تعدّدت محاولات تعريب اسم كربلاء, وكثُرت الافتراضات والتأويلات لتعريبه من قبل المؤرخين العرب, فمن (الكربلة) التي هي التربة الخالية من الحصى, إلى (كرب) يعني القرب, إلى (كرب وبلاء), إلى (الرخاوة) إلى غيرها من الأقوال, كما تعددت الأقوال في اسم (كربلا) ــ بالقصر ــ من قبل المؤرخين الذين أرجعوا هذا الاسم إلى جذور سامية آرامية وآشورية وفهلوية وغيرها.
يقول ياقوت الحموي: (فأما اشتقاقه ــ أي اسم كربلاء ــ فـ (الكربلة) رخاوة في القدمين, يقال: جاء يمشي مُكربلاً, فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة, فسُمّيت بذلك. ويقال: كربَلْتُ الحنطة إذا هززتها ونقيتها وينشد في صفة الحنطة:
يحملنَ حمراءَ رسوباً للثقل *** قد غُربلتْ وكُربلتْ من القصل
فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض منقاة من الحصى والدغل فسميت بذلك.
ولا يستقر الحموي على هذا الرأي الذي كان مخاض اجتهاد شخصي فقط دون الرجوع إلى دليل تاريخي يثبت ذلك فنراه يطرح رأياً شخصياً آخر يحاول فيه جاهداً إرجاع اسم كربلاء إلى اللغة العربية فيقول: (والكربل اسم نبات الحماض, قال أبو وجرة السعدي يصف عهود الهودج:
وتامرُ كَرْبلٍ وعميمُ دفلى *** عليها والندى سبطٌ يمورُ
فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبت يكثر نباته هناك فسمي به..) (1)
وواضح إن هذا الرأي لا يستند إلا على الاحتمال الذي يأباه المنطق البحثي الموضوعي, كما يرفض الآراء الأخرى التي استندت على ما استند عليه وقد آثرنا عدم ذكرها كونها تشابه هذا الرأي, فقد فند هذه الآراء كثير من أعلام اللغة والتاريخ الذين أرجعوا اسم كربلاء إلى عمق التاريخ.
يقول مصطفى جواد (خريج جامعة السوربون في التاريخ العربي): (إن رجع الأعلام الأعجمية إلى أصول عربية كان ديدناً لعلماء اللغة العربية منذ القديم, فقلما اعترفوا بأن علماً من الأعلام أصله أعجمي, دون أسماء الجنس فإنهم اعترفوا بعجمتها وسمّوها (المعرّبات), لأن الذين يعرفون اللغة الفارسية كثير ولأنهم يدرون أصول المعربات على التحقيق والتأكيد, وكان الذي يُسهّل عليهم اجتيال الأعلام وغيرها إلى اللغة العربية كونها مشابهة وموازنة لكلمات عربية, كما في (كربلا) والكربلة والكربل فهم قالوا بعروبة تلك الأعلام الأعجمية ثم حاروا في تخريجها اللغوي فبعثهم ذلك على التكلف كما فعلوا في كربلا وغيرها من الأعلام الأعجمية).
فهو يرى أن محاولة ياقوت الحموي وغيرها من المحاولات لتعريب (كربلا) غير مجدية ولا يصح الاعتماد عليها: (لأنها من باب الظن والتخمين, والرغبة الجامحة العارمة في إرادة جعل العربية مصدراً لسائر أسماء الأمكنة والبقاع, مع أن موقع كربلاء خارج عن جزيرة العرب, وإن في العراق كثيراً من البلدان ليست أسماؤها عربية كبغداد وصرورا وجوخا وبابل وبعقوبا, وإن التاريخ لم ينص على عروبة اسم (كربلاء) فقد كانت معروفة قبل الفتح العربي للعراق وقبل سكنى العرب هناك وقد ذكرها العرب الذين رافقوا خالد بن الوليد). (2)
أصل الاسم
يعزو الأب أنستاس ماري الكرملي أصل لفظة كربلا (إلى دمج كلمتي (كرب) و(إل) أي حرم الله أو مقدس الله), (3) وهي تسمية سامية فالكرب بمعنى القرب بالبابلية وإل بمعنى الإله عند الساميين, ووجود كلمة الإله يوحي بأنها كانت مقدسة منذ أقدم العصور, ويعلق جواد على رأي الكرملي بالقول: بـ (أنه داخل في الإمكان, لأن هذه البقاع قد سكنها الساميون), والعجيب أن نجد معنى آخر لكربلاء وهو ما ذكره الأديب والمؤرخ الأمريكي إيمري نف حيث يقول: (نجد الكلمة العبرية (كرب) ــ ومعناها يقترب ــ تعني في الوقت نفسه: (يقاتل ويحارب ومن هنا كانت كلمة (كراب) بمعنى معركة).(4)
ويقارب رأي الكرملي ما ذكره الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة بأن كربلاء (كانت تسمى (كاربالا) ومعناها بالفهلوية هو (الفعل العلوي) أو (العمل السماوي) المفروض من الأعلى ثم عربت وصيغت صياغة عربية وسموها (كربلاء).
إذن فكربلا هي من الأسماء الآرامية أو البابلية ونجد لها عدة تسميات تعود إلى حضارات مختلفة كـ (نينوى) الأشورية وعمورا وماريا وصفورا, وقد قيل في تسمية كربلا أيضاً: (بأنها منحوتة من (كُوَر بابل) وتعني مجموعة قرى بابلية, وكانت من أهم قرى النهرين الواقعة على ضفاف نهر (بالاكوباس) (الفرات القديم), وقد أقيم على أرضها معبداً للصلاة كان البابليون يدفنون موتاهم حوله, كما عثر على قبور قديمة تعود إلى ما قبل الميلاد داخل أوان خزفية, وقبور أخرى بعد العهد المسيحي, ويدل اسم النواويس الذي هو من أسماء كربلا على أهميتها التاريخية حيث أن كلمة النواويس تعني قبور المسيحيين, وقد فضل السكن في كربلاء كثير من الأقوام على غيرها لخصوبة أرضها وغزارة مياهه, وجاء في (الموسوعة الإسلامية الموجزة) من النص الفرنسي: (ومن المحتمل أن اسم كربلاء مرتبط باللفظة الآرامية (كربيلا) (سفر دانيال) واللفظة الآشورية (كربلاتو) وهو نوع من أنواع لباس الرأس).
فكربلا اسم سامي آرامي أو آشوري ومن أسمائها نينوى عاصمة الدولة الآشورية, ومما يدل على ذلك وجود أكم وإطلال وهضبات على بعد بضعة أميال من مدينة كربلاء باتجاه ضريح الحر الرياحي لا تزال شاخصة وتسمى القرطة والكمالية يقال بأنها (كربلاء) الأصلية, وقد ذكر السيد عبد الحسين آل طعمة في كتابه: (بغية النبلاء في تاريخ كربلاء): (إن بعضهم كانوا يستخرجون من هذه الإطلال الطابوق الضخم لبيعه في الأسواق بالمدينة).
كما تدلنا باقي المناطق في عين التمر المحاذية للحصن والتي يوجد فيها تلول وآثار عريقة في القدم إلى أنها تعود إلى ما قبل العصر الساساني كما في قرية شفاثا الآرامية أو ما قبله, وقد اكتشفت قرى كانت عامرة يعود تاريخها إلى ألفي عام قبل الميلاد, يقول الأستاذ فيردهوفر: (إن استرابون (63 أو 64 ق.م) الجعرافي اليوناني ذكر اسم (نينوى) وهو من أسماء كربلاء في كتابه (وصف ما بين النهرين).
إذن فإن مما لا شك فيه أن لفظة (كربلاء) هي غير عربية وهي في الأصل (كربلا), وكل ما قيل في أصول عربية كربلا فهو بعيد عن الصحة. إما بالنسبة إلى إضافة الهمزة إلى (كربلا) لتصبح (كربلاء) فقد أضيفت للضرورة الشعرية كما يقول مصطفى جواد: (إن كربلا مقصور في الأصل وإن الهمزة أدخلت عليها لضرورة الشعر) ويضرب لذلك مثالاً الشعر الذي قيل لأول مرة في كربلاء: (لقد حُبستْ في كربلاء مطيتي) فلو قال (كربلا) لم يستقم وزن البيت ومد المقصور من ضرائر الشعر المعروفة.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
.............................................................
1ــ معجم البلدان ــ باب كربلاء
2ــ موسوعة العتبات المقدسة (ج 8) قسم كربلاء
3ــ لغة العرب (ج 5 ص178)
4ــ المؤرخون وروح الشعر (ص46)
اترك تعليق