روحانية الحروف ببهاء زخرفي

 يمتلك الخط العربي جمالية استثنائية تستبطن روحانية مستندة إلى علاقته بكلام الله عز وجل في القران الكريم ، ولن يختلف اثنين على ذلك كون الخط العربي هو خط مطواع نستطيع من خلاله أن نبدع أشكالا ورسوم إبداعية منقطعة النظير ، وهو بذلك يتلائم ومفهوم الإبداع الذي يستند إلى التجديد والاختلاف والتمايز بين مبدع  وآخر ، فضلا عن ان هذا النوع من الفنون ( الفن الخطي ) يتطلب موهبة وتدريب متواصل ودراسة مستفيظة  لقواعده وأنواعه وما له من صلات  بالإبداع التشكيلي ، اضافة الى سعة الاطلاع على المنجزات الفنية المشابهه ، للاستفادة من لوحات المبدعين الآخرين لاثراء الملكة الخاصة بالفنان في هذا المجال .

 ينطلق اغلب التشكيليين الحروفيين من رؤية إبداعية خاصة بهم نجدها تتجلى في لوحاتهم وتكسبها خصوصيات لها علاقة بلمسات المبدعين ، فهم في الغالب  يستغلون وجه اللوحة استغلالا متزنا يجعل مفرداتها متعانقة ومتكاملة في تشكيل النسيج الإبداعي للوحة وبتوزيعات هندسية خاصة لا مجال فيها للعفوية ، فكل مافي اللوحة مدروس  يتم بعناية ودقة متناهيتين حروفاً وترْكيباتٍ وألواناً وتوزيعا للضوء ، فكانهم يعملون عملا اخراجيا ، وهذه اللوحة احدى اللوحات الحروفية المتميزة للفنان العراقي الراحل ( جميل حمودي ) احد رواد الفن التشكيلي العراقي وأحد اهم مبدعي الفن الخطي او الحروفيات ، ولد  في بغداد عام 1924 درس في معهد الفنون الجميلة ببغداد وتطور في اختصاصه حينما سافر إلى باريس عام 1947 في بعثة حكومية لدراسة الفن ، مارس الفن والكتابة وشارك قي أكثر المعارض الوطنية العراقية  داخل و خارج العراق ، له دراسات وبحوث ومقالات فنية منذ الأربعينيات من القرن المنصرم حتى وفاته .

   تميزت تجارب الفنان الأولى بانها مضطربة و كان يسميها بالسريالية ولكنها تقترب من الرمزية اكثر في معناها الأدق وقد تحول منذ بدايته من الاتجاه الرمزي إلى التجريدي الخالص ليستعمل الألوان البراقة في رسم معالم المدينة ومآذنها وقبابها مستفيداً من الحس البيئي لتحقيق القيمة التراثية المحلية والموروث الديني .

 لجأ  الفنان إلى الحرف العربي في رسومه خلال وجوده في باريس خوفاً من انجرافه في متاهات الواقع الغربي بعيدا عن روحية الحضارة العربية  ، في نهاية عام 1970اسس جميل حمودي مع مجموعة من الفنانين تجمعا فنيا اطلق عليه ( تجمع البعد الواحد ) حمل شعارا ( الفن يستلهم الحرف ) وبهذا كان الحرف ملاذه الوحيد للتأكيد على أصالة الروابط الحضارية والثقافية لوجوده كرد فعل ضد حضارة المادة وثقافتها التي اجتاحت أوروبا بشكل عام انذاك.

 تحمل اغلب لوحات الفنان الخطية مسحة روحية تميز تجربته المكتسبة عبر خبرته الطويلة في فنية رسم الحرف باستقاماته وتموجاته ومعانقته للحروف الأخرى ، وذلك ضمن تقنيات متميزة و منفردة ، وأداء رائع متميز ليبحربالمشاهد في روحانية الحرف العربي ليخرج إلينا بلوحات تنبض جمالا بتناغمات لونية شكلية  تحترم الكثير من المعايير الجمالية والتقنيات المناسبة .

  في هذا السطح التصويري الحروفي يقترب الفنان من اسلوب المدرسة التكعيبية ونلمس ذلك بوضوح في تجزأته للحروف المرسومة كاجزاء لونية مكعبة الهيئة مستخدما مزيجا من الالوان الحارة والباردة وباطياف مختلفة ،  وبلكنة شرقية باستخدامه قيمة اللون الشرقي كالأزرق والفيروزي والأحمر والأخضر والبنفسجي المضىء والرمادي والرصاصي التي من شأنها ان تذهب بالمشاهد الى اعماق نص معماري مقدس ، حيث يترجم اللون الأزرق واللازوردي المعطيات الجمالية للفن العربي الاسلامي .

استخدم الفنان  تقنيات مختلفة في صناعة هذه اللوحة فتارة استخدم العجينة العالية في اسقاطات اللون واخرى مسحات لونية مبسطة فضلا عن استثماره لفضاء اللوحة بأن يكسب تلك الحروف ارضية وعمقا وجوديا حتى يتراءى للمشاهد اكثر من عمق في اللوحة فضلا عن استغلال الفنان لطراوة وصلابة الحروف العربية معاً كقيمة مضافة ، مما اعطانا حساً مادياً كثيفاً حين مشاهدتها واصبحت المناخات المحيطة بالحرف ( ارضية اللوحة وفضاءها ) عوامل اثقال جمالي دعا الفنان من خلالها الى فهم التراث العربي الاسلامي بصورة واعية لينتقل من إدراك الشكل الحروفي إلى تحليل المحتوى والمعنى بكل جوانبه الروحية من خلال ربط الآيات الكريمة والكلمات والاحاديث مع الاشكال والمجسمات الدالة على الاشكال المتنوعة كأن تكون الاشكال ادمية حية  او جامدة كالعمارة الاسلامية من قباب ومأذن ومحاريب وغيرها .

امتلك جميل حمودي القدرة على التفنن إزاء رسم الحرف متسقا مع غيره ومع الاتجاه التقني والجمالي المختار للوحة ، وذلك ضمن تنسيقات بديعة وأشكال توحي بالحميمية والانسجام والتعاطف في لوحات خطية وتشكيلية متكاملة المعطيات مما ينم عن المهارة والحذق في رسم الحروف وفق رؤى إبداعية تحمل ابتكار وتفنن صاحبها ، وبهذه السمات تصيرلوحاته ينابيع للمتعة البصرية والروحية المعمقة للشعور بسمو اللغة العربية وما يكتب بها من المعاني الإنسانية الراقية.

  

سامر قحطان القيسي

المرفقات