنتوسّع في هذه القضيّة لأنّها مهمّة في الدنيا والآخرة، الكثير من الأحاديث تعرّضت الى بيان معطيات منافع قلّة الأكل فمنها دنيويّة ومنها أخرويّة، أوّلاً منها صحّة البدن، تلاحظون إخواني كثيراً من الأمراض الخطيرة والمميتة مصدرها كثرة الأكل وكثرة الطعام، وأيضاً جزءٌ كبير من الصحّة للإنسان مصدرُها قلّة الطعام، لذلك ورد في الحديث (لا تشبعوا)، أيضاً إضافةً الى ذلك الآثار الأخرويّة التي ذكرتها هذه الأحاديث ((أفضلكم منزلةً عند الله أطولكم جوعاً وتفكّراً، وأبغضكم الى الله...)) مَنْ؟ هل الذي يترك الصلاة والصوم فقط؟!! لا.. ((..وأبغضكم الى الله تعالى كلّ نؤومٍ أكولٍ شروب)) على صيغة –فعول- أيْ كثير النوم وكثير الأكل وكثير الشرب، فإذن منزلة التفاضل ومنزلة القرب من الله تعالى في هذه المسألة ((لا تشبعوا فيُطفأ نورُ المعرفة من قلوبكم)) و((من بات يصلّي في خفّةٍ من الطعام جاءت الحورُ العين حوله))، فإذن هناك آثار دنيويّة وآثار أخرويّة، من جملة الآثار التي تتعلّق بعبادة الإنسان أنّ هذا الشبع يحرم الإنسان من لذّة المناجاة لله تعالى، لاحظوا الواحد منكم إخواني إذا امتلأت بطنُه ثمّ يدعو ويُصلّي ويذكر الله تعالى يحسّ بلذّة المناجاة والذكر؟!! أبداً. عكس الذي هو قليل الأكل يشعر ويتحسّس هذه اللّذة التي يُمارسها الإنسان في طاعته لله تعالى، كثرة الأكل من الأمور التي ترث الإنسان قسوة القلب، قسوة القلب التي تفقد الإنسان الرحمة عكس الإنسان القليل الأكل يكون قلبه رحيماً، رقّة القلب التي تُنتج الرحمة، أيضاً تيسّر المواظبة على الطاعة والعبادة، الإنسان الذي يملأ بطنه من هذا الطعام يجد ثقلاً في أداء الطاعات والعبادات، بعكس الذي يكون قليل الأكل فحينئذٍ يجد الخفّة والنشاط والهمّة في التوجّه الى الله تعالى بالطاعة والعبادة، لذلك من صفات المتّقين يقول(عليه السلام): (منزوراً أكله سهلاً أمره) ما معنى سهلاً أمره؟ الإنسان المؤمن يكون خفيف المؤونة في السفر في الضيافة تكون مؤونته قليلة، لذلك ورد في بعض الأحاديث ((شرّ الإخوان من تُكُلِّف له)) أيضاً هذه الصفة فيها معنى أوسع نلتفت اليها إخواني، الإنسان المؤمن المتّقي سهلٌ في علاقاته الاجتماعيّة في حلّ النزاعات والمشاكل، هناك إنسانٌ صعب متزمّت إذا كانت هناك مشكلة بسيطة يعقّدها وإذا كان هناك نزاعٌ شخصيّ أو اجتماعيّ يفرض شروطاً ويطلب مطالب يعقّد بها هذه المشكلة فتتفاقم ويصعب حلّها، الإنسان المؤمن إخواني عكس ذلك، إذا مررتم بمشكلةٍ بنزاعٍ يُحاول الواحد منكم أن يكون سهلاً لا يضعْ شروطاً معقّدة ويؤزّم ويعقّد المشكلة أكثر ويصعّب هذه المشكلة، في علاقاته الاجتماعيّة مع الآخرين الإنسان المؤمن خفيف المؤونة سهلٌ في أمره وفي علاقاته الاجتماعيّة.
ثمّ يقول: (حريزاً دينُه) يعني الإنسان المؤمن تؤمّن عليه في دينه، إذا عاش في وسطٍ اجتماعيّ فيه الكثير من الشُّبَه والكثير من الضلال والانحراف، هذا أنت تأمن من دينه أنّه يحافظ على دينه ويصون دينه، أيضاً إذا كلّفته بوظيفةٍ إداريّة ماليّة أو كلّفته بوظيفةٍ سياسيّة بعملٍ سياسيّ تأمن عليه في دينه أنّه يُحافظ على دينه ويصمد ويصبر أمام الضغوط وأمام الإغراءات التي تُعرض عليه، هذا إنسان متّقي مؤمن دينُه أهمّ من كلّ ما يُعرض عليه من إغراءات ماليّة ودنيويّة ومناصب، إذا تُعرض عليه مناصب أو مال أو جاه أو أمور أخرى يقف أمام هذه الإغراءات وأمام هذه الضغوط لكي يحافظ ويحرز دينه، يؤثر دينه على ما يُعرض عليه من حظوظ الدنيا، لذلك في هذه الصفة هو حريزٌ دينه، (ميّتةً شهوته).. إن شاء الله في الخطبة القادمة نُكمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق