أنيس لأهل الدنيا وضمان للنجاة في الاخرة

من المعروف أن الإمام علي بن موسى الرضا " صلوات الله وسلامه عليهما " كان يسمى بـ  " ضامن آهو " اي بمعنى ضامن الغزال ، حيث ان " آهو"بمد الالف تعني الغزال باللغة العربية ، ويعود أصل هذه التسمية الى ان الامام الرضا " علیه السلام " صادف يوما صیادا وقعت فی شراکه غزالة وکان ینوی قتلها ، فلاذت مستجيرة بالامام الرضا لتكلمه کلاما لم یفهمه غیره ومفاده انها طلبت من الامام ان یاخذ لها مهلة من الصیاد لتذهب لصغارها وتطمئنهم وتدرأ عنهم الخوف والجوع ، لتعود للصياد ویفعل بها ما یشاء . فأخبر الامام " عليه السلام " الصیاد بالامر ولم یکن الاخير یعرف مقام الامام الرضا " علیه السلام " فاستغرب وضحك ..اذ کیف یمکن للغزالة الحديث مع البشر ؟ وإن يكن ذلك ، فكيف لها ان تعود بعد ان یطلقها فهـذا محال ..حتى خاطبه الامام من جدید وقال له انه سیضمن الغزالة وسیکون اسیره حتی عودتها ، فأقتنع الصیاد واتخذ الامام " سلام الله عليه " اسیرا بدل الغزالة ، وماهو الا وقت قصير واذا بالغزالة قد عادت ومعها صغارها ، فصعق الرجل والتفـت الی الامام متسائلا عمن يكون هذا الرجل ؟ وعندما عرفه اطرق رأسه الى الارض معتذرا واطلق الغزالة وصغارها اکراما لوجه الامام " علیه السلام " تاركا مهنة الصيد بلا رجعة .

 وثق التأريخ هذا الحدث العظيم ككرامة من الكرامات التي خص الله بها امامنا علي بن موسى الرضا " عليهما السلام "، فهناك من تغنى بها بأشعاره وكتاباته ، وآخر وثقها بلوحات فنية وبأشكال وتفاصيل دقيقة ومعبرة امثال الفنان التشكيلي الدكتور محمود فرشجيان ، و اللوحة اعلاه احدى تلك الوثائق الفنية الصورية التي جسدت هذه الكرامة العظيمة ، والتي أتت ضمن سلسلة التحف الفنية التي انجزها الفنان الايراني الدكتور " محمود فرشجيان " رائد فن المينياتور " المنمنمات "  عام 1980م ، وقد اتت اللوحة بابعاد 72.5 * 101.5 ، ورسمت بتقنية الوان الاكريلك على الورق المقوى وأعطاها خصائص لوحة التشكيل الفني الحديث وفق مزيج من قواعد المنظورالغربي والشرقي فضلا عن التقنيات اللونية التي تميز بها اسلوب الفنان دون غيره .  

لا يخفى ما لفرشجيان من دور كبير في اثراء ساحة الفن التشكيلي وخصوصا في فن المنمنمات ، فقد تمكن بواسطة عبقريته وتحرياته العلمية من إثراء هذا الفن التراثي دون المساس بأصالته من خلال التطور الاسلوبي والحفاظ على التقنيات الجمالية الخاصة بهذا الفن دون غيره ، فقد اتسمت الأعمال التي قام بها بالدقة و الصبر و ثبات اليد في التنفيذ، فضلا عن الشاعرية و الحس الجمالي في التعبير وحسن انتقاء الألوان ، حتى اكتسبت اعماله شهرة عالمية وعرضت أعماله في كافة أنحاء المعمورة وتم اقتناء وحفظ العديد منها في عدة متاحف ذات شهرة عالمية مؤكدة.

حاول الفنان جاهدا أن يحمل إنجازاته علامات الإبداع و الفخر والعظمة بعيدا عن الطرق التقليدية و القديمة للمنمنمات و زخارف المدارس الفارسية والتركية والعربية ، فقد وضع فرشجيان أسس تطورية جديدة لمدرسة المنمنمات و له الفضل الكبير في تكوين العديد من أجيال تلاميذه الحاملين لفن المنمنمات و الذين تمكنوا بموهبتهم من الرقي إلى سلم الشهرة و المحافظة على ذلك الفن  و إثرائه.

في هذه اللوحة صور الفنان احداث المشهد وكل شيء فيه ينتهي عند شخص الإمام " عليه السلام " فقد جعل منه مركزا سياديا للعناصرالمكونة  للوحة ، فجميع الخطوط و الانحناءات الممثلة لشخوص اللوحة تتجه بحركة اشبه بالدائرية نحو الامام "عليه السلام " ، وقد صوره وهو جالس في مكان عالٍ و كل شيء يرى في الأسفل منه تكريما له ، ومن المميز في هذا المشهد هو وضوح جزء من ملامح وجه الامام " عليه السلام " ، ففي السابق وكما هو متعارف عليه في رسم المنمنمات ، اذا اراد احد الفنانين أن يرسم وجه المعصوم من الائمة " سلام الله عليهم " ، كان يضطر أن يضع ستاراً على وجهه أو أن يرسم إضاءة نورانية تغطي ظاهر الوجه اكراما لهم ولقدسيتهم " عليهم السلام "، و لكن هذه اللوحة كانت تقتضي أن ترسم من الأمام ،  لذا اقتضى تغطية الوجه المقدس بهالة ضبابية بيضاء يميز الناظر جزءا من ملامحه المتخيلة من قبل الفنان ،  فضلا عن ان المشاهد  يلاحظ ملامح وجه الغزالة الراكعة عند قدمي الإمام وهي تعبر عن الفرح و الاحترام والخشوع في نفس الوقت.

اما اختيار الوان اللوحة فيتصل بشكل وثيق بطريقة التعبير المقصودة من العمل فعمد فرشجيان كعادته الى ان يخاطب العين بجمال ألوانه ، فأنتقاءه الفنان للألوان كان متفاوتا بين الوان الأحمر والأصفر والزيتونى والبنى مع العناية الفائقة بالأزرق السمائي الزاهي بدرجات متفاوتة حتى احيل الى ضوء في بعض مواطن اللوحة  وإعطاء مساحات لونية مختلفة باختلاف شخوص المشهد وحركتها وقربها من الامام " عليه السلام " ، مما ساعد على إغفال المنظور بالمقياس الغربي للفنون " كما هو متعارف عليه في رسوم المنمنمات " ، فاللوحة تبدو أمام الناظر كأنها قطع أفقي يجعلك تتردد في التعامل معها بالبعد الثالث الذي يعطيك العمق " المنظور " ، فالتسطيح الذي استخدمه الفنان يعمد إلى نوع من التجريد بإغفال التشريح الواقعي لحركة الأجسام كما نراه في فنون الشرق القديمة التي تتصل بطريقة التعبيراكثر منها للشكل ، ولا يكون ذلك الا  بالتحضير الكامل للموضوع المراد رسمه من دراسته تأريخيا وجمع كل ماهو متعلق به من قريب او بعيد ليضفي عليه في المحصلة الدقة المطلوبة في نقل تفاصيل الحدث المطلوب توثيقه كما هو الحال في نقله لاحداث هذه الرائعة الفنية وتجسيده لواقعة ضمن الغزال لنور الكون السلطان مولانا أبي الحسن علي بن موسى الرضا " عليهما السلام " .  

سامر قحطان القيسي

المرفقات