الخط هو فن راقٍ جداً لأنه أنفاس وروحانية طاهرة تظهر جلية في الكتابة ويستشعرها ذوو الإختصاص عن غيرهم ، ولا يُخفى ذلك عند رؤية اللوحات التي خطها المبدعون الأوائل، فقد تأسرنا أحياناً وقد تبكينا عند ملاحظتها والتدقيق بها في أحيان أخرى، لاننا نرى الأنفاس الحقيقية مع سحبات القلم ، وتموّجات الخطوط .. ولكننا حُرمنا منها في هذا العصر الذي لا يتوافق مع الصبر، فالكل يرغب الكتابة بسرعة البرق بينما أساس الخط هو الصبر على التعلم ، ولا بد أن يكون للخطاط تاريخ متدرّج مع الخط ليصل إلى المستويات الراقية وهذا لا يأتي إلّا مع التمرين والصبر عليه ...) .
هذه الكلمات صاغها الأستاذ الخطاط عوني النقاش هي توجيه جميل للخطاطين تبين أهمية الخط العربي وجماليته، مقترباً بها من تجليات الحروف الروحية التي تأخذ الأبصار وتأسر أفئدة المتلقّين، فقد سجل الحرف العربي عبر التاريخ سطوراً ناصعة خالدة على مر السنين، وكل هذا بفضل فنانين أفذاذ أفنوا أعمارهم في حفظ هذا الفن التراثي الخالد وحملوا هذه الأمانة بكل تفانٍ وإخلاص متخطين كل الصعاب من أجل أن تبقى جذوة هذا الفن متّقدة عبر الأجيال، وأبرز ممن برز في هذا الفن وأبدع وابتكر فيه وكانت له بصمة واضحة عليه الخطاط العراقي الاستاذ عوني النقاش الذي عُرف بإسلوبه الرائع والمتنوّع في مخطوطاته وزخارفه الفنية.
ولد الخطاط عوني عادل عباس النقاش في مدينة كركوك عام (1961)، وأقبل على حفظ القرآن الكريم منذ صغره حتى بلغ الثامنة عشرة من عمره، وبسبب تولعه بحروف القرآن وانشغاله المستمر بالتركيز على حروف النسخ للمصحف والتدقيق بجمالية الحروف وكيفية كتابتها فقد كان قليل الحفظ مقارنة بزملائه حتى بدأ بتعلم الخط العربي عام (1980) معتمداً إحدى كراريس الخط العربي لشيخ الخطاطين الراحل الأستاذ هاشم البغدادي ، وتطوّرت مخطوطات النقاش من خلال تجاربه المدعومة بالصبر وسعة إطلاعه على الكثير من المخطوطات التراثية لكبار الخطاطين العرب والأتراك حتى أسس مدرسة خاصة به لتعليم الخط في مدينته كركوك عام (1991) ، هدف من خلالها توسيع مدارك محبي الخط العربي ونشر تلك الثقافة الفنية والإرتقاء بها إلى أعلى المستويات .
شارك أوغلو في الكثير من المعارض الفنية على الصعيدين المحلي والدولي وحصل على العديد من الجوائز التقديرية عن إبداعاته الخطية المتنوعة بين خطوط الثلث والنسخ والاجازة والديواني والديواني الجلي والرقعة ، فضلا عن كتاباته للحلي الشريفة بأحجام واشكال مختلفة .
اللوحة أعلاه هي من إبداعات هذا الفنان وقد صِيغت بتركيبة دائرية زخرفية تحيط بآية الكرسي المباركة المكتوبة بخط الثلث والتي تحتضن وسطها تركيب دائري آخر من مخطوطة دائرية أخرى أصغر حجماً بما تيسّر من فاتحة الكتاب التي يتوسّطها أحد اسماء الله الحسنى " العظيم " والذي عُدّ كمركز بصري لهذا التكوين الفني الرائع .
اعتمد النقاش المقومات البنائية لحروف الثلث من خلال طريقة توزيعه للكتل الخطية على محيط الشكل الدائري من الداخل بشكل متساوٍ لخلق موازنة شكلية في التكوين العام للوحة ، مما يوضح إمكانية حروف الثلث وقابليتها للتشكل ويعطي الخطاط حرية التصرف بطريقة رسم الحروف من الجانب الفني وإخراجها بهيئات يمكن أن نعدها هوية للمدرسة أو الخطاط نفسه الذي يملك الإجادة الفنية اللائقة لحروفه الرشيقة ، ويمكن أن نعد كل تلك الجوانب والمرتكزات من الخواص الفنية لخط الثلث والتي أهلته لأن يبدع في هذه الجوانب والصفات ، فضلا عن إمكانية الفنان وخبراته الخطية التي لم تولد من العدم .
من جانب آخر نجد أن هذه التشكيلة الخطية تتصل مع الشريط الزخرفي المحيط بها من الخارج الذي تكررت وحداته الزخرفية شكلاً ولوناً، إذ تألفت الوحدة الزخرفية فيه من مجموعة زخرفية نباتية منتظمة بأغصان نباتية متصلة فيما بينها تربطها أنواع مختلفة من الزهور والوريقات الذهبية مختلفة الأشكال والأحجام وبأرضية سوداء تكاد تكون من صياغات المينا للمشاهد، فيما يلاحظ المتلقي أن الخطوط الخارجية للتكوين الزخرفي قد انتهت بنتوءات خطية سوداء كأنها رؤوس الأقلام والتي تناغمت مع مجموعة الخطوط والألوان المحمولة على هذا التكوين الزخرفي الرائع .
ومن الجدير بالذكر أن هذه التحفة الخطية قد توضّحت ملامح بنيتها التنظيمية من خلال التناسق ودقة التصميم التي أعطت انطباعاً عن البعد الروحي للإسلام وكلمات العلي القدير ، لاسيما وان خاصية ملء المساحات بالزخارف كانت تشّكل قاعدة أساسية في منهج المزخرف الاسلامي ، فالتشكيل الزخرفي الذي اعتمد على عملية صياغة جدية للعناصر الخطية واللونية والشكلية والحجمية وعلى أسس الوحدة والتناغم والتوازن والسيادة والتكرار أسس بالأخير منحىً جمالياً واضحاً من خلال طبيعة التجريد الحقيقية للحروف والأشكال الزخرفية النباتية والهندسية المرافقة لها والتي لامست جوهر الرؤية الجمالية للفن الاسلامي .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق