هذا المقال عبارة عن دراسة نقديّة لمقال الأستاذ محمّد علي سلطان، الذي نُشـر في مجلَّة نصوص معاصرة، في عددها التاسع، تحت عنوان: (البكاء على الحسين نقد في السند والمتن لبعض نصوص الرثاء)، والذي تعرَّض فيه الكاتب إلى ضعف بعض نصوص البكاء والرثاء سنداً، وعدم دلالة بعضها على المدّعى متناً.
إنّ نهضة الحسين عليه السلام كما تعرّضت لإشكالات واستفسارات قبل وبعد وقوعها، كذلك إحياء ذكره تعرّض إلى جملة من الإشكالات والاعتراضات والتشويهات المقصودة، من قِبل الأعداء والمخالفين، وهؤلاء معروفة غاياتهم وتوجهاتهم ونياتهم من وراء ذلك.
لكن بقي الحسين عليه السلام وبقيت نهضته مَعلماً شاخصاً وأُسوة يقتدي به الموالف والمخالف، مهما حاول الأعداء طمس تلك المعالم الإلهية والدلائل الربانيّة، أو التشكيك فيها، أو ذرّ الغبار على أنوارها الساطعة.
وهذا كلّه قد يهون، إلاّ أنّ ما يؤسف في الأمر هو أنّ بعض الموِالين ـ قصوراً أو تقصيراً منهم في فهم الواقع بصورته الصحيحة، وكما ينبغي أن يكون عليه ـ قد أعانوا في تشويش الصور والمعالم الحسينيّة، ونحن لا نريد أن نشكك في نوايا الموالين والمحبين، وإنّما نريد أن نُظهِر بعض العتب الجميل على تلك المحاولات التي مُلئت بالشبهات، والتي يطغى عليها عادةً قصـر النظر وقصور الفهم، أو التسرُّع بالحكم وتزكية الفكر.
وتظهر هذه المحاولات بأساليب وصور مختلفة، فتارة تظهر بصورة مقال: عاشوراء الحسين عليه السلام وعاشوراء الشيعة؛ لإيقاع التمايز بين الحسين وشيعته، وتارة بصورة نقد جملة من الشعائر، كـالتشابيه وغيرها، كما في مقال صولة الحقّ على جولة الباطل، وأُخرى بالصورة التي تعرَّض لها السيد محسن الأمين في كتاب رسالة التنزيه.. وكُلّ هذه الكتابات والنصوص تؤدي إلى نتيجة واحدة ـ سواء كانت بقصد أو بدون قصد ـ وهي إضفاء الضبابية على نهضة الحسين عليه السلام، ورسم علامات استفهام كبيرة فوقها، وإذابة روح الجاذبية والحماس فيها، تلك النهضة التي تعدّ المائز الرئيس في بناء كيان التشيع ورسم مَعلمه الشامخ والنَيّر.
يقول الشيخ محمّد هادي الأميني واصفاً ردّة فعل الشيخ محمّد جواد البلاغي تجاه كلام السيد الأمين: ((فحين أفتى بعض العلويين في الشام وتبعه علويٌّ آخر في البصرة بحرمة الشعائر الحسينيّة، وزمّر وطبّل على هذه الفتوى كثير من المغرضين المعاندين، شوهد هذا الشيخ الكبير ـ على ضعفه وعجزه ـ أمام الحشد المتجمهر للعزاء يمشي وهو يضرب على صدره، وقد حلّ إزاره، وخلفه اللطم والأعلام، وأمامه الضرب بالطبل))[1].
هذا، وقد ظهرت هذه المرّة ـ وللأسف ـ بعض الأصوات من داخل المؤالفين، تدّعي لنفسها العلم والتجديد، تريد رسم الحسين ونهضته بريشتها المتجددة، ونفض الغبار ـ حسبما تزعم ـ عمّا لحق بها من أوهام وخرافات، وأساليب وعادات شوّهت صورتها، وأبعدتها عن حقيقتها، واصفةً بعض أخبار البكاء بالضعف أو الوضع أو الخيال البعيد عن الواقع.
وسوف نلاحظ حقيقة علمهم وتجديدهم، ومدى معرفتهم بتناول الأخبار ودراستها، وهل أنّهم تدبَّروها وفهموها، أو أنهم طالعوا صحفاً ناقصة وأوراقاً طفيفة، ثمّ حكموا عليها بعلم الرجال الذي تناولوه مقلوباً، ولم يميِّزوا أحوال الرجال ولا الطرق والأسانيد؟
وهذا ما سوف نستعرضه في مراجعة المقال الصادر في مجلّة نصوص معاصرة العدد التاسع سنة 1428هـ - 2007م، تحت عنوان البكاء على الحسين عليه السلام نقد في السند والمتن لبعض نصوص الرثاء؛ إذ سنرى مقدار انطباق العنوان على المعنون، وآلية النقد التي استخدمها الكاتب.
قلب الحقيقة ونقص المعلومة:
قال الكاتب في ص245 من المجلّة: ((إنّ البكاء على سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه في أيام عاشوراء ومحرم وصفر من معالم التشيّع، بل وأهمّها منذ العصر البويهي ومعزّ الدولة الذي كان أول مَن أصدر أمراً بالحِداد العام بهذه المناسبة، ودعا الناس فيها لممارسة طقوسهم بحُريّة في ذكرى عاشوراء، فانطلقت المآتم وجرت الشعائر الحسينيّة في الأزقّة والميادين)).
إنّ هذا الكلام وأمثاله إنّما يدلّ على أنّ جملة من الباحثين كأنّهم لم يطالعوا التاريخ ولم يقفوا على الأخبار والأحاديث، ويا ليتهم طالعوا وقرأوا قبل أن يدوّنوا ويكتبوا، ويُتعبوا أنفسهم والآخرين في هذه الإشكالات والمهاترات العلميّة التي يسطّرونها، والكلمات التي لا يعرفون محتواها، وإلاّ فإنّ أيَّ ذي مسكة يتفوّه بالأسطر المتقدِّمة، ويحكم على أنّ البكاء بدأ كمَعلم منذ العصر البويهي أو الفاطمي؟!
فهل أنّ قائل هذا الكلام راجعَ المصادر الشيعيّة أو السنيّة؛ كي يقف على تاريخيّة المأتم الحسيني؟ ومتى بدأ ومتى نشأ؟ ومَن الذي أقامه؟!
وهذه هي كتُبُ الحديث والتاريخ ـ الشيعيّة والسنيّة على السواء ـ ناطقة بأن تاريخ المأتم الحسيني يعود إلى زمن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، قبل شهادة الحسين عليه السلام بخمسين سنة وأكثر، حيث بكاه ونعاه في بيت أبيه عليّ عليه السلام تارة، وفي بيت أُم سلمة أُخرى، وفي بيت عائشة ثالثة، ومَن يريد الاطّلاع يمكنه مراجعة كتاب الشيخ الأميني سيرتنا وسنتنا بتحقيقنا؛ حيث أخرج جملة كبيرة من تلك المآتم وبأسانيد صحيحة وموثّقة تبلغ ثمانية عشر مأتماً، وقد أوردنا جملةً منها في مقال سابق.
وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام ما يربو على ثلاثمائة رواية في بكاء النبيّ صلى الله عليه وآله، وإخباره بمقتل ابنه بشط الفرات، وقال: ((ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله بنحو التواتر عن شهادة ريحانته الإمام الحسين بكربلاء أو بأرض الطفّ، وبكائه عليه قبل وقوع الحادثة))[2].
وذكر ابن سعد في الطبقات جملة من أخبار بكاء النبيّ صلى الله عليه وآله على الحسين عليه السلام، وكذلك ذكر ابن حجر العسقلاني والهيثمي والسيوطي وأحمد بن حنبل وأبو يعلى وغيرهم جملة من الأخبار التي فيها بكاء النبيّ صلى الله عليه وآله على ريحانته وإقامة المأتم عليه، وقد أوردنا جانباً منها أيضاً في المقال المشار إليه. وأوردنا أيضاً نصوصاً تشير إلى بكاء الإمام علي عليه السلام وإقامته المأتم على ابنه الحسين عليه السلام.
ثمّ بعد استشهاد الحسين عليه السلام رأى ابن عباس النبيّ صلى الله عليه وآله وهو يلتقط دم الحسين عليه السلام وأصحابه[3].
وكذلك ناحت الجنّ وبكت على الحسين عليه السلام، كما ورد ذلك في جملة من المصادر الحديثيّة، كالمعجم الكبير للطبراني، ومجمع الزوائد للهيثمي[4]. وبكته الوحوش والحيوانات والأرضون والسماوات[5].
وقد أقامت زينب بنت علي عليهما السلام بعد استشهاده عدّة مآتم، مأتماً على جسده الشريف في أرض الطفّ، وعند عبيد الله بن زياد في الكوفة[6]، وفي دمشق عند يزيد لعنه الله[7].
وخطب الإمام زين العابدين خطبته المعروفة التي بيّن فيها مناقب أبيه، وأبكى الحاضرين في مجلس عبيد الله بن زياد[8].
وأقام الإمام زين العابدين عليه السلام المأتم على أبيه، و((بكى على أبيه الحسين عليه السلام عشرين سنة، وما وُضع بين يديه طعام إلاّ بكى، حتّى قال له مولى له: يا بن رسول الله، أما آن لحزنك أن ينقضي؟! فقال: ويحك! إنّ يعقوب النبيّ عليه السلام كان له اثنا عشر ابناً فغيّب الله عنه واحداً منهم؛ فابيضّت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمّي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي، فكيف ينقضي حزني؟!))[9].
وكان ((قد اتّخذ منزلاً من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي عليهما السلام بيتاً من شَعر، وأقام بالبادية، فلبث بها عدّة سنين؛ كراهية مخالطته الناس وملابستهم، وكان يصير من البادية بمقامه بها إلى العراق زائراً لأبيه وجده عليهما السلام))[10].
وأي مأتم أجلّ وأعظم من هذا المأتم الذي يقيمه حجة الله في زمانه الإمام زين العابدين عليه السلام بالبكاء المتواصل طيلة عشرين سنة أو أكثر، بمرأى ومسمع من شيعته ومواليه، حتّى وصل بهم الأمر إلى الإشفاق عليه؛ بسبب الإعياء والإرهاق الذي أصابه من شدّة الحزن والبكاء؟! ومهما عملت الشيعة وصنعت في مآتمها وحزنها وبكائها، لا تصل إلى ما قام به الإمام السجاد عليه السلام.
كما أنّنا نطالع أيضاً أنّ شعراء عصـر الإمام الباقر عليه السلام كانوا ينشدونه في جده الحسين عليه السلام الشعر ((فبكى عليه السلام وبكى أبو عبد الله، وسُمعت جارية تبكي من وراء الخباء، ثم قال: ما من رجل ذَكَرنا أو ذُكِرنا عنده فتخرج من عينيه ماء، ولو قدر مثل جناح البعوضة، إلا بنى الله له بيتاً في الجنّة، وجعل ذلك حجاباً بينه وبين النار))[11].
وفي مزار ابن المشهدي بسند صحيح، عن عبد الله بن سنان قال: ((دخلت على سيدي أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام يوم عاشوراء، فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن، ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط، فقلت: يا بن رسول الله، مِمَّ بكاؤك؟! لا أبكى الله عينيك. فقال لي: أوَ في غفلة أنت؟! أوَ ما علمت أنّ الحسين بن علي عليهما السلام قُتل في هذا اليوم؟!))[12].
وكذلك بقيّة أئمة أهل البيت عليهم السلام أقاموا المآتم على جدِّهم الحسين عليه السلام باستقدام الشعراء وإنشادهم الشعر، وذكرهم لما جرى على سيد الشهداء في كربلاء، وتحدِّثهم بما أصاب الحسين عليه السلام وإخوته وأصحابه، وما جرى على عياله من الضرب والسبي.
فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأئمة أهل البيت عليهم السلام هم أول مَن أسس مجالس العزاء والبكاء على سيد الشهداء، وذكر مصيبته وما جرى عليه وعلى أهل بيته في كربلاء، وأمروا الشيعة بذلك، وأوصوهم بالمواظبة والحضور فيها، وعلى ذلك سارت الشيعة واقتدت بأئمتها في الاجتماع وعقد المجالس وذكرِ مصائبهم، وعلى رأسها مصيبة الحسين عليه السلام؛ لأنّ ما جرى في كربلاء لم يجر مثله على أحد من الخلائق، حيث ذبحوا ابن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، وقتلوا أبناءه وسبوا نساءه.
فما استفتح به الكاتبُ مقالَه عارٍ عن الصحّة، ومخالف لما ورد في الأخبار والروايات، والتي ذكرنا جزءاً يسيراً منها آنفاً.
الخلط بين أصل العزاء وعلنيته:
أضف إلى ذلك أنّ الكاتب قد وقع في خلط كبير؛ حيث لم يفرِّق بين إقامة العزاء والبكاء على الحسين عليه السلام، وبين خروج المواكب والسير في الأزقّة والطرقات الذي حدث في زمن معزّ الدولة، فإنّ المأتم والبكاء عريقان في أدبيات الشيعة، لكن سرعة الولوج في الأُمور، وعدم التثبُّت، تؤدّي إلى الخلط، وتغشّي العين لتريها الشمس غيوماً والنهار ليلاً.
الخلط بين نقد المتن ونقد السند:
ذكر الكاتب أنّ ما ورد حول البكاء على شهداء الطفّ ينقسم إلى الصحيح والضعيف والمكذوب ـ ولم يبيّن ضابطة القسم الثالث والميزان الذي على ضوئه حَكَم بكذب تلك الروايات ـ وأنّ جملة من الروايات أدَّت إلى تشويه صورة كربلاء.
وهذا الكلام يمكن تسليط الضوء عليه من جهتين:
الجهة الأُولى: النقاش فيه من جهة استنتاجاته العقيمة من نصوص ومتون الروايات التي حكم أنّها مشوِّهة لكربلاء، وهذا ما سوف نتعرَّض إليه في القسم الثاني من هذا المقال.
الجهة الثانية: الخلط الذي وقع فيه الكاتب بين نقد السند ونقد المتن، وذلك أنّ الموقف تجاه الخبر إمّا أن يبتني على قاعدة الوثاقة مبنى الوثاقة، وأنّ المدار على وثاقة الراوي، كما هو مبنى بعض الأعلام ـ كالسيد الخوئي وبعض تلاميذه ـ فإن كان الراوي موصوفاً بالوثاقة وصحّة النقل يكون خبره صحيحاً أو موثقاً، وإلاّ فلا اعتبار به.
وإمّا أن يبتني على قاعدة الوثوق بالصدور، كما هو مبنى بعضٌ آخر من الأعلام ـ كالسيد البروجردي وبعض تلاميذه ـ حيث بنوا على أنّ المدار هو المتن ومجموع القرائن المحيطة به، لا خصوص السند، فقد يكون بعض رواة الخبر مجهولين، أو مطعوناً فيهم، إلاّ أنّ متن الخبر مقبول ولا غبار عليه؛ لقرائن وشواهد داخلية أو خارجية تورث اطمئناناً بالصدور.
وهذا ما لم يلتفت إليه الكاتب، حيث نلاحظ أنّّه قسّم بحثه إلى قسمين، تعرّض في القسم الأوّل إلى ضابطة الوثاقة، ونقد جملة من الروايات على وفقها، وحكم بضعفها، ولم ينظر إلى متن الرواية، حتى فيما إذا كان هنالك جملة من الأخبار الصحيحة تدعم ذلك المتن، بل قد يوجد بينها تقارب حتّى في بعض ألفاظها. وهذا ما لا يمكن قبوله وفق القواعد؛ لأنّ في مثل هذه الحالة ـ حتّى على مبنى مَن يقول بالوثاقة ـ لا يُردّ الخبر أو يهمل تماماً، بل يكون الحديث مقبولاً؛ لوجود نصوص أُخرى تدعمه وتثبت محتواه.
كما أنّه في القسم الثاني، وهو بحث المضمون، قد أغفل البحث السندي وقطعه تماماً، وتناول المتن وأخذ بالتعامل معه على أساس ذوقه العقلي في معقوليّة الخبر من عدمه، حسب ما يراه. بينما كان المفروض مراجعة سنده أو النظر إليه؛ كي يحكم عليه بعد ذلك؛ لأن الأخذ بالموثوق لا يعني إغفال النظر عن السند تماماً، وإنّما السند يُشكّل عنصراً من عناصر الوثوق أو عدمه في الخبر.
عدم انطباق العنوان على المعنون:
من ناحية أُخرى نجد أنّ الكاتب عنوَن كلامه في ص246 بعنوان الحاجة إلى نقد روايات السيرة الحسينيّة، إلاّ أنّ المعنون إذا ما قرأناه نجد أن العنوان لا ينطبق عليه أصلاً، فلم يذكر وجه الحاجة إلى النقد، أو الفوائد المترتّبة عليه، أو ما يرتبط بذلك، ويمكن مراجعة كلامه من ص246 إلى السطر الرابع من ص247، وخلاصة ما ذكره:
1- إنّ نقد روايات السيرة الحسينيّة لا يلازم المساس بحيثيّة الواقعة، أو التنقيص منها، أو التشكيك في ثبوتها.
2- إنّ روايات السيرة الحسينيّة وإن نقلها مشايخ أجلاء وسطّروها في أسفارهم الحديثيّة، إلاّ أنّ ذلك لا يبرر عدم نقدها ودراسة متونها وأسانيدها.
فنلاحظ أنّ العنوان يخالف ما أورده في المعنون، فالعنوان ورد لبيان الحاجة إلى نقد روايات السيرة الحسينيّة، بينما ما ذكره في كلامه لا يبيِّن الحاجة، فأيّ ربط بين العنوان وبين الأمر الأول، من أنّ نقد روايات السيرة الحسينيّة لا يلازم إنكارها أو التقليل من شأنها؟! إذ إنّ هذا الأمر يكون بعنوان تنبيه على أنّ المناقشة للأخبار لا يلازم إنكار أصل الواقعة أو المساس بها، وهو أمر أجنبي تماماً لا علاقة له بالحاجة المذكورة.
والأمر الثاني أيضاً كالأول أجنبي عن الدخالة في الحاجة؛ إذ أي تلازم بين الحاجة إلى النقد وبين تدوين الأخبار من قِبل الأعلام الأجلاّء المتقدمين؟!
اتّهام الأعلام بما لا يناسب شأنهم:
حيث أفاد بأنّ هؤلاء الأعلام الذين نقلوا روايات البكاء والعزاء قد تطغى عليهم العواطف والأحاسيس، وتخرجهم عن موضوعيّة التدوين؛ فيسطّرون كُلّ ما يجدونه من روايات وأخبار، قال: ((قد يخضع الأعلام أنفسهم لما يتأثر به غيرهم من العواطف والأحاسيس...))[13].
وهذا الكلام يُعدُّ طعناً في علماء الطائفة والمحدِّثين الأجلاّء، الذين سيعتمد الكاتب على توثيقاتهم وتضعيفاتهم في حقّ الرواة، فضلاً عن جلالة قدرهم وعلو منزلتهم، وعدم انسياقهم وراء المشاعر المخرِجة عن حدّ الموضوعيّة، كما يزعم صاحب المقال. وأين نضع عبارة ابن قولويه في كامل الزيارات حينما قال: ((وأنا مبيِّن لك أطال الله بقاك ـ ما أثاب الله به الزائر لنبيه وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، بالآثار الواردة عنهم عليهم السلامـ ... ولم أُخرج فيه حديثاً روي عن غيرهم؛ إذ كان فيما روينا عنهم من حديث صلوات الله عليهم كفاية عن حديث غيرهم، وقد علمنا أنّا لا نحيط بجميع ما روي عنهم في هذا المعنى ولا في غيره، ولكن ما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته، ولا أخرجت فيه حديثاً روي عن الشذاذ من الرجال يؤثر ذلك عن المذكورين غير المعروفين بالرواية، المشهورين بالحديث والعلم))[14].
إذ يصـرحw بأنّه ينقل الروايات المشهورة عن المعروفين بالعلم والمشهورين بالحديث، ويهمل الشاذ النادر، وإن ورد عن رواة شيعة، إن لم يكونوا معروفين، مع تصريح الكاتب بأنّ بحثه في الروايات الواردة في كامل ابن قولويه؛ حيث قال: ((هناك أكثر من أربعين حديثاً نصّت مضامينها بشكل مباشر على رثاء الحسين عليه السلام.. وقد وردت جلُّها في كامل الزيارات لابن قولويه))[15].
وقال الشيخ الصدوق والذي ينقل جملة من أخبار السيرة الحسينيّة في الأمالي والعيون: ((وحذفتُ الإسناد منه؛ لئلا يثقل حمله ولا يصعب حفظه ولا يملُّه قاريه؛ إذ كان كل ما أُبيِّنه فيه من الكتب الأصولية موجوداً مبيّناً عن المشايخ العلماء الفقهاء الثقات رحمهم الله))[16].
وقال في كتابه ثواب الأعمال: ((إنّ الذي دعاني إلى تأليف كتابي هذا ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال: الدالّ على الخير كفاعله، وسميته كتاب ثواب الأعمال، وأرجو أن لا يحرمني الله ثواب ذلك، فما أردت من تصنيفه إلاّ الرغبة في ثواب الله وابتغاء مرضاته سبحانه، ولا أردت بما تكفلته غير ذلك، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل))[17].
وقال ابن المشهدي: ((فإنّي قد جمعت في كتابي هذا من فنون الزيارات للمشاهد، وما ورد في الترغيب في المساجد المباركات والأدعية المختارات، وما يُدعى به عقيب الصلوات، وما يناجى به القديم تعالى من لذيذ الدعوات والخلوات، وما يلجأ إليه من الأدعية عند المهمات، ممّا اتّصلت به ثقات الرواة إلى السادات))[18].
فمثل هذه الكلمات لا يمكن اتّهام أصحابها بما قاله، إذ ستُشكّل منحًى خطيراً ليس في رواياتهم فحسب، بل ينعكس حتّى على التوثيق والتضعيف عند الترجمة؛ وبالتالي سيكون كلامهم مشكوك الاعتبار، ما لم نحرز صدوره لا عن إحساس ومشاعر، وإنّما عن موضوعيّة وتَروّ، مضافاً إلى أننا نجد أنّ نفس الكاتب سيناقش الأخبار من جهة السند بما أورده هؤلاء الأعلام من توثيق وتضعيف!!
الخلط بين روايات السيرة وروايات الثواب:
وهنالك خلط آخر وقع فيه الكاتب يلحظه القارئ في المقال؛ حيث يردد عبارة روايات السيرة الحسينيّة في أكثر من موطن، مع أنّه يبدأ مناقشته لأخبار الثواب والأجر المترتّب على البكاء على الحسين عليه السلام، وهذا لا ربط له بالسيرة، وإنّما مرتبط بأثر شرعي وأنّ البكاء والحزن على سيد الشهداء مستوجب للإثابة والجزاء الجميل لفاعله، وهو أثر يدخل في باب المطلوبيّة والمحبوبية للمولى سبحانه وتعالى. بينما السيرة تعني سرد الحادثة الواقعة والمأساة التي رُزئ بها أبناء النبيّ صلى الله عليه وآله في كربلاء، من دون ارتباطها بأثر شرعي، من الإثابة والثناء الجميل.
النقاش في روايات البكاء جهد العاجز:
إنّ مسألة البكاء على الإمام الحسين عليه السلام ممّا تواترت فيها الأخبار من كلا الفريقين، بل صرَّح جملة من علماء السنّة بتواترها، ودُوِّنت في المعاجم الحديثيّة والمسانيد والتراجم على السواء، ويكفي ما استخرجه المحقق المحمودي في جزئيه المستخرج من تاريخ مدينة دمشق في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام، وفيها ما يناهز الثلاثمائة رواية، ويكفي أقلّ من هذا العدد بكثير للحكم بالتواتر، فكيف إذا ما وصل العدد إلى ما ذُكر.
وأما في المصادر الشيعيّة، فالروايات التي وردت حول المأتم والبكاء والحزن والجزع وثواب ذلك، كثيرة جداً، ما يثبت التواتر بسهولة، فلا حاجه للبحث والتدقيق في أسانيد الروايات منفردة، ومَن يفعل ذلك فهو جديد عهد بصناعة الحديث، ولم يسبر أحكامه وكيفيّة تطبيق قواعده عليه، فما بالك فيما إذا رجعنا إلى الأسانيد ووجدنا عشرات الروايات صحيحة الإسناد، رواها رواة عدول ثقات.
وسنورد فيما يلي جملة من الأخبار الصحيحة، التي تتحدَّث عن ثواب وأجر البكاء والجزع على الحسين عليه السلام، للتبرك لا للإثبات؛ لأنها ثابته بالتواتر:
1 ما رواه الشيخ الصدوق في ثواب الأعمال، حيث قال: ((حدَّثنا محمّد بن موسى المتوكل، قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحميري، عن أحمد وعبد الله ابني محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن زرين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول: أيُّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين عليه السلام حتّى تسيل على خده بوأه الله تعالى بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً، وأيُّما مؤمن دمعت عيناه حتّى تسيل على خديه فيما مسَّنا من الأذى من عدونا في الدنيا بوأه الله منزل صدق، وأيُّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتّى تسيل على خده من مضاضة أو أذى فينا صرف الله من وجهه الأذى، وآمنه يوم القيامة من سخط النار))[19].
قال الحر العاملي: ((ورواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن الحسن بن محبوب، ورواه ابن قولويه في المزار عن الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى، عن أبيه الحسن بن محبوب مثله))[20].
وسند التفسير كالتالي قال: ((حدَّثني أبي، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام...))[21]، وهو سند صحيح رجاله ثقات.
ورواها ابن قولويه بسنده، إذ قال: ((حدَّثني الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن زرين، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام...)).
والسند صحيح رواته ثقات، صُرِّح بوثاقة جميع رواته في الكتب الرجالية، ما عدا شيخ ابن قولويه الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى، فلم يرد له ذكر في كتب الرجال، إلا أنّه من مشايخ ابن قولويه، وقد وثّق مشايخه المباشرين؛ إذ قال في المقدمة: ((وما وقع لنا من جهة الثقات من أصحابنا رحمهم الله برحمته))[22].
2 ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي، حيث قال: ((حدَّثنا جعفر بن محمّد بن مسرور رحمه الله، قال: حدَّثنا الحسين بن محمّد بن عامر، عن عمّه عبد الله بن عامر، عن إبراهيم بن أبي محمود، قال: قال الرضا عليه السلام: إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرِّمون فيه القتال، فاستُحِلَّت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، واُنتهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرعَ لرسول الله صلى الله عليه وآله حرمة في أمرنا.
إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كربلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام)).
ثُمّ قال عليه السلام: ((كان أبي صلوات الله عليه إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلوات الله عليه))[23].
وسند الحديث صحيح رواته ثقات، إلاّ جعفر بن محمّد بن مسرور؛ حيث لم يرد فيه توثيق صريح، إلاّ أنّه معتبر؛ إذ روى عنه الشيخ الصدوق عدّة روايات مترحِّماً عليه، وهذه شهادة منه على حسن حاله واستقامة أمره، فالرواية تامّة سنداً.
قال السيد ابن طاووس: ((فمِن الأحاديث عن أئمّة المعقول الذي يصدق فيها المنقول للمعقول ما رويناه بعدّة طرق إلى الشيخ أبي جعفر محمّد بن علي بن بابويه من أماليه بإسناده، عن إبراهيم بن أبي محمود..))[24]. وذكر الحديث المتقدم.
3 ما رواه الشيخ الصدوق في الأمالي أيضاً بسنده، قال: ((حدَّثنا محمّد بن إبراهيم[25] رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمّد الهمداني، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه، ومَن سمّي يوم عاشوراء يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادّخر، وحُشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله إلى أسفل درك من النار))[26]. والرواية صحيحة سنداً، رجالها ثقات.
4 كذلك ما رواه الشيخ الصدوق بسنده، قال: ((حدَّثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار رحمه الله، قال: حدَّثني أبي محمّد بن يحيى، قال: حدَّثنا محمّد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن الحسن بن الحسين اللؤلؤي، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان، عن علي بن المغيرة، عن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال لي: يا أبا عمارة، أنشدني في الحسين بن علي عليه السلام. قال: فأنشدته فبكى، ثُمّ أنشدته فبكى، قال: فوالله، ما زلت أُنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدار، قال: فقال لي: يا أبا عمارة، مَن أنشد في الحسين بن علي عليهما السلام فأبكى خمسين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنّة ، ومَن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فبكى فله الجنّة، ومَن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنّة))[27].
ورواها أيضاً في كتاب ثواب الأعمال عن محمّد بن علي ماجيلويه، عن محمّد بن يحيى العطار..[28].
ورواها ابن بابويه في الكامل بسنده عن أبي العباس، عن محمّد بن الحسين، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان..[29]. وسند الرواية في الأمالي وثواب الأعمال والكامل صحيح، رواته ثقات.
5 ما رواه الكشي في اختيار معرفة الرجال بسنده، حيث قال: ((حدَّثني النصر بن الصباح، قال: حدَّثني أحمد بن محمّد بن عيسى، عن يحيى بن عمران، قال: حدَّثنا محمّد بن سنان، عن زيد الشحَّام، قال: كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام ونحن جماعة من الكوفيين، فدخل جعفر بن عفّان على أبي عبد الله عليه السلام، فقرّبه وأدناه، ثمّ قال: يا جعفر. قال: لبيك، جعلني الله فداك. قال: بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتجيد؟ فقال له: نعم، جعلني الله فداك. فقال: قل. فأنشده عليه السلام ومَن حوله حتى صارت له الدموع على وجهه ولحيته. ثمّ قال: يا جعفر، والله، لقد شهدك ملائكة الله المقربين هاهنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام، وقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنّة بأسرها، وغفر الله لك. فقال: يا جعفر، ألا أزيدك! قال: نعم يا سيدي. قال: ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له))[30]. والسند صحيح، فالنصر بن الصباح وإن اتُّهم بالغلو، كما عن الكشي[31]، لكن رواياته مستقيمة ليس فيها شيء ولم يُتّهم بغير الغلو.
6 وروى في الكامل بسنده، قائلاً: ((حدَّثني محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن علي بن محمّد بن سالم، عن محمّد بن خالد، عن عبد الله بن حمّاد البصري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن مسمع بن عبد المالك كردين البصري، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا مسمع، أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين عليه السلام؟ قال: لا، أنا رجل مشهور عند أهل البصرة، وعندنا مَن يتبع هوى هذا الخليفة، وعدونا كثير من أهل القبائل من النُصّاب وغيرهم، ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيمثلون بي. قال لي: أفما تذكر ما صنع به؟ قلت: نعم. قال: فتجزع؟ قلت: أي والله، وأستعبر لذلك حتّى يرى أهلي أثر ذلك علَيَّ، فأمتنع من الطعام حتّى يستبين ذلك في وجهي.
قال: رحم الله دمعتك، أما إنّك من الذين يُعدّون من أهل الجزع لنا، والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنّا، أما أنّك سترى عند موتك حضور آبائي لك، ووصيتهم ملك الموت بك، وما يلقونك به من البشارة أفضل، وملك الموت أرقّ عليك وأشدّ رحمة لك من الأمّ الشفيقة على ولدها.
قال: ثمّ استعبر واستعبرتُ معه، فقال: الحمد لله الذي فضّلنا على خلقه بالرحمة وخصّنا أهل البيت بالرحمة، يا مسمع، إنّ الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين عليه السلام رحمةً لنا، وما بكى لنا من الملائكة أكثر، وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا، وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلاّ رحمه الله قبل أن تخرج الدمعة من عينه، فإذا سالت دموعه على خده فلو أنّ قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرّ، وإنّ الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة، لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض، وإنّ الكوثر ليفرح بمُحبِّنا إذا ورد عليه حتّى أنّه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه))[32].
7 ما رواه ابن بابويه في الكامل أيضاً بسنده، حيث قال: ((حدَّثني محمّد بن جعفر الرزاز، عن محمّد بن الحسين، عن الحكم بن مسكن، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الحسين بن علي عليهما السلام: أنا قتيل العبرة))[33].
والسند صحيح، وقد رواه بعدّة أسانيد صحيحة أُخرى، منها: ((حدَّثني محمّد بن الحسن، عن محمّد الحسن الصفّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن محمّد بن خالد البرقي، عن أبان الأحمر، عن محمّد بن الحسين الخزار، عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله عليه السلام:..))، وذكره وأضاف: ((لا يذكرني مؤمن إلاّ بكى))[34].
8 ما رواه الشيخ الطوسي في الأمالي بسنده، حيث قال: ((حدَّثنا محمد بن محمد، قال: حدَّثنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن قولويه رحمه الله، قال: حدَّثني أبي قال: حدَّثني سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب الزراد، عن أبي محمد الأنصاري، عن معاوية بن وهب، قال: كنت جالساً عند جعفر بن محمد عليهما السلام إذ جاء شيخ قد انحنى من الكبر... فقال له أبو عبد الله: أين أنت من قبر جدي المظلوم الحسين عليه السلام؟! قال: إنّي لقريب منه، قال: كيف إتيانك له؟ قال: إنّي لآتيه وأُكثر. قال يا شيخ، ذلك دم يطلب الله تعالى به... ثمّ قال: كلُّ الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام))[35]. وسند الرواية صحيح.
9 روى جعفر بن محمّد بن قولويه في كامل الزيارات، قال: ((حدَّثني أبي، عن سعد بن عبد الله، عن أبي عبد الله الجاموراني، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إنّ البكاء والجزع مكروه للعبد في كلّ ما جزع ما خلا البكاء والجزع على الحسين بن علي عليهما السلام، فإنّه فيه مأجور))[36]. والسند صحيح.
هذا نموذج من مئات الروايات الواردة حول البكاء على الحسين عليه السلام، وهي صحيحة الإسناد، مضافاً إلى غيرها التي هي بين موثق، أو ضعيف يمكن جبر ضعفه بورود متونها في أسانيد أُخرى صحيحة، وذكرنا هذه الروايات كي نبيِّن أنّه إذا ورد في حادثة معينة جملة من الروايات الصحيحة التي تصل إلى حدّ التواتر إذا ما انضمّ بعضها إلى بعض، فالبحث في أسانيدها ورواتها غير مجدٍ ومخالف للصناعة الحديثيّة؛ لأنّها متواترة.
وهذا ما غفل عنه الكاتب ولم يلتفت إليه، فورد غير ورده، وشرب من غير مائه. وأخذ يذكر أسانيد بعض الأخبار ويناقشها تارة سنداً وأُخرى متناً، وهذا ما سنسلِّط الضوء عليه بشكل أكبر في القسم الثاني من هذا المقال. إن شاء الله.
الكاتب: لؤي المنصوري
مجلة الإصلاح الحسيني – العدد الثاني
مؤسسة وراث الأنبياء للدراسات التخصصية في النهضة الحسينية
________________________________________
[1] معجم رجال الفكر والأدب في النجف خلال ألف عام: ج1، ص353.
[2] ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين: ص236.
[3] اُنظر: الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين: ج4، ص439. أحمد بن حنبل، مسند أحمد: ج1، ص283. عبد بن حميد، المسند:ج1، ص235.
[4] اُنظر: الطبراني، المعجم الكبير:ج3،ص121، ح2862. الهيثمي، مجمع الزوائد: ج9، ص199.
[5] اُنظر: الصدوق، عيون أخبار الرضا: ج1، ص269.
[6] الأمين، السيد محسن، لواعج الأشجان: ص186، والجنّة في الإرشاد: ج3، ص112.
[7] اُنظر: المصدر نفسه: ص239.
[8] اُنظر: المصدر نفسه: ص234.
[9] الصدوق، الخصال: ص517.
[10] ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج2، ص273.
[11] القمّي، كفاية الأثر : ص249.
[12] ابن المشهدي، المزار: ص473. الشيخ الطوسي، مصباح المتهجِّد: ص782.
[13] نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص246 ـ 247.
[14] ابن بابويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات، المقدمة: ص36 ـ 37.
[15] مجلّة نصوص معاصرة، العدد التاسع: ص247.
[16] الصدوق، المقنع، المقدمة: ص3.
[17] الصدوق، ثواب الأعمال: ص2.
[18] ابن المشهدي، المزار: ص27.
[19] الصدوق، ثواب الأعمال: ص83 .
[20] الحر العاملي، وسائل الشيعة آل البيت: ج14، ص501.
[21] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص201.
[22] المصدر نفسه: 20.
[23] الصدوق، الأمالي: ص190.
[24] ابن طاووس، إقبال الأعمال: ج3، ص28.
[25] محمّد بن إبراهيم الطالقاني من مشايخ الصدوق، وقد أكثر عنه.
[26] الصدوق، الأمالي: ص191.
[27] المصدر نفسه: ص205.
[28] الصدوق، ثواب الأعمال: ص84.
[29] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص 208.
[30] الشيخ الطوسي، اختيار معرفة الرجال رجال الكشي:ج2، ص575.
[31] اُنظر: المصدر نفسه: ج1، ص71.
[32] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص203.
[33] المصدر نفسه: ص215.
[34] المصدر نفسه: 216.
[35] الطوسي، الأمالي: ص162.
[36] ابن قولويه، جعفر بن محمد، كامل الزيارات: ص202.
اترك تعليق