طريق إلى قبة الصخرة

 إحتل بيت المقدس حيزا واسعا من فكر العالم العربي والغربي بكل تكويناته  الدينية والسياسية ،  وذلك لما يحمله من أهمية تاريخية دينية وثقافية وقومية على مر العصور، فقد عاشت هذه المدينة وهي تحمل ارثا ثقيلا لثلاثة اديان متعاقبة ، ختمها رسولنا الاعظم محمد " صلى الله عليه وآله " يوم اسرى الله به برحلة الاسراء والمعراج المباركة ، لتكون موطئ المعراج الشّريف و محطا لإعجاز الهي في مسار الدين الاسلامي وباقي الاديان الاخرى ، ومنارا انبثقت منه الكثير من الدراسات والوثائق التي ترجمت ذلك التراكم التأريخي بلغات وصيغ مختلفة ينبع منها وعي لأولى القبلتين في الاسلام وتأريخها المرتبط بالاديان الاخرى .

بطبيعة الحال فالفنون كلغة انسانية روحية بتنوع اقسامها كانت احدى تلك اللغات السامية التي وثقت وترجمت واقع القدس وحياة تلك المدينة وسكانها بإختلاف اطيافهم ودياناتهم ، والفن التشكيلي كلغة حسية كان ومازال يعتبر من اهم اللغات المتداولة بين شعوب العالم ، كون الفنان التشكيلي يعتبر من أكثر الناس حساسية بمحيطه وقضاياه الانسانية ، سواء بما يمتلكه من إمكانات ثقافية وقدرات فنية  او بما يحمله من توجهات ورؤى فكرية سياسية وعقائدية  يحتمل ان يكون عاجزا عن التعبيرعنها قولاً او كتابة ، لكنه ممكن ان يكون من خلال ترجمة تلك المشاعر الى لوحة يسقط فيها خبراته الفنية بالرسم والتشكيل بحرية تامة ، فما كان الا ان أنتجت الكثير من المنجزات الفنية التشكيلية التي تناولت موضوعة بيت المقدس بجوانبها الدينية والسياسية والاجتماعية في آن واحد .

اللوحة اعلاه احد تلك المنجزات الفنية المذكورة آنفا ، وقد رُسمت عام  1886م باسلوب واقعي ، بتقنية الزيت على قماش الكانفاس ، وهي تحمل توقيع المستشرق الالماني الفنان التشكيلي " غوستاف باورنفايند " ، وهو كما معروف ، كان رساما ومهندسا معماريا عرف برسومه ولوحاته الفنية الواقعية  ، ويعتبر من أشهر الرسامين في ألمانيا ممن رسموا لوحات الشرق العربي ، ويعد احد ابرز الفنانين الذين اهتموا بنقل الواقع العربي الاسلامي للغرب من بعد الفنان الفرنسي " جان ليون جيروم  " ، وقد كان مولده عام 1848 في احدى المدن الالمانية ، حيث درس الهندسة المعمارية وتعرف على الرسم وابدع فيه خلال عمله بتصميم الرسوم الهندسية المعمارية حتى انتقل إلى الشرق الأوسط لتكون بداية رحلته الفنية الاستشراقية التي وجد فيها ما يحاكي موهبته ويطورها .

استقر باورنفايند بمسكنه في مدينة يافا الفلسطينية حيث تزوج ، ليسافر منها متنقلا بين بعض الدول العربية الاخرى مما ترك اثراً عميقاً في نفسه ، وهذا مانلمسه من خلال اعماله الفنية وماتضمنته من محاكاة للطبيعة العربية و واقع الحياة اليومية للشارع العربي انذاك ، واستمر بذلك حتى وافته المنية عام 1904م .

هذا المنجز الفني الرائع انجز بايقاع وجداني مميز، عكس فيه الفنان ايمان روحه المحبة للشرق الاسلامي ، محاكيا من خلاله المشاهد المتأمل بلغة تحمل معان لتجليات واضحة لعمق المكان الديني والاجتماعي انذاك ، فقد شمل المشهد احد بوابات الازقة المؤدية الى باحة بيت المقدس ، والتي يظهرمن خلالها قرابة ثلثي قبة الصخرة الشامخة المكتسية بحلتها الاسلاميه كأول رائعة لفني العمارة والزخرفة الإسلامية فضلا عن ، المداخل المتعددة على شكل اقواس والمرفوعة بأعمدة الرخام التي كانت ولازالت اجزاء منها  تمثل الجدار الخارجي المحيط بمسجد قبة الصخرة .

رسم الفنان اللوحة بدقة واحساس عاليين ، بارزا فيها حضورا قويا للمكان بقدسيته الدينية ، حيث عمد الى رسمها بشعوره المتأرجح بين عاطفة المحب للمكان واحساسه بروح المدينة الذي حاول مزجه بثقافته الاوروبية المسيحية ، لينتج بالمحصلة لوحة ذات كيان شرقي مستقل وحضور مميز تتبادل اطراف الحديث مع المتلقين بلغة الاتصال التشكيلي التي انتقاها الفنان لتكون ذات قدرة تجسيدية مميزة لواقع مميز من مدينة القدس .

يميز المتأمل للوحة ان الفنان اهتم بالتفاصيل الدقيقة لعناصرها من شخوص وتكوينات عمرانية مختلفة حيث ابرز ملامحها الدقيقة  من خلال تحكمه المميز بالألوان ودرجاتها واختلاف حدتها المتفاوته بين الحارة والباردة ، فقد ركز نظر القارئ نحو مركز ثقلها المتمثل بقبة الصخرة وباحتها التي ميزها بأن اعطت عمقا منظوريا دقيقا للوحة بفضاءها المتمثل بالسماء وزرقتها النقية وايضا قيمة الضوء العالية المنعكسة من اعلى القبة لعين المشاهد وايضا بعض من اشجار الصنوبرذات اللون الاخضر القاتم ، ولايخفى على المتلقي تحكم الفنان وبراعته بالظلال في مقدمة اللوحة ، فبرسمه المتقن للقوس المحتضن لبوابة السوق او مدخل الزقاق ، كثف اشتغالاته الدقيقة البارعة كمعماري في اعطاء قيمة لونية لكل شخص من شخوص وسط اللوحة وكل حسب موقعه من مسقط الضوء وحركته وسكونه فضلا عن ، دقته في معالجة اشكال والوان الابنية وابوابها ذات الطابع العمراني الاسلامي المزين ببعض من آي الذكر الحكيم مثل " ادخلوها بسلام امنين " وسط البوابة الخشبية الواضحة للعيان .

اكتسب هذا العمل الفني اهمية استثنائية عن باقي اعمال الفنان غوستاف فقد برع في تغليب فكرة تعددية الاديفي القدس فلو لاحظنا متأملين شخوص اللوحة في الوسط لوجدنا ان الفنان شرع برسم عدة شخوص وميزها بازياءها وهيآتها المختلفة على يسار اللوحة ووسطها ويمينها ، فيبدو انه حدد شخصيات تتسم بصفات شكلية تقترب من العرب المسلمين الى حد كبير ، وايضا نجد مجموعة من الشخصيات  يميز المشاهد ان بعضهم يحملون هيئة اليهود فضلا عن بعض الشخصيات لنساء موزعات في الوسط ايضا اللوحة تقترب هيآت بعضهن الى المسلمات بعباآتهن واخر يقتربن من الهيئة المسيحية الكنائسية بلكنة شكلية مميزة .

سامر قحطان القيسي

المرفقات