إن التاريخ الطويل لحركة المستشرقين (المنصفين) الذين أحبوا الشرق وكتبوا عنه بأمانة وموضوعية قد حفظ الكثير من التراث الفكري والأدبي العربي، وأحيا الكثير من الآثار الفكرية الشرقية على اختلاف لغاتها.
والمتتبع لآثار هؤلاء المستشرقين يجد أنهم قد اعتنوا بتدوين المعلومات بدقة متناهية عن المجتمع الشرقي مهما كانت صغيرة، وأولوا أهمية لكل حيثية من حيثيات المجتمع الشرقي حتى التي لا يأبه لها الإنسان الشرقي نفسه أو يوليها أدنى اهتمام.
ورغم أن أغلب المستشرقين الذين قدموا إلى الشرق جاؤوا في مهمة معينة انتدبتهم إليها حكوماتهم، إلا أنهم حرصوا أشد الحرص على أن لا تفوتهم أية شاردة أو واردة في رحلتهم وأماكن أقامتهم دون أن يدونوها.
وتعتبر رحلة المستشرق البرتغالي بيدرو تكسيرا (1) من أقدم الرحلات الإستشراقية حيث زار المناطق الخاضعة للإمبراطورية البرتغالية في ذلك الوقت وخاصة منطقة الخليج والبلاد المحيطة بها، فأقلع من جزيرة (غوا) الهندية إلى إيطاليا عن طريق الخليج فزار حلب وقبرص، ثم زار البصرة ومنها إلى النجف الأشرف ووصف الطريق بين المدينتين، وكان العراق آنذاك خاضعاً للاحتلال العثماني الذي أقام على النجف وكربلاء أمير جشعم ــ ناصر المهنا ــ ليقبض منه الأتاوى والضرائب الباهظة التي كان يستحصلها من أهالي المدينتين، وكان هذا الأمير يقيم قرب كربلاء ويطلق على نفسه لقب (ملك)، ورغم أنه كان تابعاً للأتراك الذين كانوا يغتصبون واردات الأراضي الممتدة في المنطقة كلها إلا أن تكسيرا شاهد بنفسه أصحاب (الملك) وهم يبيعون خيول وملابس وأثاث وأسلحة أربعة وثلاثين جندياً تركياً من رجال الحكومة في كربلاء بعد أن قتلوهم وسلبوهم!! ويعزو تكسيرا ذلك إلى الفوضى العارمة التي سادت كربلاء والعراق وانشغال الحكومة العثمانية بالحرب مع إيران.
وصل تكسيرا كربلاء يوم الجمعة (24 /9 / 1604) ونزل في أحد الخانات المعدّة للزوّار التي كان يتبرّع ببنائها المحسنون يقول تكسيرا عن كربلاء: (إنها كانت تحتوي على أربعة آلاف بيت وسكانها خليط من العرب والإيرانيين والأتراك وكانت مهمة الأتراك الإشراف على المناطق المحيطة بكربلاء لكنهم انسحبوا في ذلك الوقت إلى بغداد بسبب الحرب مع الإيرانيين، كما غادر كربلاء الإيرانيون بسبب هذه الحرب أيضاً لأنهم لم يعودوا يشعرون بالطمأنينة والأمان).
ويصف تكسيرا مشاهداته في تجواله أسواق المدينة فيقول: (أسواق كربلاء كانت مبنية بشكل متقن بالطابوق، ومشحونة بالحاجات والسلع التجارية لكثرة تردد الناس عليها من المدن والقرى القريبة... والأسعار فيها رخيصة وتتوفر المأكولات والحبوب بكثرة مثل الحنطة والرز والشعير والفواكه والخضروات واللحوم)
ويعقب الأستاذ الدكتور جعفر الخياط على قول تكسيرا في هذا المجال بالقول: (ويرجع تاريخ الخصب في كربلاء إلى أبعد من هذا التاريخ، وإلى ما قبل تاريخ وصول الماء إلى البلدة فقد دلت الأهوار والبساتين والمزارع القريبة من كربلاء والمحيطة بها إلى أن خصبها قديم) (2).
ووصف تكسيرا كذلك كثرة الزوار الذين يفدون إلى كربلاء من أنحاء العالم والسقاة الذين يستقبلونهم ويقدمون لهم الماء مجاناً طلباً للثواب وإحياءً لذكرى الامام الحسين الذي قتل ظمآنا في هذه البقعة وهم يطوفون بقربهم الجلدية الملأى بالماء ويحملون طاسات نحاسية مزركشة كما وصف آبارها وماءها العذب جداً وأشجارها ونخيلها.
كما يشير تكسيرا إلى (لطف الهواء فيها وإن الجو فيها أحسن منه في جميع الأماكن التي زارها) وقد وجد في كربلاء (عدداً من الآبار العامة التي تحتوي على الماء العذب الجيد جداً وكثير من الأشجار، وبعض أنواع الفاكهة الأوربية) كما يقول، أما الأراضي فهي: (تسقى من جدول خاص يتفرع من الفرات الذي يبعد عن البلدة مسافة ثمانية فراسخ) وهناك في المراعي المحيطة بالبلدة (عدد كبير من الأغنام والماشية) التي شاهدها وهي ترعى في الأرض الخصبة، وفي نهاية البلدة من (جهة الفرات) هناك (بركتان كبيرتان من الماء مربعتا الشكل) يعتقد تكسيرا إنهما قد أنشئتا للنزهة والتسلية مستدلاً على ذلك وجود إطلال بعض الأبنية والملاجئ المؤقتة من حولهما أو لعلها (مواقع الأمكنة والمخيمات التي كانت تنصب للزوار في مواسم الزيارات الكبيرة).
لم يكن يعكر صفو هذه المدينة سوى وجود عناصر الجيش العثماني وذيوله وبعض الأعراب الذين كانوا يثيرون الشغب والفوضى ويبثون الرعب في قلوب الأهالي وإلى ذلك يشير تكسيرا بأنه (وجد في الخان الذي كان يقيم فيه أربعين (سـگمانيا) مع ضابطهم الخاص، والسـگمانيون) هم من الجيش المحلي التابع للحكومة العثمانية، وقد كان الناس يخشونهم لأنهم كانوا متعوّدين على التجاوز على الناس في كل فرصة أو مناسبة، وكانوا من دون وجدان أو ضبط) كما يصفهم.
وجاء وصف تكسيرا للوضع الأمني المتردي في كربلاء آنذاك وسيطرة ناصر المهنا وعصابته عليها مطابقاً لوصف المستشرق الإنكليزي ستيفن همسلي لونكريك (3) حيث يقول: (غير إن قوات البادية التي يهمنا أمرها أكثر من هذا كانت لا تخرج عن كونها حلفين بدويين يمر من مناطقهما المسافرون من الخليج إلى حلب بعدة مراحل من طريقهم فكان المير ناصر ــ أي ناصر بن مهنا ــ في عام (1013هـ/1604م) ((ملك)) القسم الجنوبي الممتد من النجف إلى الفلوجة وكانت بلدة النجف معترفة بسلطة حاكم البادية هذا، كما كانت كربلاء، وهي أوسع وأكثر حركة وليست أقل من أختها تعصبا عاصمته ومركز ديرته، وكان يلاقي المسافرين من بغداد إلى الفلوجة على بضعة أميال من العاصمة، وكلاؤه الذين يقبضون الأتاوة ((الخاوة)) له، وقد اعترف ناصر وهو أحد أفراد سلالة من الشيوخ ــ موالي أو عنزة ــ في ذلك العهد بولائه للسلطان ومن المحتمل أن شيئاً من الهدايا التي كان يرسل بها بين حين وآخر للباشا يذكره بهذا العبد الحقير ! غير أن أوتقراطيته في البادية وجمعه للخاوة وإرهابه للزوار كانت تقص لنا قصة أخرى، وكانت الحاميات التركية الصغيرة تقيم بحسب العادة في العتبات المقدسة، غير أن مكثهم هناك لم يكن إلا بسماح من الشيخ وفي (1604) كانت عاقبة هذه الحامية في كربلاء وخيمة على ما قيل).
وربما كانت هذه الأوضاع الأمنية المزرية والفوضى هي التي جعلت تكسيرا يسارع بالخروج منها بعد ثمانية أيام فقد كان من الممكن أن يبقى أكثر من ذلك في المدينة التي لم يجد (ألطف جواً) منها في كل المدن التي زارها فخرج فجراً على طريق الحسينية متوجهاً إلى بغداد، وفي الليل بات في خان حصين واسع الأرجاء معد للزوار وفي اليوم الثاني وجد خاناً كبيراً وهذا الخان يقع على الفرات فوق أنقاض مدينة قديمة كانت تسمى (المسيب).
محمد طاهر الصفار
.....................................................................................................
1ــ Baghdad The City of peace. The Travels or Pedro Teixera
Tr. By Sinclair &. Fergu sen London 1902.
2ــ موسوعة العتبات المقدسة قسم كربلاء ص (282)
3ــ أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ص (37)
اترك تعليق