أصبح التجريد والايقاع الفني من الصفات الملازمة للأشكال في الفنون الإسلامية والتي يسمو من خلالها الفنان بأعماله الابداعية نحو المطلق ، ومن أجل ذلك لم تكن وظيفة الفن نقل الأشكال المرئية ومحاكاتها بحرفية بل إظهار ما وراءها من اللامرئي في ضوء الإحساس بالنظم والقوانين الرياضية التي تحكم الوجود ، فكل عنصر من العناصر المكونة للعمل الفني كالخط واللون وغيرها لابد أن يحقق إيقاعاً سواءً مع ذاته أو تفاعله مع العناصر الأخرى ، فالإيقاع يجب أن يُحقق بواسطة التماثل والتناظر باعتماده على الخطوط وتوزيع المساحات على سطح اللوحة .
حاول الفنان المسلم تجاوز المعالجات الفنية التقليدية للأشكال بغية الاقتراب من الغايات التي يسعى لها في عالم الماوراء السامي ، فالحس والتجريب غير المرتبطين باللهو يُعدّان من الوسائل الهادفة في تحقيق غايات كبرى .. لكن الفنان المسلم تعامل مع حيثيات العالم المرئي من الناحية المادية والحسية من خلال استدعائه لعملية الاستبصار الحدسي لفهم الحقائق تحت ظل العقيدة الإسلامية ، لذا كان لزاماً على الفنان المسلم أن ما يبتعد عن المحاكاة المخالفة للشريعة ، وهنا أخذ التشييد الجمالي منهجاً حدسياً حول الفنان نحو استخداماته لفنون الزخرفة والخط والعمارة وغيرها من الفنون الاسلامية ، وأخذ يجرد ويختزل الاشكال ويسطحها بعيدا عن الظل والضوء والابعاد المنظورية المتعارف عليها في الفن .
إقترنت النتاجات الفنية الإسلامية بالتعبير عن القدرة المطلقة متخذة تكوينات مختلفة ضمن وحدة جسدية كما هو واضح في فنون التصوير الإسلامي ، فالفكر الإسلامي استلهم صوره وأفكاره من الموروث الفكري والعقائدي من أدب وملاحم وأساطير ، فاصبح الفنان يؤمن بوجود قدرة هائلة مطلقة تتحكم في صفات الكائنات الظاهرية حتى اصبحت النتاجات الفنية ترتقي بالحدس ، حيث تلعب القوة التخيلية دوراً مهماً من ناحية تكوين البيئة التصويرية فقد استفاد الفنان من الإعجاز الإلهي والقصص الواردة في القرآن الكريم فضلاً عن الحكايات الشعبية ومدياتها اللاشعورية التي تمتلك أبعاداً عقائدية ترتبط بحياة المجتمع وطقوسه وجميع ممارساته الدينية والاجتماعية ، و لا يشمل ذلك توظيف الأشكال التي تحمل دلالات رمزية في نتاجات الفنان المسلم فحسب بل يتعداه نحو التكوين الفني بشكله العام وما يحتويه من عناصر مجتمعة ،بحيث يكون هو اللغة البصرية الجمالية التي تحاكي المجتمع وتحمل رموزاً شعورية ولا شعورية لها مرجعياتها في حياة الشعوب الإسلامية ، حيث نجد أن الفنان المسلم عمد الى استحداث طريقة لتشكيل الخطوط والألوان والعناصر من شأنها الاسهام في سعة نطاق المعاني الممكنة لها ، بإشارتها لأصولها في العالم المادي وفي العالم الداخلي من خلال رمزيتها ، فضلاً عن جماليتها الخاصة لكونها تستخدم كوسيلةً لنقل الأفكار والخيالات فهي توظف الأشكال بطريقة لا تستخدم في فصلها عن معانيها في الواقع ، بـــل تزيد من نطاق المعاني حسب الطريقة التي تتشكل او ترسم بها ، لنجد في الاخير أن هناك منطقاً عقلياً قائــماً على أسس هندسية ورياضية مـــادتها المربعات و الدوائــــر والمثلثات فـــي وحــدة فنية ساحرة متســـــمة بالفاعلية القصدية وغير متجاوزة لقـدرة الخالق جل وعلا.
إن قوة العلاقة بين الرمز والدين تستند في الواقع على دلالات يقينية أصيلة تكمن في قرارة الإنسان ، فبنية الفكر الخالص للدين الإسلامي هي مصدر الدوافع الأساسية لروح الفنون الاسلامية وموضوعاتها الإبداعية ، وهذه العلاقة ما هي إلا ارتباط تعبيري عن ازدواج الحياة في تصورها الموضوعي وتطبيقاتها ، حيث تكون الحقيقة كامنة في بنية الأشكال الرمزية ، فالرمز يأخذ مجراه بين ينابيع الحقيقة الروحية التي هي في أصلها دوافع للفن عند الفنان المسلم وبين محتواه المادي ، لذا اهتم المسلمون بشكل عام بالرموز الدينية وأولوها عناية خاصة ، لأنها تتصل بالعصب الرئيس لحياتهم التأملية والباطنية فقد فسروا الرؤى والأحلام والإشارات وأولوها تأويلات رمزية مستمدة من كلام الله المنزل في القرآن الكريم ، وهذا ما نراه جلياً ببعض الاعمال الفنية الاسلامية التي تدل اشكالها ورموزها على وحدانية العقيدة والثقافة من ناحية التشابه فيما بينها ، كما هو الحال في بعض العمائر التأريخية الاسلامية في سمرقند وبعض الدول الشرقية الاخرى ، حينما عمد بعض المتصوفة في تلك الازمان الى الافصاح عن معتقداتهم ورموزهم الخاصة الى بعض الحرفيين المهرة ليجسدوها بأعمالهم الفنية لتظهر على شكل رموز تربط بين الفكرة الخفية والمظهر المتجلي لتبقى بمرور الزمن دليلا على وحدانية الله جل شأنه .
ومن الجدير بالذكر ان الفن الإسلامي وتصويره للوجود والكون وديمومته لابد ان يكون فناً خالداً إن صح التعبير في انسيابه عبر الأزمان ، فالفن يكون خالداً حينما يعبر عن قيم ومعتقدات صادقة وعندما يقبل الخلود في كلياته المتحركة لا في جزئياته وصفاته المتغيرة ، ولا شك أن الفن الاسلامي يعبر تعبيراً صادقاً عن معتقد الخلود الذي لا تمثله الجزئيات المتغيرة إنما تمثله كليات الحركة والصيرورة الدائمة فالذي يقصد الجزئيات لا ينتج سوى فناً جزئياً متغيراً قابلا للفناء ...
جمع وتحرير
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق