حفل التأريخ الاسلامي بالكثير من التضحيات والفداء بالوقوف ضد قوى الظلم والاستبداد ، ولكن لم يشهد مثيلا لقضية استشهاد الامام الحسين بن علي " عليهما السلام " ومعيته ، فهي الشهادة الاكثر شموخا وعمقا وأصالة عن سواها ، لما تحمله وبجدارة نادرة من قيم الإباء والكبرياء والتوق إلى الحرية ورفض كل مظاهر الذل والعبودية وقيودهما ورفع كلمة الله وجعلها العليا باختيار التضحية بالنفس عن طيب خاطر وقناعة إيمانية راسخة لاتعرف طريقا للمهادنة مع تلك القوى الشريرة رغم امكاناتها وجبروتها .
فهي ثورة إنسانية لكل حر حيثما يحل الظلم والجور ، بل هي بحق قمة الصراع بين الإنسان المرتبط بخالقه والسائر على نهج الحق التي أوصت به الشرائع السماوية ضد كل قوى البغي والفساد والأنحراف التي تريد أن تجعل من هذا الأنسان الذي كرمه الله آلة مسيرة صماء تستمرئ الذل والخنوع والهوان ، وتتحرك بالإتجاه الذي يرسمه الحكام المستبدين ممن احقوا لنفسهم سفك الدماء وشن الحروب وزج الشرفاء في المعتقلات وطواميرها ، ولا يحق لكائن من كان أن يعترض على مايرتكبه من آثام وظلم واستبداد .
تمثل هذه اللوحة مشهداً تعبيريا رافضا للواقع المريرالذي عاشه الفرد العراقي في زمن اعتى الطغاة الحاكمين من احفاد بني امية " لعنة الله عليهم " ، وفيها نرى جليا اشارات واضحة لصدى نداءات الذات القلقة التي تبحث عن الاستقرار والحرية ، فضلا عن مصير الانسان الممزق الذي يتحدى الصعاب من خلال صرخته بوجه الظلم والجبروت لأعلاء كلمة الحق .
اللوحة من انجاز الفنان التشكيلي العراقي " حسن حمزة شاهر " مسؤول شعبة المرسم الحسيني التابع للعتبة الحسينية المقدسة في كربلاء ، انجزها عام 2013م بتقنية الزيت على قماش الكانفاس ، بابعاد " 120سم × 100سم " .
تناول الفنان في مضمون هذا المنجز الفني أفق محتدم بالتداعيات والتضادات بين السلطة المستبدة التي حكمت العراق طيلة ثلاثة عقود من الزمان واكثر ، وبين المجتمع على اختلاف اطيافه وانتماءات افراده وثقافاتهم ، فأنتجت هذه المواجهة بين ضدّين متنافرين، احدهما السلطة المستبدة بنهجها سياسة القمع الهمجي ، والآخر المجتمع العراقي بأطيافه المتنوعة وتهيئة الهيكلية الفكرية التي تصبوا لصهره بما يخدم رؤى السلطة وأهدافها التي تضع افراده بمنزلة الأداة التي تعمل لتحقيق أطماعها ومكاسبها الغير مشروعة .
ولكن هيهات .. فقد أثبت الشعب بصبره ومواقفه البطولية وعلى امتداد تاريخه، أنه لا يمكن أن يكون أداةً تحرّكها الأمزجة والنظم الاستبدادية ، ولا يمكن ان يرعبه صوت السلاح وبطش الطغاة " وإن نال من بعض أجسادهم النحيلة ورسم على ادمتها بشتى الوان العذاب " ، بل ارتفع صوته عاليا بـ " لا للجبروت والظلم " ، حتى كتبها بدماء شهداءه على أسفار التاريخ لتبقى تلك الصرخة مدوية تتناقلها الاجيال جيل بعد اخر .
عمد الفنان في هذا المنجز الفني الى انتقاء الالوان والاشكال بما يتواءم وحدث اللوحة، فانطلق من الارضية او الفضاء الذي يتمحور عليه العمل ليميزها باللون الصحراوي البارز و كأنه طلاءا كثيفا ينساب من على الجدران ، يشوب اطرافه السواد الممزوج بحرفية بتدرجات من البني الغامق والفاتح ، ليعطي للوحة عمقا منظوريا للاشكال والعناصر المكونة للوحة ، وليمثل بذلك البيئة التي تحتضن الانسان أو الفواجع والآلام التي سقط في احضانها في هذه الفتره العصيبة، اما اللون الاحمر الواضح للعيان والمتمثل بكلمة " لا " فقد اضاف قيمة اخرى للوحة ، فهو مثير من خلال وجوده المدهش في وسطها ، ليمثل حسب بعض الاراء الفنية صرخات استغاثة او خطرعارم قد يتعرض له الانسان ، اما الخط " لا ككلمة " فقد اكسب العمل الفني القوة في الاداء والاثارة لدى المتلقي ، مما زاد من القصدية الكاملة وراء هذا العمل ، ليصبح للخط قيمة في توضيح الابعاد الفكرية للوحة فضلا عن الجمالية لما فيه " الخط " من دلالات للقارئ المشاهد ، اما اللون السمائي والاسود فيمثلان جو اللوحة العام اللذان مثل بهما الفنان التضاد بين سطوة الشر والجبروت وصوت الحق الذي لايعلى عليه ، اما اللون البرتقالي المصفر فقد مثل السنة من النار المستعرة تحيط برمز الشر والجبروت التي كانت وستظل مصيرا محتما لكل طاغية جائر .
نجح الفنان " حسن حمزة " في طرح فكرة هذا العمل الفني وفق احداث واقعية ، فقد عبر من خلال رؤيته الفنية الخاصة عن الشخصيات والاحداث برموز إيحائية تنطوي على أبعاد وآفاق تمتد لمواقف وأحداث متجذرة بعمق تاريخ العراق الحافل بصولات الغيارى المدافعين عن فكرهم العقائدي والديني والحفاظ على القيم الانسانية النبيلة المستمدة من فكر اهل البيت " سلام الله عليهم " .
سامر قحطان القيسي
اترك تعليق