التجريدية تجمع بين المادة والروح وقيمتها التعبيرية, وهي خطوط هندسية وألوان مضامينها تأمُّلات ورؤى ذاتية, فهي كل تعبير فني لا يحتوي على الواقع المنظور … وهي ترتيب خاص يُعبّر عن النفس الداخلية … فالأقدمون قد سَئِموا من فهم المادة وأشكالها لذلك عبّروا برسوم تجريدية، وربما كان العرب من روّاد التجريدية بزُخرفهم البدائي المُبسّط.
والاتجاه التجريدي في الرسم يسعى إلى البحث عن جوهر الأشياء والتعبير عنها بأشكال موجزة تحمل في داخلها الخبرات الفنية التي تثير وجدان الفنان التجريدي ، وكلمة التجريد تعني التخلّص من كل آثار الواقع والارتباط به، فمثلاً: الجسم الكروي هو تجريد لعدد كبير من الأشكال كالتفاحة والشمس وكرة اللعب... ، فالشكل الواحد يوحي بأشكال متعددة " ولقد حوّلت التجريدية المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر ، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة تحمل في طيّاتها شيئاً من خلاصة التجربة التشكيلية التي مرّ بها الفنان ."
اللوحة أعلاه أحد الأعمال الفنية التجريدية التي ابدع في تكوينها التشكيلي العراقي شاكر حسن آل سعيد عام 1966، حيث يلاحظ المشاهد ومن الوهلة الاولى إن مضمون هذا العمل مُستمد بدراية من الحرف العربي لما يملكه من قدرة توصيلية الى العالم المحيط فضلا عن محاولة كسر التقليد فـي العمل الفني والانفتاح إلى آفاق جديـدة وتطوير التعبيـر بالحرف وإدخاله إلى الفن التشكيلي والتجريد على وجه الخصوص، ويبدو جلياً لمتابعي اعمال ال سعيد ان هذا العمل إنما انجز لتوضيح حدود الحروف وعمقها في الفكر الإنساني والتأكيد على الروابط الحضارية والثقافية بين أفراد الأمة الواحدة.
إن المضمون التأمُّلي هو انعكاس لرؤية فلسفية نظراُ لما يمتلكه الحرف من قيمة تراثية وحضارية وهو مُحمّل بالدلالات التي تعكس موقف الفنان الاجتماعي مستلهماً إمكانية الإيحاء اللغوي من الحرف العربي وطاقته التجريدية، فقد استعاض الفنان عن العناصر التشكيلية بالحروف والأرقام، وقـد لاقى هذا الاتجاه صدىً كبيراً، فالقيمة الجمالية للحرف العربي تعكس الروح العربية المُتمثلة بالشخصية العربية وقد تُعبّر ايضاً عن انطلاقة في تعميق شخصية الفن التشكيلي في اقتباسه للحرف .
ونرى إن التكوين في هذا العمل هو تجدُّد في حركة الحرف، كعنصر تشكيلي مهم في بعض أجزاء اللوحة وفضاءاتها ملتصقة على الجدار الذي هو خلفية للّوحة حيث جاء استخدام الفنان للحروف (القاف والواو والألف والميم والسين والهاء) وقد ادخل كذلك ضمن هذا التكوين العديد من الأرقام (واحد وأربعة وخمسة)، وأضاف إلى هذا العمل أيضاً العديد من الزخارف والأشكال الهندسية لخلق نوع من التكامل والانسجام، كذلك إحداث التداخلات الزخرفية مع الرقمية والحرفية .
وقد اعتمد الفنان الألوان الأساسية والثانوية ذات الملمس الخشن بانسجام وتناسُق، أما خلفية العمل الفني فقد تكوّنت من اللون البُني الممزوج بالأحمر الفاتح على عكس التكوينات المرسومة وذلك لإبراز جمالية هذا العمل الفني، ونلاحظ هنا عنصر التكرار بالأشكال الهندسية والزخارف المرسومة، وقد كان العمل مُنطلقاً من المرجعيات المتعددة للفنان ولمفرداته البيئية وإلى رؤيته في استلهام الحرف العربي كقيمة جمالية تجريدية .
سامر قحطان القيسي الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق