ضمّ نهج البلاغة بين دفتيه، ما لم يحوه كتاب سوى كتاب الله العزيز، من الأمور التي ترسم للإنسان علاقته مع ربه ومع نفسه ومع المجتمع, كما رسم هذا النهج العظيم العلاقات بين كل شرائح المجتمع المختلفة، والتي تكوّن بمجموعها المنظومة الاجتماعية النموذجية المتكاملة.
ولم يغفل نهج البلاغة، وقد ضمّ كل هذه الأمور الاجتماعية والاقتصادية والفكرية، جانباً عظيم الأهمية في حياة الأمة الإسلامية، ألا وهو دور قيادة الأمة بعد الرسول الكريم، والسير بالمسلمين وفق ما جاء به النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والشريعة السمحاء وتطبيقها وهو الدور المُناط بآل البيت الأطهار (عليهم السلام) كما دلّت على ذلك الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث الرسول الكريم وأكدته سيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ولا يخفى ما لهذا الدور من أهمية في حياة الأمة، فهو الذي يرسم لها مسارها الذي اختطه الله لها في تطبيق الإسلام الصحيح، كما نوّهت عليه الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ), حيث قرنت هذه الآية طاعة الأئمة بطاعة الله والرسول ونوّهت إلى أن أولي الأمر بعد الرسول هم أهل بيته المنصوص عليهم, ويقتضي على الأمة بموجبها طاعتهم في كل أمر أو نهي وإن العمل بمقتضى هذه الأوامر بأي عمل يأتي عن طريق أهل البيت - أولوا الأمر- فقط, والآية صريحة كذلك بالعمل بما لم يرد فيه نصّ تشريعي يدل على إباحته أو حرمته أو وجوبه أو استحبابه فهو يعطي صفة ثانوية للأحكام التي ثبت تحليلها أو تحريمها عن طريق الكتاب والسنة.
إذن, فقد تحدَّد لأولي الأمر دور عظيم في قيادة الأمة وفق ما جاء به الرسول الكريم وقد أجمعت النصوص والأحاديث النبوية الشريفة والروايات المعتبرة على أن أولي الأمر المنصوص عليهم في القرآن هم أهل البيت، الأئمة الاثنا عشر، وكذلك دلت سيرتهم العظيمة على أنهم هم الامتداد الطبيعي لنبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاء الله في أرضه.
ولسنا هنا بصدد سرد تلك الروايات الكثيرة والنصوص المستفيضة حول هذا الأمر الذي أجمع عليه أئمة الحديث والرواة إلّا من شذّ وأعمته العصبية العمياء أو انقاد إلى مظلة حكام الجور واقتات على موائد الظالمين، ولكننا بصدد ما جاء بحقهم وتبيان منزلتهم العظيمة وإبراز دورهم القيادي الفذ في الأمة كما جاء على لسان سيدهم، أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب في نهج البلاغة.
فـ (هم موضع سره، وملجأ أمره، وعيبة علمه، وموئل حكمته، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه).
وهذه الفقرة التي ذكرها الشريف الرضي في نهج البلاغة من ضمن خطبة له (عليه السلام) تحت عنوان: (ومنها يعني آل النبي عليهم السلام، ومراجع الضمائر الأربعة في أمره، وعلمه، وحكمته، وكتبه عائدة إلى الله).
كما لا يخفى إن هذه الصفات لا تنطبق على سواهم من البشر وهي مخصوصة بهم دون غيرهم ممن ادّعوها، ولا يشاركهم بها أحد من الناس سوى الأنبياء والأوصياء، فهم: (حفّاظ أسرار الله وخزّانها) كما يقول (عليه السلام) عنهم وكما دلت على ذلك الروايات الكثيرة في ذلك عنهم.
من هذه الروايات ما رواه أبو بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الكافي قوله: (إن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، لا يحتمله ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله أحداً ذلك الحمل غيرنا، ولا استعبد بذلك أحداً غيرنا، وإن عندنا سراً من سر الله، وعلماً من علم الله، أمرنا بتبليغه فلم نجد له موضعاً ولا أهلاً ولا حمّالة يحملونه، حتى خلق الله لذلك أقواماً، خلقوا من طينة خلق منها محمداً، صلى الله عليه وآله، وذريته ومن نور خلق الله منه محمدًا وذريته، وصنعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمدا وذريته، فبلغناهم عن الله عز وجل ما أمر بتبليغه، فقبلوه واحتملوا ذلك).
والروايات بهذا الصدد عن الأئمة (عليهم السلام) لا تحصى، ويظهر صوت نهج البلاغة (أمير المؤمنين) جلياً في حق أهل البيت بالولاية بعد الرسول والخلافة على الناس باجتماع خصال فيهم لم تتوفر عند أي من البشر:
(لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يساوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، وإليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة).
ولا شك أن كل العلوم الموجودة عند المسلمين تنتهي إليهم، فقد ورد في الكافي عن سليمان الأعمش عن الإمام الصادق، عليه السلام، قوله:
(نحن أئمة المسلمين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولو لا ما في الأرض منا لساخت بأهلها).
وفي المقطع الأخير من الخطبة يبين أمير المؤمنين، عليه السلام، إن الخلافة والولاية هي إرثهم وحقهم وهم المنصوص عليهم من الله بها.
كما شبههم، عليه السلام، بـ (الطريق الوسطى) و(الجادة) التي هي طريق رسول الله في الأحكام الشرعية والتعليمات الإسلامية وكل ما يتعلق بأمور الأصول والفروع والواجبات والمحرمات والمكروهات والمستحبات، إضافة إلى الأمور الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والفلسفية وجميع مناحي الحياة العامة كما في قوله، عليه السلام:
(اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب والنبوة، ومنها منفذ السنة، وإليها مصير العاقبة).
وفي مورد آخر يشبههم، عليه السلام، بنجوم السماء كما في قوله:
(ألا إن مثل آل محمد صلى الله عليه وآله، كمثل نجوم السماء إذا خوى نجمٌ طلع نجم).
وينوّه، عليه السلام، في موضع آخر إلى أثرهم في القرآن الكريم، وما جاء بحقهم فيه من الآيات البيّنات والبراهين الساطعات حول فضلهم ومنزلتهم عند الله فيقول:
(فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن إن نطقوا صدقوا وإن صمتوا لم يسبقوا).
كما يؤكد (عليه السلام) في موضع آخر على أن أهل البيت، هم أقرب الخلق إلى الله وأولى الناس برسوله وأعلمهم بما جاء به من الحق فيقول :
(هم عيش العلم، وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرهم عن باطنهم، وصمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحق ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام، وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية، لا عقل سماع ورواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته قليل).
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق