الماء والعباس وكربلاء... فيوضات من حب الحسين

شباك من النور .. يتوسط روضة من رياض القرب الإلهي والصفاء المطلق .. ليصبح مستقرا تزدلف له قلوب العارفين ، ومأوى لنفوس المتهجدين المريدين الذين خلوا بربهم ، آملين ان يرتووا بكاس الملاطفة الالهية ويكتسوا بنورالله وصولا لليقين بالفوز والفلاح لدى المحبوب ، متمسكين بباب من ابواب النجاة والتقرب الى الله تعالى ، ذلك غيض من فيض نعم الله على الموالين الزائرين لضريح  رمز الفداء ، اخا الحسين " عليه السلام " ووزيره وحامل لواءه يوم الطف المولى ابا الفضل العباس بن علي بن ابي طالب " عليهما السلام " .

 فما أن تطأ اقدام الزائرالمتباطئة الخطى مشارف الضريح الشريف حتى تكتحل عيناه  بآية من آيات الجمال والجلال ليقف مبهورا خاشعا امام شباك ابي الفضل " عليه السلام " الذي اتى كتحفة فنية صنعت من الذهب والفضة بأيدي امهر الفنانين والحرفيين العراقيين من الموالين المحبين لأل البيت " عليهم السلام "  والذي اكتسب " الشباك الذهبي " من المكان المطهر عظمته وقدسيته وجماله الاستثنائي .

عمد الفنان المسلم وعبر مراحل تطور الفنون الاسلامية المتعددة ، الى استخدام التقنيات والخامات المختلفة في اظهار فنه ومحاولة ارضاء ذائقة المتلقين والتأثير بهم بأختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم ، وقد شغلت الحرف اليدوية والتطبيقية حيزا كبيرا من تلك الفنون وتقنياتها ، فقد وظف الفنان الزخرفة الاسلامية التي كانت ومازالت محورا اساسيا من محاور الفن الاسلامي ليدخلها في اغلب منجزاته الفنية ، حيث نقشت الزخارف على واجهات المباني والعمائر المختلفة ونسجت بين سدى الخيوط لتزين السجاد والاقمشة المختلفة فضلا عن ، النقوش على اسطح المعادن المختلفة وتشكيلها بما يتوائم وقدسية الاماكن التي تشغل حيزا منها ، والذي يعتبرواحداً من الفنون الزخرفية المهمة التي ترعرعت في خضم تطور الفنون اليدوية والتطبيقية بشكل عام ، والذي يتمثل باستخدام الرسوم والمخطوطات المختلفة على اسطح المعادن وإحالتها لنقوش بارزة أو غائرة ، يترك إثر معالجتها أثرا واضحاً ومميزا ببعد ثالث عبر تفاوت الأضواء والظلال المختلفة .

في المصورة اعلاه والتي تمثل مشهدا لإحدى جوانب الشباك المطهر للمولى ابي الفضل العباس " عليه السلام  " ، يميز الناظر العديد من الاساليب والتقنيات الفنية المختلفة التي نفذ فيها ، والتي تمثل تجسيدا لتجمع إرث فني وحضاري يجمع بين مهارة الفنان المسلم اليوم ممزوجة بلكنة الماضي ، ليقدم صورة واضحة عن المستوى الفني الرفيع للحضارة الروحية والمادية التي بلغها الفنان المسلم في الوقت الحاضر ، فقد بلغت اليوم فنون النقش على المعادن درجة عالية من المهارة ، إذ استخدم الصناع و الحرفيون المعادن المختلفة " الذهب والفضة والحديد والرصاص وبعض المعادن المختلفة " ، كما اهتموا بالخلائط المعدنية " السبائك " للحصول على خصائص جديدة لتهيئة الصفائح المعدنية فضلا عن ، استحداث الورش التخصصية لإنتاج الأعمال الفنية كورش صب البرونز وتشكيل بعض المعادن وتطعيمها مع اخرى كالنحاس والذهب المطعم بالفضة وبعض الاحجار الكريمة وغيرها ، وهذا ما استخدمه الفنانين في انجاز مجموعة الاجزاء المكونة لشباك ابي الفضل العباس عليه السلام ، فقد استعمل الفنان انواع من الخط العربي ومجاميع من الزخارف الهندسية والنباتية بصنفيها البسيطة والمعقدة ، فكانت الأشكال مثل المثلث والمربع والدائرة وبعض الأشكال المزهرة والورقية المختلفة  ، لتنفذ بطريقة فنية منتظمة فوق شباك الضريح والسطوح الذهبية والفضية المختلفة المساحات فضلا عن ،  أن الفنان اكد حضور الشكل والحركة والثراء بالإيقاع  وما تحتله الحروف من مكانة مهمة في صياغة  النماذج الزخرفية المنقوشة على المعادن ، إذ استُخدمت بعض الايات القرانية وابيات مختلفة من الشعرالعربي التي تغنت ببطولة وايثار ابي الفضل " عليه السلام " والتي أدت دوراً تزيينياً مهما بالاضافة الى الجانب الوظيفي لها " الفكري والديني " .

وقد استُخدم في تنفيد وابراز نقوش الشباك المطهر العديد من الطرق والتقنيات الفنية ، وكان منها تقنية " الحفر او النقش المباشرعلى السطح المعدني " ، والذي يتم بإزاحة طبقات متفاوتة من سطح الصفيحة المعدنية المراد النقش عليها ويكون النقش بارزا او غائرا حسب الشكل المراد اظهاره ، كما استخدم الفنان تقنية النقش بالتطريق والذي يتطلب دقة ومهارة فائقتين للحصول على بروزات سطحية مميزة بالاشكال المطلوبة مستخدما ازاميل مختلفة الرؤوس ومطارق مختلفة الاحجام والاوزان .

كما استخُدم ايضا مجموعة من الطرق التنفيذية المختلفة في تنفيذ الاجزاء المكونة للشباك كالتخريم والتكفيت " حشوة الاحفورة بمعدن اخر كالمخطوطات " وصب المعادن المختلفة بقوالب خاصة فضلا عن ، تقنيتي التمويه والمزج الخاصتين بمزج المعادن المختلفة كالذهب ومعدن آخر اقل قيمة كالفضة اوالنحاس او تغليف وتغطية المعادن الزهيدة بأخرى ثمينة كالابواب وبعض الاعمدة المعدنية المختلفة .

ومن الجدير بالذكر ان هناك بعض المعالجات الكيميائية  التي استخدمها المنفذون لهذه التحفة الفنية  للتأثير ببعض السطوح المعدنية وترك اثر مقصود فيها كجزء من الكيان الفني للصفيحة او الخامة المراد النقش عليها ، ولاننسى استخدام المينا الملونة كاحدى طرق التزيين لبعض اجزاء الشباك فضلا عن ، استخدام بعض الاحجار الكريمة وبعض من الخزفيات المميزة اعلى اركان الشباك الشريف .

ابدع منجزوا هذه التحفة الفنية المباركة في تجسيد صورة التراث الفني الاسلامي ومزجه مع حداثوية الفن في الحاضر وتنفيذه بمزيج متعادل من العقل والوجدان ، ليصل بالزائر المحب الى ان يقف متأملا بين يدي الله متقربا بأبي الفضل "  عليه السلام  " ملتمسا رحمة من الله وشفاعة من ابي الفضل " عليه السلام " بقوله " أشهدُ أنّك لـم تَهن ولم تنكُل وأنَّكَ مَضِيتَ علـى بصيرَةٍ من أمرِك مقتدياً بالصالحين ومُتَّبعاً للنبييّن فَجَمَعَ اللهُ بينَنا وبينَك وبين رسُوله وأوليائهِ في منازِل المخُبتين فإنّه أرحم الراحمين " .

سامر قحطان القيسي

المرفقات