مداد يسمو بالكلِم الطيب ..

لعل الخط العربي هو الفن الوحيد الذي لازال يمثله أناس من مختلف أقصاء المعمورة في العصر الحديث ، ونرى ذلك جليا فيما ينتج عنهم من آثار فنية خطية تفوق بجمالها وتأثيرها ما أبدعه القدماء من أجيال الخطاطين ، الذين لطالما تباروا في إبداع أجمل الخطوط وابهاها حتى أخذت مسألة الجمال والذوق حيزا كبيرا فاق الالتزام بقواعد الخط المحددة من قبل .

 استطاع الحرف العربي وعلى مر الازمنة  أن يحلق بجناحيه إلى أبعد الأفاق وأن يحقق في هذه الرحلة نجاحات مذهلة  ، فقد تثاقف مع الأمم الاخرى شرقية وغربية وبأطار واسع ، وحل فيها ضيفا عزيزا ليظهر بحلة جديدة ، أبدع فيها رجال من غير العرب مدوا ايديهم لهذا الحرف بصدر رحب وعشق منقطع النظير ، وابدعوا في رسمه وتكوينه في مخطوطاتهم حتى نسي بعضهم الكتابة بحروف حضارته الاصلية ، كما حصل لكثير من فناني الشرق الاقصى في الهند وباكستان وايران وغيرها من دول الشرق حينما ابدعوا باستحداث اساليب جديدة طوروا فيها الخط العربي ومزجوا بينها ليبدعوا بانواع مستحدثة من الخطوط نالت استحسان المتذوقين لها ، كما هو الحال في الابداعات الاخاذة الناتجة عن مزج خطي النسخ والتعليق ليتكون هجين بينهما يدعى " خط النستعليق " .

ظهرخط النستعليق بادئ الامر في إيران في الحقبة الزمنية المحصورة بين القرنين الثامن والتاسع هجريين ، وكانت اولى مخطوطاته من ابداع الخطاط الايراني " ميرعلي التبريزي " حينما دمج بين خطي النسخ والتعليق ، وقد لاقى هذا الاسلوب انذاك قبولا واسعا حتى اخذ بالانتشار والتطور السريعين في ايران ودول اخرى ،  ليُطوع فيما بعد لتطبع به الكتب والمنشورات على يد استاذ الخط الايراني  " میرزا غلام رضا اصفهاني " ، مما ساعد على انتشاره بشكل اسرع واعم ، فقد انتشر هذا الخط الجميل  منبثقا من بلاد فارس الى دول اسيا بشكل عام ، وبشكل خاص في تركيا وأفغانستان ، كما أنتشر في جنوب شرق آسيا في دول الباكستان والهند وبنغلاديش وخاصة في كتابة اللغتين الفارسية والأوردية ، فضلا عن استخدامه في الكتابة العربية حيث يستخدم بكثرة في كتابة عناوين الكتب والمجلدات والايات القرأنية و الامثال والحكم المهمة .

المخطوطة اعلاه احدى التحف الفنية التي انجزت بخط النستعليق للآية " 9 " من سورة يس المباركة (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ) ، والتي تظهر متواشجة مع تكوين زخرفي زهري الهيئة داخل حدود اللوحة الافقية ، وهي من ابداعات الخطاط الايراني المبدع " مجتبى سبزه " .

أُلهم الخطاط " مجتبى " ليبدع في فنه المميز ، من خلال متابعته لكبار ورواد الخطاطين والمزخرفين منذ طفولته الاولى ، مما ساهم بتطوير ملكته الفنية بشكل سريع ، فقد ولد وترعرع في مدينة مشهد المقدسة بايران ، ولاقى التشجيع من والده لتنمية ولعه وحبه للخط واساليبه ، فضل متابعا مجربا لدراسة الخط العربي ،  حتى تتلمذ على يد الخطاط الايراني الاستاذ رسول مرادي ليجتاز اغلب اختباراته حاصلا على الامتياز كأصغر استاذ للخط في ايران ، له العديد من المشاركات في المحافل المحلية والعربية والعالمية وبمعارض شخصية واخرى مجتمعة .

تحمل اعمال الفنان سبزه بشكل عام هيئة جمالية عالية ، فخطوطه مميزة بعرض الخط الذي يتراوح بين 2-4 سم وهي احدى التقنيات الكلاسيكية للخط الايراني التي استطاع توظيفها لخط النستعليق ، فضلا عن استخدامه لاقلام الخط المصنعة بيده من القصب السميك والرفيع ، ومحاولة اصابة المشاهد المتأمل لخطوطه بالدهشة  من خلال ايضاحه المقصود لحركة القلم ومسيرة الحبر من تحته على الورق ، صعودا ونزولا باتجاه الاحرف ، غاية لاتمام هيئة الحرف على اكمل وجه ، فضلا عن محاولته الجادة في ايصال فكرة رسم الحرف الى المتلقي كونه استاذا معلما للخط وفنونه .

لخط النستعليق قواعد واضحة للكتابة مثل بقية الخطوط المشرقية الاخرى على الرغم من طواعيته العالية للتركيب والتحوير ، فهو يتميز بمرونته في تنسيق اماكن الاحرف والكلمات بما يلائم اجواء اللوحة لتبدو بعضها أكثر ارتفاعا من جهة دون الاخرى ، فالجهة اليمنى مثلا ترتفع عاليا في اللوحة تنحدر قليلا نحو اليسار او العكس كما فعل مجتبى في هذه اللوحة التي تميزت ايضا كبقية اعماله  " بخط النستعليق "  بالإعجام الذي بدا واضحا حيث لم يعمد  الفنان الخطاط  إلى دمج النقاط إلى بعضها البعض في اغلب المواطن التي وقعت فيها  بين الحروف ،  لتبدو الكلمات منسجمة القوام و بشكل مميز جدا كمحصلة لابداع فريد يحاكي الجميع .

 

سامر قحطان القيسي

الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة