عِقْدٌ في حَضْرَةِ النورِ..

لمحة عن إدراك أشكال العمائر الإسلامية ..

يُعدّ فن العمارة الاسلامية واحداً من الفنون الأكثر تفرّداً على صعيد الفنون البصرية ، فهذا الجنس الإبداعي الذي أنتجته الثقافة الإسلاميّة أحدث علامة فارقة في تاريخ الفنون عبر العصور، فقد اثبت الفنان المسلم براعته في هذا المجال من خلال تشييد المساجد ودور العبادة الضخمة ونجح في حساباتها المعقدة التي تقوم على الطرق العلمية الدقيقة في تحليل الإنشاءات المعمارية وانجازها بشكل كامل وقريب من الواقع بعناصر بنائية شامخة كالأعمدة والعقود بأنواعها والقباب والمآذن والمقرنصات والنوافذ وغيرها من العناصرالإسلامية الموظفة في الأبنية الدينية التي أضفت تنوّعاً حيويّاً على التكوينات المعمارية والزخرفية مما حقق نتائج وظيفية وجمالية وتعبيرية لتلك الشوامخ الفنية .

إن إدراك الأشكال المعمارية الهندسية وتفسيرها يفتح مجالات عديدة للتأويل لما فيها من معانٍ روحية، فضلاً عن الغموض الذي يُعدُّ صفة للشكل المجرّد ، فأشكال الفن الإسلامي تتصف بخاصية التجدد من خلال التكرار ومجاورة الأشكال لبعضها وتراكبها مما يجعل العين في إحساسها متنقلة في أرجاء العمل بغموضه من الشكل الكلي إلى الوحدات الأصغر وصولاً إلى الشكل المفرد القابل للتأويل ببساطة ، ولاشك أن عملية الرؤية تتأثر بالمجال المحيط، فاللون على سبيل المثال لا يُدرك بمعزلٍ عن الشكل والمكان والمساحة ، بل يعتمد كلٌّ على الآخر في عملية الإدراك فالعقل البشري ينظم هذه العملية من خلال رؤية الأجزاء ككل ثم ينتقل إلى التفاصيل بمجرد ملاحظتها سعياً لإكمال الصورة ذهنياً من خلال قراءة ماورائها من مضامين ابتغاها مصمم أو منفذ التكوين الفني .

 

الشيخ البهائي وعمارة الروضة العلوية المطهّرة ..

ورد عن العلامة محسن الأمين : أن الشيخ محمد البهائي (قدّس سرّه) كان يضع تصاميم المعاهد ودور العبادة والقصور وغير ذلك من الأبنية التي اشتهر الشاه عباس الكبير بإنشائها ، وهي مباني ضخمة لا تزال جملة منها قائمة ومنها عمارة الروضة العلوية المطهرة في مدينة النجف الأشرف ،وهذه التصاميم تشهد بخبرته وبراعته الفنية في فرع الرياضيات والهندسة، وقد وضع تصاميم كثيرة من تلك العمائر على أسس فنية يُستفاد منها في تعيين المواقيت الشرعية ، فضلاً عن أعمال أخرى شائعة عند الجمهور في المجالات الرصدية والفلكية .. ومما لا شك فيه أن سورالمرقد الشريف لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) القائم اليوم يرجع إلى عصر الشاه عباس الكبير، وإن الشيخ البهائي أشرف على وضع أسسه وإنشائه ، وقد صمم البهائي الحُجرات الخاصة بالصحن التي تقع على أطرافه ، وكل حجرة تقابل كوكباً من الكواكب المرئية للعلوم فطالب العلم الرياضي مثلا تكون حجرته مقابل الكوكب الخاص بالعلم... وهكذا وُضع الصحن الحيدري على نحو تتحقق فيه الإستفادة في علم الرياضيات والهندسة وعلوم أخرى ، حيث استفاد من خبرته ومعارفه الفلكية في التصميم ليقوم بواجبه الديني الشرعي على حدٍّ سواء ، ومن بديع صُنعِ الشيخ البهائي في عمارة الرّوضة العلويّة إنه صمّم شكل البناء بحيثُ يُعرف من خلاله وقتُ الزّوال صيفاً وشتاءً متى بلغ الظلّ موضعاً بعينه.

 

عنصر من عمارة الروضة العلوية المطهرة ..

الشكل أعلاه يمثل جزءاً من الجدار المحيط بالروضة العلوية المقدّسة من الداخل ، وهو عبارة عن عقد مدبَّب نُفذت على الكاشي الكربلائي الأزرق بأربع مراكز بأبعاد 3,5 متر * 1/4 ,3 متر وهو أحد الأشكال المعمارية التزيينية التي شغلت المساحات الفارغة في جدار الحرم من الداخل بين الأواوين الأربعة عشر .

نظم تقسيم المساحة الأساسية لهذا التصميم المعماري إلى أجزاء بهيأة مقتطعات من المساحة الكلية، حيث تحتوي هذه المقتطعات على تكوينات زخرفية يعامل كل جزء منها وفق نظام خاص ينسجم ومواصفات شكل وقياس الأجزاء التي تشكل بمجموعها الشكل العام للتصميم ، ويحتوي هذا التصميم على باب يتوسّطه وتعلوه نافذة ذات عقد مدبَّب وتكوين جانبي على طرفي الباب ، فضلاً عن بعض الأشكال الهندسية والنباتية ضمن المساحة الأساسية لهذا التكوين الإبداعي.

فلو تأملنا في هذا العقد لوجدنا أن إشتغالاته الزخرفية قد تنوّعت في كل جزء منه حسب مقتضيات مساحة ذلك الجزء عن غيره ، تنظيم الباب المتوسط والنافذة التي تعلوه شُغل بزخارف هندسية لخطوط متقاطعة ومتشابكة ذات  قوام أقرب للشكل المثمّن من خلال تقسيم الباب على ثلاثة أجزاء وفق تباين في المساحة الزخرفية من جزئين متماثلين علوي وسفلي، فضلاً عن الجزء الوسطي المغايرمن خلال إشغال الحيِّز الأكبر من الفضاء الأساسي للباب نتج عنه تنوّع في تقسيم الوحدات الأساسية - المربعة والمستطيلة - وتباين في الشكل والقياس عبر إشغال زخرفي يوحّد بينهما في حين تم إشغال التكوين الآخر (النافذة) بزخارف هندسية لمجموعة من الخطوط المتقاطعة من تكرار الشكل النجمي ذي الإطار الزخرفي ضمناً مع النافذة .

لو أمعنّا النظر في الشكل العام للتصميم لوجدنا إنه يضم إنشاءً مزدوجاً ضمن التكوين الجانبي للباب بزخارف نباتية  منبثقة من نقطة تقع أسفل تصميم الآنية الزخرفية على جانبي الباب والعقد المدبَّب المحتوي على النافذة وأنصاف العقود والتكوين الهندسي المعيني على وفق هيأة شكلية موحدة من حيث المظهر العام، وتتألف هذه الآنية من الفوهة وزوج من المقابض ذوات النهايات الغصنية الأحادية والثنائية الفلق والعنق المتسع من الأعلى والمستدقّ من الأسفل ، أما البدن فذو اتساعٍ من الأعلى ومتدرّج الاستدقاق نحو الأسفل ، أما أجزاء الآنية فقد اشتغلت بزخارف كأسية وأخرى زهرية وفق حركة حلزونية ملتفّة نحو الداخل تماهياً مع اشتغالات فضاء التصميم التي استغلها الفنان بأشكال كأسية وأخرى زهرية متناثرة على السطح، ولو تتبعنا  التكرار في التكوينات الزخرفية للشكل العام لوجدناه في التكرارالمماثل لتقسيم التصميم الذي أحدث توازناً بين التكوينات الزخرفية بشكل عام وحقق بذلك الوحدة التصميمية المبتغاة في العمائر والتي تنطوي على التنوّع المظهري من خلال هيأة أجزاء التصميم كما هو مميَّز بتوزيع أشكال الآنية على بعض أجزاء التصميم المعماري .

ومن الجدير بالذكر إن التصميم احتوى على عدد من التكوينات عُولجت على وفق المغايرة والمقاربة اللونية بغية إظهار معالم الشكل المعماري إذ استُخدم اللون الأصفر للزخارف الهندسية لشغل مساحة الباب والنافذة المتضادّة مع فضاءاتها النافذة التي أعطت العمق لهما ، فضلاً عن التضادِّ اللوني لتلك الأجزاء مع فضاء الأجزاء الأخرى وتوافقها مع بعض ألوان زخارف التكوينات بشكل حقق للتكوينين السيادة المظهرية الواضحة ، في حين وظف التضادّ اللوني بين التكوين الجانبي للباب الأصفر وزخارفه الكأسية الزرقاء ومعالجة فضاء الآنية باللون الأخضر الغامق وبعض من اللون الأسود  للزخارف الشاغلة لها مما أدى إلى بروز الزخارف الكأسية كأنها خارجة عن الشكل ، فضلاً عن استخدام الأزرق لمساحة العقد المدبّب والأصفرلأغصانه النباتية إضافة إلى الأجزاء ذات الأشكال الهندسية المعينية وتنظيماتها الشكلية واللونية  التي ساعدت على بروز الشكل المعماري ضمن التصميم الكلي للعقد في هذه البقعة المباركة .

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة

 

المرفقات